قانون تجريم الاستعمار: خطوة جزائرية تاريخية في ظل علاقات متأزمة مع فرنسا
الجزائرالٱن_ في خطوة تاريخية طال انتظارها لعقود، يستعد البرلمان الجزائري للمصادقة على أول قانون لتجريم الاستعمار الفرنسي.
في توقيت يتزامن مع واحدة من أسوأ الأزمات في تاريخ العلاقات بين البلدين. القانون الذي سيُعرض للتصويت في 24 ديسمبر الجاري، يمثل نقطة تحول جوهرية في معالجة الملفات العالقة بين الجزائر وفرنسا، ويطرح تساؤلات حول مستقبل العلاقات الثنائية.
قانون يكرّس العدالة التاريخية
يتضمن مشروع القانون، 26 مادة تغطي جرائم الاستعمار الفرنسي المرتكبة خلال الفترة من 1830 إلى 1962.
يوصف الاستعمار بأنه “جريمة دولة مكتملة الأركان”، ويحدد القانون 27 شكلاً من أشكال الجرائم الاستعمارية، بما في ذلك القتل والتعذيب والنهب المنظم.
من أبرز ما يتضمنه القانون: مطالبة فرنسا بالاعتراف الرسمي والاعتذار عن جرائمها، دفع تعويضات للضحايا وعائلاتهم، استعادة الأرشيف التاريخي المنهوب، وإعادة رفات المقاومين الجزائريين المحتجزة في فرنسا.
كما يفرض القانون عقوبات بالسجن تتراوح بين خمس إلى عشر سنوات على كل من يمجد الاستعمار أو يشيد به بأي شكل من الأشكال.
“رسالة واضحة للأجيال القادمة”
في تصريح خاص للصحيفة الإلكترونية “الجزائر الآن”، يقول الدكتور رشيد بن عيسى، أستاذ القانون الدولي بجامعة الجزائر والمتخصص في قضايا العدالة الانتقالية: “هذا القانون ليس مجرد نص تشريعي، بل هو تأسيس قانوني لذاكرة جماعية عانت من محاولات طمسها لعقود.
فرنسا ارتكبت جرائم ضد الإنسانية في الجزائر، ومن حقنا القانوني والأخلاقي توثيق ذلك وتجريمه”.
ويضيف بن عيسى: “ما يميز هذا القانون أنه يستند إلى أسس قانونية دولية متينة، منها اتفاقية روما للمحكمة الجنائية الدولية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واتفاقيات جنيف. فالجرائم المرتكبة ضد الشعب الجزائري – من مجازر جماعية ومحارق وتجارب نووية في الصحراء – لا تسقط بالتقادم بموجب القانون الدولي”.
توقيت حساس وعلاقات متفجرة
يأتي طرح القانون في ظرف بالغ الحساسية، حيث تعيش العلاقات الجزائرية الفرنسية حالة من التوتر غير المسبوق منذ منتصف عام 2024. جذور الأزمة الحالية تعود إلى اعتراف باريس بمقترح الحكم الذاتي المغربي المزعوم في الصحراء الغربية، وهو ما اعتبرته الجزائر إهانة مباشرة وتدخلاً في قضية إقليمية حساسة.
تفاقمت الأوضاع في أفريل 2025 عندما طردت الجزائر 12 موظفاً فرنسياً من وزارة الداخلية، معتبرة إياهم “أشخاصاً غير مرغوب فيهم”، فردت باريس بطرد 12 دبلوماسياً جزائرياً.
كما شهدت الأسابيع الأخيرة توتراً جديداً على خلفية اعتقال صحافي وناشط جزائري في باريس، والحكم على صحفي فرنسي بالسجن سبع سنوات في الجزائر بتهمة تمجيد الإرهاب.
التأثير المحتمل على العلاقات الثنائية
حول تأثير القانون على مستقبل العلاقات الجزائرية الفرنسية، يشير الدكتور بن عيسى إلى أن “فرنسا ستواجه ضغطاً أخلاقياً وقانونياً متزايداً. هذا القانون سيفتح الباب أمام مطالبات قانونية دولية، وقد يلهم دولاً إفريقية أخرى عانت من الاستعمار الفرنسي لاتخاذ خطوات مماثلة، خاصة في إطار اللائحة الإفريقية لتجريم الاسترقاق والاستعمار التي تقودها الجزائر وغانا وجنوب إفريقيا”.
ويحذر الخبير القانوني من أن “باريس قد تتخذ موقفاً عدائياً في البداية، لكنها ستدرك تدريجياً أن تجاهل القانون سيكلفها سياسياً ودبلوماسياً. فالجزائر ليست دولة معزولة، بل شريك استراتيجي مهم في الطاقة والأمن الإقليمي، وفرنسا تحتاج إليها في ملفات إفريقية عديدة”.
أهمية تاريخية ورمزية
ما يزيد من أهمية هذا القانون أنه يأتي نتيجة مبادرة برلمانية ذاتية، وليس من الحكومة، مما يمنحه مصداقية شعبية أكبر.
فقد شكّل البرلمان في مارس الماضي لجنة خاصة تضم ممثلين عن جميع الكتل السياسية لصياغة القانون، في تجسيد نادر للتوافق الوطني حول قضية الذاكرة.
يؤكد بن عيسى أن “القانون يحمل بعداً تربوياً وثقافياً، فهو سيُدرّس في المدارس والجامعات، وسيحمي الذاكرة الوطنية من التشويه. هذا مهم جداً في عصر يشهد محاولات لتبييض صفحة الاستعمار وتصويره على أنه حضارة أو تحديث'”.
خطوة نحو المستقبل
رغم التحديات المتوقعة، يرى الدكتور بن عيسى أن “القانون يمثل خطوة ضرورية نحو المصالحة الحقيقية مع التاريخ.
فلا يمكن بناء علاقات سليمة بين الجزائر وفرنسا دون الاعتراف بالحقائق التاريخية. فرنسا اعترفت جزئياً ببعض الجرائم، لكنها تتهرب من الاعتذار الرسمي والتعويض، وهذا غير مقبول”.
ويختم حديثه لـ”الجزائر الآن”، قائلاً: “هذا القانون ليس عداءً لفرنسا أو الشعب الفرنسي، بل هو مطالبة بالعدالة والكرامة. الجزائريون عانوا لمدة 132 عاماً من أبشع أشكال القمع والاستغلال،
وحان الوقت لأن يسمع العالم صوتهم بوضوح. هذا القانون سيكون مرجعاً قانونياً وأخلاقياً للأجيال القادمة”.
مع اقتراب موعد التصويت على القانون، تترقب الأوساط السياسية والدبلوماسية في المنطقة والعالم ردود الفعل الفرنسية والدولية. فالقانون، إن تمت المصادقة عليه، سيمثل سابقة تاريخية قد تعيد رسم خارطة العلاقات بين الدول الاستعمارية السابقة ومستعمراتها، وتفتح فصلاً جديداً في النقاش العالمي حول العدالة التاريخية والتعويضات عن جرائم الاستعمار.
المصدر:
الجزائر الآن
مصدر الصورة