آخر الأخبار

شعب ينام بعينٍ واحدة مُغمضة

شارك الخبر
مصدر الصورة

الجزائرالٱن _ كثيرون لا يعرفون أن الجزائر لا تعرف نظام المراقبة القبْلية للكتب المطبوعة، بحيث يستطيع من يريد أن يكتب ما يريد ويُصدر ما يريد، ويترك للسلطات مصادرة إنتاجه إن كان يتناقض مع ما ينص عليه دستور البلاد.

ومنذ عدة أيام خرجت علينا بعض وسائل التواصل الاجتماعي بإعلان عن كتاب حمل عنوان “الجزائر اليهودية”، وتحدد يوم السبت الماضي لعقد ندوة إشهارية للتعريف بالكتاب.

وأثار الأمر عاصفة من الغضب في الجزائر، خصوصا لأن العنوان مستفز ولا علاقة له بالواقع التاريخي، ورأى كل وطني في الكتاب محاولة للتطبيع مع الكيان الصهيوني تحت الغطاء الثقافي، تذكر بقضية “أنريكو ماسياس”.

والكاتبة “هدية بن ساحلي” جزائرية مزدوجة الجنسية تكتب بالفرنسية، ودار النشر فرنسية (ALTAVA) مقرها باريس، وهي تنشر مؤلفات أهم دعاة البربرية (ويقال أن ابنه من مالكي الدار) . 

وكان أخطر ما في الأمر أن التقديم لهذا الكتاب كان بقلم الكاتبة فاليري زناتيValérie Zenatti ، وهي فرنسية يهودية من أسرة كانت تستوطن قسنطينة، أمضت طفولتها في فرنسا ثم انتقلت مع عائلتها إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة حيث نشأت وتعلمت، ثم تجندت في جيش الاحتلال الصهيوني وكتبت عن تجربتها تلك بالفرنسية في كتاب بعنوان”حين كنت مجندة”. 

ومع الغليان الذي أحدثه الخبر أصدرت السلطات فورا قرارا بمنع الندوة، بينما لم يصدر، في حدود ما أعرف، أي ردّ فعل من جانب من يُطلق عليهم “الفرانكوبربريست”.

وتذكرت على الفور كلمات للصديق عبد الباري عطوان، أكدت ما كنا نُحسّ به ونحن ننظر حولنا وحول ما حولنا، فقد قال لي يومها: عينُهم على الجزائر.

والواقع أن علاقة اليهود بالجزائر علاقة تاريخية قديمة، لكنها أصبحت علاقة مغلفة بشكوك تنضح بالنوايا السيئة، ولدرجة أن أكبر سباب يثير أي جزائري أن تقول له: …أنت يهودي.

وقد احتضن المغرب العربي معظم “المغوراشيم” الذين طردهم التعصب المسيحي من الأندلس مع من طردوا من المسلمين بعد سقوط دول الطوائف في 1498، عندما بكى الأمير ملكا لم يحافظ عليه كالرجال، (وأمراء اليوم يقابلون ضياع المُلك بالضحك والرقصات).

وانضم الفارون إلى “الطباشيم” المحليين وعُرفوا جميعا باسم “السفارديم” وأصبحوا شريحة من شرائح الشعب يلبسون لباسه وينسجمون مع عاداته، إلى أن حدث الغزو الفرنسي في 1830، وكان من بين عناصره الخداع الذي قام به سماسرة التجارة اليهود وكانوا سببا في استعمار الجزائر من طرف فرنسا (بتآمر عائلتي بكري وبو شناق في قضية ديون القمح).

.ويعرف النفور طريقه إلى العلاقات مع يهود الجزائر منذ قانون “كريميو” 1870 حيث اختاروا الجنسية الفرنسية فأصبحوا مواطنين “درجة أولى”.

وتسترجع الجزائر استقلالها في 1962 وتقلب الصفحة بدون أن تمزقها (بتعبير الرئيس هواري بو مدين) ولكن كثيرين نسوا كلمات الجنرال دوغول وهو يُطمئن أنصار الجزائر “الفرنسية” عندما قال لهم…..”لقد تركت هناك من هم أكثر فرنسية منكم”.

