آخر الأخبار

علماء يتحدثون للجزيرة نت عن أغرب قصص التكاثر في عالم النمل

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

تخيل أن هناك عائلة يحمل فيها عدد من الأبناء جينات لا يمكن تفسير مصدرها، كأنهم ورثوا شيئا من شخص غير موجود أصلا. هذا بالضبط ما واجهه العلماء عند دراسة نمل الحاصد الإيبيري "ميسور إيبريكوس"، إذ بدت العاملات وكأن جيناتها تحتوي على بصمة نوع آخر من النمل "ميسور ستروكتور"، رغم أن هذا النوع غير موجود في المنطقة.

بدا الأمر وكأن هناك "أبا خفيا" يترك بصمته الوراثية من دون أن يكون حاضرا، وهو ما دفع الباحثين للغوص في واحدة من أغرب قصص التكاثر في عالم الطبيعة، التي نُشرت تفاصيلها مؤخرا في دورية "نيتشر".

ويقول الدكتور جوناثان روميغييه، الأستاذ بمعهد مونبلييه لعلوم التطور والباحث الرئيسي في هذا الاكتشاف، للجزيرة نت، إن "القصة بدأت بلغز ميداني، حيث وجدنا أن العاملات في مستعمرات ميسور إيبريكوس هجائن بين نوعين مختلفين، وهذا يعني أن النوعين يعيشان معا. لكن المفاجأة أنه لم يظهر في الحقول الأوروبية أي أثر لميسور ستروكتور، عندها أدركنا أننا أمام ظاهرة لم تُرصد من قبل".

مصدر الصورة نوعان من ذكور النمل يختلفان في المظهر الخارجي بينما لهما الأم نفسها (الفريق البحثي- دورية نيتشر)

أبناء حاضرون وأب غائب

ولفهم هذا السلوك التكاثري الغريب، قام الفريق بتحليل البيانات الجينية لـ390 نملة فردية من 5 أنواع مختلفة داخل جنس ميسور. أظهرت النتائج أن العاملات والملكات من "ميسور إيبريكوس" ليس بينهما تسابه جيني كما كان متوقعا، وهو ما يعني أن العاملات هجينة. ومن خلال فحص الحمض النووي الميتوكوندري، تبين أن النملات الذكور كذلك وُلدت من ملكات "ميسور إيبريكوس"، ولكن جيناتها الأبوية تعود إلى نوع آخر هو "ميسور ستروكتور".

ما جعل هذا الاكتشاف أكثر إثارة هو أن ملكات "ميسور إيبريكوس" لا يمكنهن فعل ذلك إلا إذا تزاوجن مع ذكور "ميسور ستروكتور"، وعلاوة على ذلك، فإن المناطق التي فيها النوعان لا تتداخل تماما، بل إنها تبتعد عن بعضها بعضا على مسافة ألف كيلومتر تقريبا.

إعلان

وفي تحول مثير، لوحظ أن ملكات "ميسور إيبريكوس" أنتجت نوعين مختلفين من النملات الذكور، بعضها ذات شعر، وأخرى من دون شعر، وهذه السمات الفيزيائية لم تكن عشوائية، بل كانت مطابقة تماما للنمطين الجينيين، فالذكور المشعّرة هم من نوع "ميسور إيبريكوس"، في حين أن الذكور غير ذات الشعر من نوع "ميسور ستروكتور".

آلية تكاثر غريبة

ويشرح روميغييه الآلية الجزيئية التي تمكن الملكة من إنجاب ذكور من نوع آخر رغم الفروق الوراثية، قائلا: "في العادة يندمج الحمض النووي للبويضة مع الحيوان المنوي لتكوين الجنين، لكن هنا يحدث أمر غريب، حيث تُمحى المادة الوراثية للأم، لتبقى فقط المادة الوراثية للأب، والنتيجة نسخة طبق الأصل من الأب، أي استنساخ طبيعي. يشبه ذلك ما يفعله البشر في الاستنساخ الصناعي، لكن النمل يفعله وحده وبدون تدخلنا".

وعن أصل هذا النظام التكاثري، يوضح روميغييه: "يبدو أنهما تعايشا معا في بعض المناطق في الماضي، وحصلت ملكات ميسور إيبريكوس على حيوانات منوية من ميسور ستروكتور، وخزنتها في جهاز تخزين السائل المنوي الخاص بها، ثم استخدمتها لإنتاج ذكور ميسور ستروكتور حتى في غياب هذا النوع".

وفي ما يتعلق بتوقيت ظهور هذه الذكور المستنسخة، أوضح روميغييه أن الأمر ليس عشوائيا "حوالي 10% من بيض الملكة يحتوي على المادة الوراثية لنوع ميسور ستروكتور، ومعظم هذا البيض يتم التخلص منه، إلا في مواسم التزاوج المهمة".

ويضيف: "ففي الربيع أو الخريف بعد الأمطار، تطير الذكور والملكات في الهواء لتتزاوج وتؤسس مستعمرات جديدة، وعندها فقط يُسمح للذكور المستنسخة بالظهور. يبدو أن الملكات تتبع إشارات بيئية موسمية دقيقة لتحديد الوقت المناسب لاستخدام هذه الذكور، مما يضمن استمرار المستعمرة بأفضل طريقة ممكنة".

