في خضم التحولات العالمية وما يطرأ على التاريخ من تغييرات، تجد فرنسا، تلك القوة الاستعمارية التي طالما تباهت بتراثها الثقافي، نفسها محاصرة بماضيها المظلم.
لقد انقلب السحر على الساحر، وها هي لعنة الاستعمار التي حاولت فرنسا دفنها في غيابات النسيان، تخرج الى السطح و تطاردها ككابوس لا ينفك عن العودة.
الوثائقي الاستثنائي “الاستعمار: تاريخ فرنسا” الذي سيبث على قناة France 5 يوم الأحد 2 فيفري 2025، يُعد بمثابة صرخة في وجه التغطية الإعلامية التقليدية المزيفة، التي لطالما حاولت تلميع صورة فرنسا.
هذا العرض الفرنسي المنصف، يكشف النقاب عن خبايا التاريخ الاستعماري، مسلطًا الضوء على الجرائم والانتهاكات التي ارتكبت باسم الحضارة.
ويستعرض بجرأة كيف قامت فرنسا ببناء إمبراطورية استعمارية ضخمة تمتد على 11 مليون كيلومتر مربع، وذلك من خلال استخدام القوة والعنف.
إن هذا الوثائقي لا يمجد تاريخ فرنسا الاستعماري، بل يلعنه ويتبرأ منه، وهو دعوة جريئة لمواجهة الحقائق المؤلمة التي حاول الإعلام الفرنسي تجنبها لعقود، فهل ستستطيع فرنسا أن تتحمل تبعات تاريخها ومواجهة جرائمها وجهًا لوجه؟.
في ثلاثة أجزاء تمتد كل واحدة منها على 60 دقيقة، تعود السلسلة الوثائقية الاستثنائية “الاستعمار: تاريخ فرنسا” لتقدم نظرة جديدة على تاريخ الاستعمار الفرنسي.
من الجزائر إلى مدغشقر، ومن داكار إلى سايغون، يروي هذا الوثائقي تفاصيل مأساوية تمتد من عام 1830 إلى 1945، مُعرضًا للحقائق المرعبة التي حاولت فرنسا طمسها.
إنه ليس مجرد سرد تاريخي، بل هو صرخة في وجه النسيان، يُحفز الضمير الجمعي ليواجه إرث العار الذي لا يزال يثقل كاهل فرنسا.
في هذا الوثائقي، تتجلى الحقائق المؤلمة، وتُطرح الأسئلة الجريئة،التي تغوص في زوايا التاريخ المظلم لفرنسا والذي لا يزال يؤثر على حاضرها.
فلتستعد فرنسا لمواجهة واقع لا مفر منه، ولتدع هذا العرض الوثائقي يكون بداية حوار جرئ حول ماض لا يمكن تجاهله.
يعرض الوثائقي الاستثنائي “الاستعمار: تاريخ فرنسا”، سردًا شاملًا لحقبة الاستعمار الفرنسي ويجلد المشروع الاستعماري الفرنسي. ويطرح تساؤلات حول إمكانية فرنسا اليوم مواجهة هذا الماضي الاستعماري المظلم.
تبدأ القصة من هذا الوثائقي الجريء، حسب ما عبرت عنه France tv مع غزو الجزائر في عام 1830، حيث يفتح هذا التاريخ أبوابًا لعصر من التوسع الاستعماري غير المسبوق على الأراضي الأفريقية والآسيوية.
حمل الاستعمار الفرنسي شعارات زائفة نحو الجزائر مثل “التقدم” و”الرسالة الحضارية”، لكن في الواقع، رسائله كانت مشوهة تمامًا، من محاولات لطمس الشخصية الوطنية، والدين، إلى اللغة العربية، وكذا تطبيق أساليب إجرامية في التنكيل بالحزائريين.
هذا التوسع يشرح الوثائقي بطرح متحيز لمستعمرات فرنسا السابقة، ورافض لفكرة الاستعمار والاستدمار، كان نتيجة لعمليات عسكرية عنيفة واجهت مقاومة شرسة من الشعوب المستعمَرة.
إن الصورة الوردية التي قدمتها الحكومة الفرنسية عن الاستعمار تخفي وراءها واقعًا مؤلمًا أسودًا من القمع والاحتلال.
بحلول عام 1920، أصبحت الإمبراطورية الفرنسية الثانية عالميًا، حيث بلغت ذروتها الجغرافية. ومع ذلك، كانت هذه القوة مجرد “عملاق ذو أرجل من طين”.
هكذا يصفها الوثائقي. ففي الوقت الذي كانت فيه فرنسا تتفاخر بنجاحها الاستعماري، كانت تتعرض لانتفاضات مسلحة في بلدان على غرار سوريا، حيث واجه السوريون سياسات قمعية من السلطات الفرنسية، مما عزز لديهم الشعور بالهوية الوطنية ودفعهم إلى رفض علم الانتداب، وأدى ذلك لاحقًا إلى اندلاع الثورة السورية الكبرى عام 1925، وبدأ الثوار يبحثون عن رمز يؤكدون فيه السيادة السورية على أراضيهم، مما كان يُظهر بداية النهاية لهذا النظام الاستعماري الفاشل.
تتواصل الأحداث في عام 1931 مع افتتاح أكبر معرض استعماري في باريس، حيث تم تقديم صورة مثالية عن الإمبراطورية الفرنسية. لكن هذه الصورة كانت زائفة، حيث كانت شعوب المستعمرات تستعد للانتفاضة ضد الاحتلال مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، تسارعت علامات انهيار هذا النظام الاستعماري، مما أدى إلى تفكك الإمبراطورية الفرنسية بشكل عنيف، تقولFrance tv.
يسعى الوثائقي إلى تقديم سرد تاريخي يستند إلى أرشيفات نادرة، حيث يُظهر كيف أن الاستعمار كان دائمًا مدفوعًا بالعنف والاستغلال.
يستند المخرج هيوغ نانسي على مجموعة من الأرشيفات الرقمية التي تبرز حياة المستعمرين والمقاومة التي واجهتها القوات الفرنسية.
هذه الأرشيفات تعيد تشكيل فهمنا للتاريخ، حيث تكشف عن مقاومة الشعوب المستعمَرة، مما يجعلنا نسعى لفهم المعاناة والظلم الذي تعرضت له.
يستعرض الوثائقي قصص شخصيات رسمت تاريخ الجزائر بماء الذهب، مثل الأمير عبد القادر، الذي كان قائدًا عظيمًا ورمزًا للمقاومة ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر.
وتميز بقوة إرادته وحنكته العسكرية، حيث قاد حملة مقاومة شجاعة ضد القوات الفرنسية التي حاولت احتلال بلاده.
استخدم عبد القادر الجزائري استراتيجيات عسكرية مبتكرة، مثل حرب العصابات والتكتيكات الحركية، مما مكنه من تحقيق انتصارات ملحوظة وجمع حوله العديد من القبائل الجزائرية، موحدًا صفوفهم في وجه الاحتلال.
يشرح الوثائقي أن المقاومة لم تكن مجرد رد فعل، بل كانت ثورة حقيقية ضد الظلم الاستعماري. يستعرض أيضًا الأصوات المعارضة من داخل فرنسا نفسها، حيث عارض العديد من المفكرين والشخصيات السياسية الاستعمار، وهو ما يعكس وجود تيار فكري يسعى لإدانة هذا النظام.
ينتهي الوثائقي “الاستعمار: تاريخ فرنسا” إلى نتيجة حتمية وحقيقة راسخة، وهي أن الاستعمار كان تجربة مؤلمة تتطلب من فرنسا مراجعة تاريخها بموضوعية.
إن وجهة النظر الفرنسية التي حاولت تقديم الاستعمار كعمل حضاري يجب أن تُفكك، ويجب أن نواجه الحقائق المظلمة التي كانت وراء هذه الحقبة.
ويجب على فرنسا مثلما يلح عليه هذا الوثائقي أن تعيد النظر في هذه القصة المشتركة وأن تعترف بالتاريخ المؤلم للمستعمرات التي عانت من القهر والظلم.
@ آلاء.ع