وتناقص اليهود بعد الاستقلال بالهجرة إلى إسرائيل ودول أخرى لكن يُروى أن أعدادا منهم كانت قد ذابت عبر سنوات الاستعمار في النسيج البشري الجزائري، متخفين بأسماء جزائرية بفعل التنظيم الفرنسي في فرض الأسماء العائلية للقضاء على الأسماء الثلاثية للجزائريين ( فلان ابن فلان ابن فلان، وهو ما كان ضرورة لتأكيد النسب العائلي لكل مواطن ومعرفة قبيلته ومنشئه).

وإثر تأميم الجزائر للمناجم 1966 جن جنون الاستخبارات الفرنسية، فعملت على تكوين الأكاديمية البربرية في باريس عام 1967 برعاية “الصهيوني “جاك بينيت، الذي اخترع راية خاصة لم يعرفها تاريخ المنطقة، وراح ورفاقه يثيرون النزعات البربرية ويحرضون على معاداة العربية والإسلام، ويرفضون التضامن مع القضية الفلسطينية، ويخونون أبطال الجزائر الذين دافعوا عن الهوية الأصيلة وعن الانتماء العربي الإسلامي مثل ابن باديس والأمير عبد القادر والأمير خالد ومصالي الحاج وبالطبع هواري بومدين.

وكان من بين يهود قسنطينة في النصف الأول من القرن الماضي مغنٍّ إسمه “غاستون غارناسيا”، حمل اسم “أنريكو ماسياس”، وتميز باستلهام ألحان الأغاني الجزائرية في أغانيه الفرنسية‏،‏ مما جعله واحدا من أقرب المغنيين إلي أبناء جيلنا. 

وعرفت الستينيات تضامن الجزائر، شعبا وقيادة، مع الوطن العربي، والتزم الجزائريون مع الكفاح العربي كما كان الأمر في الثلاثينات والأربعينيات، بل وقبل ذلك في عهد صلاح الدين، وهنا برز عنصر بالغ الأهمية في الهجمة الصهيونية لاختراق الجزائر، لكن كثيرين لم ينتبهوا له ولم يحاولوا الربط بين الأحداث، ونسي كثيرون ما قاله بن غوريون من أن “القضاء على ثورة الجزائر هو حماية لإسرائيل من العدوان المصري”.

ويعيش الوطن العربي هزيمة 1967، ويفاجأ الجزائريون، الذين كان الحزن يعتصر قلوبهم، أن أنريكو ماسياس تصدر مظاهرة راقصة أمام السفارة الإسرائيلية في باريس احتفالا بهزيمة العرب، وهنا حطم الجزائريون كل ما يملكونه من اسطوانات المغني، ووضعه الشعب في قائمة حالكة السواد، وأصدر بو مدين قرارا بمنعه من الدخول إلى الجزائر، أسوة بكل من كانوا من أعوان الاستعمار، وهنا نفهم سر كراهية “البعض” للزعيم الجزائري.

والواقع هو أنه كان للرئيس بو مدين صداقات كبيرة مع مثقفين من اليهود، وكان يلتقي بعضهم عند زيارتهم الجزائر، ومن أبرزهم مدير “نوفيل أوبزرفاتور” جان دانيال، لكن كراهيته للصهاينة كانت بدون حدود، وكان من الأدلة المبكرة لذلك اختياره، كإسم ثوري، اسم القطب الرباني ورفيق صلاح الدين الأيوبي، “أبو مدين الغوث”، الذي بترت يده في الحروب الصليبية ودفنت في القدس..

وتأكدت الكراهية إداريا في نهاية السبعينيات.

فقد سافر الأمين العام لرئاسة الجمهورية “جلول خطيب” مع عروسه لقضاء شهر العسل في إحدى الدول الآسيوية، وعند الرجوع إلى الجزائر، وبشكل لم ينتبه له من أعد خطة السفر، حطت الطائرة الآسيوية في مطار إسرائيلي.

وألقت السلطات الإسرائيلية القبض على جلول، ولم ينتظر بو مدين الإفراج عنه بعد عدّة أسابيع من فشل عملية الابتزاز الإسرائيلية، بل أمر بطرده فورا من منصبه في رئاسة الجمهورية ومنع إسناد أي منصب رسمي له، وظل كذلك إلى أن انتقل الرئيس إلى رحاب الله في 27 ديسمبر 1978.

وتتواصل محاولات الاختراق.

ففي بداية السبعينيات زارني في مكتبي برئاسة الجمهورية الصحفي الفرنسي جان بيير الكباش، وهو يهودي من أصل جزائري، واقترح عليّ، ببساطة أدهشتني، فكرة دعوة أنريكو ماسياس لإقامة حفلات في الجزائر، ترسيخا لروح الوئام بين الفنانين والمثقفين الخ الخ..

وبغض النظر عن نفوري من العرض كان عليّ أن أبلغ به الرئيس بو مدين، لكنه رمقني بنظرة غاضبة، جعلتني أفرّ من أمامه لا ألوي على شيئ.

وينتقل بو مدين إلى رحاب الله ، وتمر السنون، ويتولى الرئيس بو تفليقة المسؤولية الأولى في البلاد، ويتوافق ذلك مع انتقال الملك الحسن الثاني إلى رحاب الله، ويتوجه بو تفليقة إلى الرباط للمشاركة في تشييع الجنازة.

وبقدرة قادر، وفي القصر الملكي الفسيح المزدحم بمئات المعزين، يحدث تواطؤ بروتوكولي غريب يؤدي إلى أن يجد الرئيس الجزائري نفسه في مواجهة رئيس الوزراء الإسرائيلي “إيهود باراك”.

والذين لا يعرفون طبيعة الرئيس العنيدة وإرادة التحدي التي تتملكه كانوا يتوقعون أن يدير بو تفليقة رأسه متجاهلا يد باراك الممدودة لمصافحته، لكن لأن بو تفليقة هو بو تفليقة، فقد مَدّ يده ليمسكها باراك بكلتا يده، وليسمع ما لا أظن أنه أرضاه (حسب ما أبلغني به أحد الحضور وهو الوزير السابق شريف عباس).

وتذكرت على الفور قصة المصافحة المفبركة التي تم تدبيرها على عتبة باب الكعبة المشرفة بين الرئيس الشاذلي بن جديد والملك الحسن الثاني، والتي دبرها البروتوكول الشقيق ظنا منه أن المصافحة ستكون طريق الوئام بين البلدين.

ويقوم بو تفليقة بزيارة إلى فرنسا، ويُنظم له “البعض” حفل استقبالٍ التقى فيه، بصدفة مفتعلة، أنريكو ماسياس، الذي انحنى على يده طالبا، والدموع تبلل وجنتيه، السماح له بزيارة الجزائر، ولم يكن أمام الرئيس، واللقاء في حفل عام، إلا أن يرحب به. 

وأثار خبر الزيارة غضبا عارما في الشارع الجزائري‏،‏ حيث رأى كثيرون أن الخلفية كانت الإعداد لنوع من التطبيع الشعبي مع إسرائيل.

ولم تتم الزيارة أبدا، واتُّهم البعض من وقفوا ضدها، وكان في صدارتهم عبد العزيز بلخادم وخالد بن إسماعيل (مساعد الرئيس أحمد بن بله) وخادمكم المطيع وآخرون، بأنهم بعثيون أصوليون قومجيون أعداء للسامية، وربما عملاء للفوهرر الألماني.

ولم يتمكن ماسياس إلى يومنا هذا من أن يضع قدما واحدة على الأرض الجزائرية، برغم أنه استقبل في عدة عواصم عربية استقبال الفاتحين، وإلى درجة أن بعض طوال الألسنة عندنا تساءلوا قائلين: هل نحن عرب أكثر من العرب ؟.

وتتواصل المحاولات، فتتواطؤ في بداية عهد بو تفليقة توجهات فرانكوفيلية مع بعض مواقع النفوذ، وفي غفلة من وزير الاتصال والثقافة آنذاك تقوم بتنظيم زيارة عدد من الصحفيين الجزائريين سرا إلى الكيان الصهيوني، بدت كأنها ممارسة للخيانة الزوجية خلال يوم جمعة من أيام رمضان، وتم التعتيم عليها وعلى من قام بها وعلى من دبرها ومن قام بشراء تذاكر السفر، وفقد الوزير منصبه نتيجة لأمر لم يكن يعرف عنه شيئا.

وستتواصل المحاولات لتتكامل مع الاستفزازات الخارجية.

لكن ننام بعين واحدة مغمضة.

 

شارك الخبر

إقرأ أيضا