مصدر الصورة في الربيع أو الخريف بعد الأمطار، تطير الذكور والملكات في الهواء لتتزاوج وتؤسس مستعمرات جديدة (الأناضول)

قمة جبل الجليد

وعن مدى انتشار هذا النمط من التكاثر، كشف روميغييه أنه موجود في كل مستعمرات ميسور إيبريكوس عبر جنوب أوروبا، من إسبانيا حتى اليونان. وقال: "هذه نملة شائعة جدا، وهذا يعني أن أنظمة تكاثرية غريبة مثل هذه قد تكون موجودة في أنواع أخرى أيضا، خاصة في مناطق التنوع الحيوي الأكبر مثل شمال أفريقيا والشرق الأوسط. شخصيا، أعتقد أننا ما زلنا نرى فقط قمة جبل الجليد".

ويوضح روميغييه: "منذ 20 عاما، اعتقدنا أن بعض الأنظمة التكاثرية استثناءات نادرة، لكن مع التقدم في علم الجينوم أصبح واضحا أنها أكثر شيوعا مما توقعنا، فالمدهش أن النوعين انفصلا منذ أكثر من 5 ملايين سنة وما زالا قادرين على إنتاج ذرية، مما يعني أن النظام قد يستمر ما دام التوافق الجيني قائما".

وحول إذا ما كان من الممكن اعتبار الذكور المستنسخة "سلالة جديدة"، أجاب بحذر: "الأمر يشبه الجدل حول الكلاب والذئاب: هل الكلب نوع جديد أم مجرد نسخة مدجنة من الذئب؟ ، بالفعل الذكور المستنسخة مختلفة كثيرا عن الأصل، وقد يبرر ذلك تصنيفها كنوع فرعي جديد، لكننا فضلنا أن نكون حذرين وألا نعلن عن ذلك الآن. سنجري تحليلات مورفولوجية أوسع قبل اتخاذ قرار بشأن منحها اسما تصنيفيا جديدا".

ظاهرة استثنائية تتجاوز المعرفة الراسخة

ويعلّق الدكتور عمرو عبدالسميع، أستاذ العلوم الجزيئية وعلم الحشرات التطبيقي بكلية العلوم، جامعة القاهرة، والمحرر الأول لدورية علم الحشرات التابعة لجمعية علم الحشرات الأميركية، على هذا الاكتشاف قائلا: "نحن بصدد رصد ظاهرة بيولوجية استثنائية تتجاوز حدود المعرفة الراسخة في مجال التكاثر الحيوي لدى الحشرات الاجتماعية، وتدفعنا إلى مراجعة جذرية لمفاهيم محورية، مثل تعريف النوع البيولوجي، وحدود العزل الجيني، وآليات الوراثة العابرة للأنواع".

إعلان

ويقول إن "تمكّن ملكة واحدة من إنتاج نسل يحمل صفات نوعين مختلفين، من خلال استبقاء المادة الوراثية لذكر غير موجود فعليًّا في البيئة، يمثل تطورا نوعيا غير مسبوق في فهم التفاعلات الوراثية بين الأنواع، ويؤكد أن النظام الحيوي لدى بعض الكائنات قادر على تجاوز القيود التي اعتقدنا طويلا أنها حاكمة ونهائية".

ويضيف أن "الآلية الجزيئية التي تم رصدها، والمتمثلة في محو الحمض النووي الخاص بالأم والإبقاء على المكوّن الوراثي للأب فقط، بما يؤدى إلى استنساخ مباشر للذكر، تُعد نقلة نوعية في فهم حدود التكاثر الجنسي واللّاجنسي، إذ نحن أمام نموذج هجين غير مألوف يدمج بين النمطين في آلية واحدة، بشكل يخدم بقاء المستعمرة واستقرارها عبر الأجيال".

كما أن انتشار هذا السلوك في مستعمرات واسعة جغرافيًّا، رغم غياب النوع المساهم وراثيا (ميسور ستروكتور)، يثير تساؤلات عميقة حول قدرة الكائنات على تخزين وتوظيف الموارد الوراثية من أنواع أخرى بآليات داخلية بالغة الدقة، بما يسمح بإدامة التكاثر حتى في غياب الشريك الأصلي.

ويشير عبد السميع إلى أن هذه الظاهرة تكشف عن أن التفاعلات بين الأنواع ليست بالضرورة آنية أو مباشرة، بل قد تكون ممتدة زمنيا ومبرمجة وظيفيا بما يخدم استمرارية الجماعة، وقد تكون مثل هذه الإستراتيجيات أوسع انتشارا مما نتصور، خاصة في النظم البيئية ذات التنوع الحيوي الكبير.

ويؤكد أن اكتشاف هذا النمط من التكاثر في نوع شائع نسبيا مثل "ميسور إيبريكوس" يفرض علينا إعادة النظر في تصنيفاتنا التقليدية، ويحث على تكثيف البحث الميداني والجزيئي في المناطق التي لا تزال غير مكتشفة بالكامل، لا سيما في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، حيث قد تكون مثل هذه الظواهر أكثر شيوعا مما تكشفه العين المجردة أو الدراسات التقليدية.

ويختم بالإشارة إلى أهمية أن تُعاد هيكلة أولويات البحث في بيولوجيا الحشرات الاجتماعية، وأن توجه الجهود إلى دراسة الأنساق الوراثية المعقدة التي ربما لا تُكتشف إلا بتحليلات جزيئية دقيقة وموسعة، مضيفا أن النمل لا يزال يمثل نموذجا حيا ومفتوحا لفهم حدود التطور، وأن ما تم الكشف عنه قد يكون مجرد بداية لفصل علمي أكثر تعقيدا مما نتصور.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار