مع أولى زخات الأمطار الموسمية في الهند وجنوب شرق آسيا كل عام، يظهر أحد أنواع الضفادع في مشهد لوني لافت للنظر. ففي غضون دقائق قليلة، يتحول لون ذكر الضفدع الآسيوي الشائع، المعروف علميا باسم "دوتافرينوس ميلانوستيكتوس"، من البني الداكن إلى الأصفر الساطع.
وفي حين تظل الإناث بلونها البني المعتاد، يدخل الذكور في "تغيير مظهر" سريع استعدادا لجولة تزاوج قصيرة ومكثفة قبل أن يعود الجلد الأصفر إلى لونه البني الموحل الباهت الذي كان عليه طوال معظم أيام السنة.
كان العلماء يعرفون منذ زمن أن تحول هذه الكائنات الكامدة إلى منارات صفراء مذهلة يتزامن مع موسم التزاوج السنوي الذي لا يستمر سوى يومين، لكن باحثين من حديقة شونبرون في فيينا توصلوا حديثا فقط إلى سبب تخلّي الذكور عن لونها الطبيعي، ودور هذا التحول الدرامي في "الزي" تحديدا.
ووفقا للباحثين، فإن الإجابة رغم أنها تبدو بديهية كان لا بد من إثباتها علميا، فاللون الأصفر الديناميكي الذي يظهر على الذكور لمدة 48 ساعة كل عام يمكن تمييزه بسهولة عن لون الإناث البني، من منظور الضفدع نفسه.
ولأول مرة، قاد الباحثون دراسة ميدانية ، نُشرت نتائجها في دورية "إكثيولوجي آند هيربتولوجي"، لفهم الوظيفة الحقيقية لهذا التغيّر الذي يحدث خلال أحداث التكاثر الانفجاري في موائل الضفدع الطبيعية.
ويشير هذا الحدث إلى تجمع كبير من الضفادع للتكاثر، خاصة في فصل الربيع إذ يجذب هطول الأمطار الغزيرة والظروف البيئية المناسبة أعدادا هائلة من الذكور والإناث.
لاختبار وظيفية التغير اللوني الديناميكي، حاول الباحثون رؤية العالم بعيون الضفادع الآسيوية الشائعة في موائلها الطبيعية خلال فترة التزاوج القصيرة، فاستخدموا نماذج حاسوبية وبيانات من أجهزة الطيف اللوني لتطوير محاكٍ بصري يُظهر كيف ترى هذه البرمائيات الألوان.
وقد كشف هذا الاختبار أن الازدواج اللوني الجنسي الديناميكي لدى هذه الضفادع تكيّف ليكون إشارة بصرية تساعد على التمييز بوضوح بين لون الذكور الأصفر اللافت ولون الإناث البني في مجموعات التكاثر الكثيفة والمحدودة زمنيا.
بعد ذلك، وللتحقق من وظيفة اللون الزاهي، تقول الباحثة في حديقة شونبرون، والمؤلفة الرئيسة للدراسة سوزانه شتكلهر: "استخدمنا نماذج ثلاثية الأبعاد لضفادع شديدة الواقعية، اعتمادا على عينة محفوظة في متحف التاريخ الطبيعي في فيينا، وقمنا بتلوينها بالألوان التي سجلها جهاز قياس الطيف، بعضها بالأصفر لتحاكي الذكور في فترة التزاوج وبعضها بلون بني يشبه الإناث، ثم وضعناها قرب مجموعة من الضفادع المتجمعة للتزاوج خلال حدث التكاثر الانفجاري".
وتضيف في حديثها للجزيرة نت "قمنا بتوثيق تفاعل الضفادع الحقيقية مع النماذج المصممة لتحليلها لاحقا، ولاحظنا أن الذكور تتجاهل النماذج الصفراء إلى حد كبير، بينما أظهرت اهتماما واضحا بالنماذج البنية المطابقة للون الإناث، إذ قامت بمحاولات الدفع والتسلق عليها لتطبيق وضعية التزاوج".
وأظهرت النتائج أن الذكور تلامس النماذج البنية ضعف عدد الاتصالات الجسدية مع النماذج الصفراء، وقاموا بضمّها في وضعية التزاوج بمعدل يزيد 40 مرة مقارنة بالنماذج الصفراء.
لكن اللافت أن اللون الأصفر لا يدل على قوة الذكر أو لياقته أو جاذبيته. فعندما جرّب الباحثون تغيير عوامل أخرى، مثل وزن النماذج وحجمها وشدة لونها، لم يكن لأي منها تأثير يُذكر -كما يفعل اللون- على قدرة الذكور على الحصول على شريكة.
تقول سوزانه إن "الإناث لا تختار شريكها في هذا النمط من التكاثر، ولذلك لا يحتاج الذكور إلى إظهار القوة أو اللياقة. وتضيف أن "اللون هنا يؤدي وظيفة دقيقة ومحددة؛ فهو ببساطة يرسل إشارة للذكور الآخرين بعدم الاقتراب، مما يساعد على تنظيم عملية اختيار الشريك وتقليل التفاعلات الضارة المحتملة بين الجنسين في التجمعات التناسلية الكثيفة".
ويرى العلماء أن هذا يشير بقوة إلى أن الضفادع طورت نظام ترميز لوني يقلل على الأرجح من الالتباس، ويمنع حالات التزاوج الخاطئة بين الذكور. فبينما تُظهر ذكور أنواع أخرى ألوانا زاهية لجذب الإناث، يبدو أن ذكور هذا النوع من الضفادع تتحول إلى الأصفر اللامع لإطلاق إشارة تنفّر الذكور الأخرى.
تقول سوزانه إن الأنواع التي تتكاثر بطريقة انفجارية خلال موسم تفريخ لا يتجاوز يوما أو يومين "تكون حالات التزاوج الخاطئ فيها شائعة، إذ لا يملك الذكر في ذروة الحالة التناسلية الوقت الكافي للتأكد ممّن يوجد تحته".
وتضيف أنه بسبب قِصر فترة التزاوج "يضطر الذكور إلى التحرك بسرعة وحسم للإمساك بأي شريك محتمل في أسرع وقت، خاصة في ظل ندرة الإناث وشدة المنافسة. لذلك يشكل تغير اللون حلا يحد من هذه الإشكاليات".
تحت جلد الضفدع طبقات من خلايا متخصصة تُعرف "بالخلايا اللونية". بعضها يحمل أصباغا داكنة، وبعضها يحتوي على أصباغ صفراء وحمراء، ونوع ثالث يعكس الضوء كالمرايا الدقيقة.
وتستند نتائج هذه الدراسة إلى أبحاث سابقة نُشرت عام 2022، وأظهرت أن الذكور تغيّر لونها عندما تغمر هرمونات التوتر والضغط، مثل الإبينفرين (الأدرينالين) والنورإبينفرين (النورأدرينالين) أجسامها الصغيرة، وتحفزها على إعادة ترتيب هذه الأصباغ وتحريك الصفائح العاكسة لتنتج هذا اللون المميز.
توضح سوزانه أنه "عندما تبدأ الرياح والأمطار الموسمية الجارفة، وتتجمع مئات الضفادع عند البرك المؤقتة للتزاوج، يضطر الذكور إلى صد المنافسين والتسابق على الإناث، وهو بلا شك موقف شديد التوتر".
قد يبدو هذا التغير ظاهريا وكأنه نوع من "التعاون" بين الذكور، لكنه لا يلغي شراسة المنافسة، فخلال فترة التزاوج القصيرة والمضطربة تتقاتل الذكور وتركل بعضها وتتدافع لإزاحة أي منافس.
وبعكس الحيوانات القادرة على تغيير لونها في ثوان مثل الأخطبوط والحرباء، يستغرق ذكر الضفدع نحو 10 دقائق ليصبح أصفر، وتشمل العملية تغيرات في الخلايا الصباغية المسماة "الكروماتوفورات" الموجودة تحت الجلد، والتي تعيد ترتيب نفسها استجابة لهرمونات التوتر.
بمجرد أن تنتهي الأنثى من وضع البيض، فإنها تغادر المكان بأسرع ما يمكن، محاولة الاختباء من الذكور التي تلاحقها حتى اللحظات الأخيرة. لكنّ هناك جانبا إيجابيا للإناث، وهو أن كل هذا "الجنون" يستمر يومين فقط.
لا يفهم الباحثون بالكامل الآليات الفسيولوجية التي تُمكّن الذكور من الحفاظ على لونها الأصفر الفاقع لمدة يومين فقط، لكنهم يعرفون أنه بمجرد انتهاء التزاوج تعود الذكور إلى لونها الهادئ المعتاد، مما يساعدها على التخفي في البيئة المحيطة وتجنب المفترسات أثناء ابتعادها.
وبعد انتهاء الحدث بيوم واحد فقط، لا يبقى في الماء سوى خيوط البيض التي تضعها الإناث. وبعد نحو أسبوع، تفقس الشراغيف وتبدأ بالانتشار قبل أن تنمو وتتحول إلى ضفادع صغيرة، لتبدأ الدورة من جديد، وتعود الضفادع إلى البرك نفسها عاما بعد عام، على الأرجح بفعل الغريزة.
ومع ذلك، قد تزيد التغيرات المناخية من تعقيد هذا الحدث الدقيق التوقيت. فعلى الرغم من أن موسم الأمطار يستمر بضعة أشهر، فإن الضفدع الآسيوي شأنه شأن كثير من البرمائيات يسارع للتزاوج خلال مدة قصيرة، حتى تتمكن الشراغيف من النمو قبل أن تجف البيئة من جديد.
ورغم أن هذا النوع من الضفادع منتشر بكثرة وغير مهدد بالانقراض حتى الآن، تحذّر سوزانه من أن "اضطراب أنماط الأمطار قد يعكر هذا التوقيت الدقيق، إذ إن هذه الضفادع تتكاثر مرة واحدة فقط في السنة، وهذا قد يشكل خطرا".
وتشير إلى أن "حدوث عاصفة مبكرة أو زخة مطر قصيرة قد يؤدي إلى إطلاق موسم التكاثر قبل أوانه، يليها جفاف لاحق يقتل الأجنة بالكامل، دون إمكانية لتعويض هذا الفشل خلال الموسم نفسه، مما يهدد أعدادها في السنوات اللاحقة".
وعلى نطاق أوسع، قد تدفع نتائج هذه الدراسة العلماء إلى إعادة التفكير في الأصول التطورية للألوان لدى كائنات أخرى، حتى بين الحيوانات التي نعتقد أننا نفهمها جيدا، مثل الطيور أو الفراشات.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة