آخر الأخبار

ماكيافيللي الذي لم نقرأه جيدا

شارك الخبر

الجزائرالٱن _يبدو أن كثيرين من بيننا لم يعرفوا عن “نيكولو ماكيافيللي” إلا أنه مؤلف كتاب “الأمير” سيئ السمعة، الذي يقال إن طغاة العصر وكل عصرٍ اعتمدوه دستورًا يسيرون على هداه، خصوصا وقد كتب مقدمته الدكتاتور الإيطالي “بنيتو موسيليني”، الذي انتهى كما آمل أن ينتهي بعض الذين “يركبون” كراسي المسؤولية في وطننا العربي الذليل.

وأنا ممن يرون أن أعظم ما كتبه الفيلسوف الإيطالي هو كتاب “المطارحات” الذي يضم دروسا سياسية من الحماقة أن نتجاهلها لنركز على كتابٍ هو، في نهاية الأمر، فضحٌ للأساليب السلطوية، لأنه يكشف الأساليب التي يلجأ لها الحاكم المستبد ليحقق أهدافه ومراميه، وهي، بشكل غير مباشر، جرس تنبيه للشعوب النائمة.

وفي النص العربي لكتاب “المطارحات” الذي ترجمه، على ما أذكر، خيري حماد، نقرأ السطور التالية:

“لو أذعنت للتهديد إنما تفعل ذلك تجنبا للحرب، ولكنك لن تستطيع تجنبها في أغلب الحالات، لأن أولئك الذين كشفت عن نفسك أمامهم بإذعانك لن يقفوا عند هذا الحد، بل سيعملون على اغتصاب تساهلات أخرى منك، وكلما قلّ تقديرهم لك ازداد تصلبهم إزاءك.

وستجد من الناحية الأخرى أن أنصارك ومؤيديك قد فتر حماسهم لك، لأنهم رأوا فيك شخصا ضعيفا خوارا (..) وهكذا تكون أضعت كل ما تملك، على الرغم من الحقيقة الواقعة، وهي أنك لم تستخدم إلا جزءا من قواتك”.

تذكرت هذه السطور خلال الأسبوع الثاني من أكتوبر 1973، عندما رفض الرئيس أنور السادات تنفيذ ما ارتآه قادة الجيش المصري العظام من التوجه بالقوات شرقا بعد وقفة تعبوية قصيرة في نهاية الأسبوع الأول، وهو ما كنت سمعته شخصيا من الفريق سعد الدين الشاذلي.

كان ذلك الموقف أول خطأ إستراتيجي يرتكبه السادات، الذي كرر أخطاء أدولف هتلر في تجاهل آراء قادته العسكريين، والذين كانوا قمة الخبرة العسكرية العربية، في حين أن معلومات الرئيسين في الأمور القتالية كانت محدودة بحكم المجال العسكري الضيق الذي مارسا فيه مهامهما العسكرية.

يومها لم نكن نعرف أن الرئيس المصري التزم بما وعد به هنري كيسنجر في رسالة السابع من أكتوبر 1973 بعدم تقدم القوات المصرية نحو ممرات متلا والجدي والجفقافة والتي تشكل قلعة صمود هائلة، حيث توقفت القوات في حدود الكيلومترات العشرة مستفيدة من التغطية الجوية لحائط الصواريخ الشهير الذي أقامه جمال عبد الناصر في ختام حرب الاستنزاف الرائعة، والذي كان أول أسباب نجاح العبور العظيم.

وهكذا فإن القوات الإسرائيلية، التي علمت بما أُبلِغ به كيسنجر، ركّزت كل قواتها على سحق الجبهة السورية، وتفاصيل ذلك معروفة.

وفي نهاية الأسبوع الثاني من أكتوبر، وربما بعد اتصالات مع “اليهودي” الأمريكي، الذي خلفه اليوم يهودي آخر هو “أنتوني بليندين”، يأمر السادات قواته بالتوجه شرقا نحو الممرات، رافضا آراء قادته الذين رفض قبل ذلك إصرارهم على التقدم شرقا، منتهزين حالة الذهول التي أصابت العدوّ الإسرائيلي بعد ضربة 6 أكتوبر الرائعة، وقال وزير الدفاع الفريق أحمد إسماعيل للجنرالات الغمصي والشاذلي وغيرهما إن ذلك قرار “سياسي”، وهكذا بدأت عملية الإجهاض السياسي، والتي وصلت بنا إلى ما نعيشه اليوم.

وكانت مذبحة الدبابات الشهيرة التي سافر هواري بو مدين إثرها مباشرة إلى موسكو يوم 16 أكتوبر ليفرض على القادة السوفييت سرعة تعويض القوات المصرية عن الخسائر التي قيل أنها تجاوزت ما خسرته القوات المحاربة في أهم المعارك الفاصلة خلال الحرب العالمية الثانية. 

وقصة الشجار مع بريجنيف معروفة، وهي لحظات عشتها شخصيا في العاصمة السوفيتية. 

وتكرر نفس الأمر إثر ثغرة “الديفرسوار”، والتي قال لي الشاذلي إن القوات المصرية التي كان معها لواء جزائري كانت قادرة، بالتعاون مع القوات الجوية، على سحق”آرييل شارون” وقواته في ساعات محدودة.

لكن الرئيس المصري رفض ذلك قائلا إنه لا يستطيع محاربة أمريكا.

وكانت بصمات كيسنجر واضحة فيما حدث ويحدث، وهكذا، كما يروي الثقاة، سالت دموع الغمسي وهو ينفذ تعليمات سياسية أفسدت أهم نتائج العبور المصري العظيم.

أقول ذلك اليوم مستشهدا بسطور ماكيافيللي، لأن كلماته كانت ترن في أذني منذ الأيام الأولى لانطلاق “عاصفة الأقصى”، وأحس بها اليوم مطارق تدق رأسي، بعد مأساة تفجيرات “البيجر” في لبنان.

وكنت أتساءل: ألم يسمع قادة حزب الله بقصة الثور الأبيض، وألم يدرك أنه التالي على قائمة الكيان الصهيوني، ليأتي بعد ذلك دور الضفة الغربية ثم الأردن نفسه.   

وكنت ذكّرتُ في 20 أكتوبر 2023 بما قاله جمال العبيدي بعد انطلاقة طوفان الأقصى من أن الغرب تجتاحه موجة هستيريا حربية، حيث يصرخ مع إسرائيل من أنه يتعين استئصال حماس، لكن جميع  الناس يدركون بأن المقصود والمأمول هو استئصال الشعب الفلسطيني والتخلص منه نهائيا.

ثم قلت إن “الدور القادم بعد تصفية المقاومة الفلسطينية هو اجتثات كل مقاومة وطنية حيثما وجدت، وسوف يتزايد الجنون الأمريكو صهيوني، الذي يشبه ما أصاب الكيان في الأيام الأولى لحرب أكتوبر 1973، بدون أن ننسى أن عنصر المفاجأة في “طوفان الأقصى” كان مُذلا ومهينا للصهاينة أكثر من الهجومات نفسها، وأهمية هذه الحقيقة هي التذكير بأن هذا الجنون سيتزايد ليصبح حرب إبادة حقيقية تحرق الأخضر واليابس”.

ثم قلت في حديث آخر: ” يجب أن تتركز الأسبقية الآن على حماية الشعب الفلسطيني من تفجر الجنون الإسرائيلي الذي عرفناه في كفر قاسم ودير ياسين وقانا وعشرات المواقع الأخرى التي سُوّيت بالأرض”.

وقلت يومها بأن أسبقية الأسبقيات هي “عزل الكيان الصهيوني التي يجب أن تبدأ بطرد سفرائه ونزع أعلامه من الأرض العربية وقطع كل الاتصالات معه، وهو أمر بالغ الأهمية، سيثبت لحلفائه، إذا تم بشكل جماعي، أن درس الأندلس حيّ في الذاكرة الجماعية للأمة، وأننا لن نبكي ثانية ملكا لم ندافع عنه كالرجال”.

وقلت أيضا أنه “ليس مطلوبا إرسال فرق عسكرية لدعم المقاومة، وليس مطلوبا إرسال الطائرات لحماية سماء غزة، ولا البوارج لحماية شواطئها، وإنما هو مجرد طلبٍ مؤدب جدير بالكرم العربي الحاتمي !! يصدر من عدّة عواصم عربية “شامخة” يقول لقادة الكيان: سفراؤكم غير مرغوب فيهم … الآن، حفظا على سلامتهم” (هكذا).

لكن ما عشناه من قيادات عربية كان أقرب إلى “الدياثة” السياسية التي لم أجد لها تفسيرا، وهكذا كان الكيان يتصرف على أساس أن هناك قيادات عربية وإسلامية مؤثرة هي أحرص منه على التخلص من القضية الفلسطينية، التي أصبحت تراها عبئا لم تعد تقدر على تحمله أمام شعبها بل وأمام نفسها. 

وقلت في 31 ديسمبر بكل أدب ممكن أن “المؤلم والمؤسف والمخزي هو ما أكدته الأسابيع الماضية من أن الدول العربية، في معظمها، لا تملك سيادتها ولا تتحكم في قرارها، وجلّ مواقفها الذليلة هي تلبية لإرادة خارجية لا تملك أمامها إلا الانحناء بل والسجود، ثم تكليف الإعلام المرتزق بترويج تبريرات لا تقنع حتى من يصوغون عبارتها، والكل يعلم دور سيف المعز وبعض ذهبه”.

وتقدمت غزة بقوافل يومية هائلة من الشهداء، لم يعرف الوطن العربي مثل عددهم الضخم إلا في الجزائر خلال الاستعمار الفرنسي، وأعطت بدماء أبنائها وأشلائهم لمن خُدعوا بآفاق السلام الزائف فرصة مراجعة النفس بكل موضوعية.

وعندما بدا أن الكيان الصهيوني يمارس حرب إبادة حقيقية، كنت أتصور أن الوقت قد حان ليدخل حزب الله إلى المعركة، لكنني لم أجرؤ يومها على قول ذلك لحزب ثوري، لا شك أن قيادته قد قرأت ما قاله ماكيافيللي مذ عقود، وكنت أرجو في أعماق أعماقي أن يدرك رجال الحزب أن الدور سيأتي عليهم.

ولا أنكر بأن دخول قوات حزب الله للمعركة في أسابيعها الأولى لو حدث فإنه سيكون كان خطأ سياسيا واستراتيجيا يؤثر سلبا على النتائج الباهرة لطوفان الأقصى، حيث كانت ردود فعل الكيان عليه جريمة حرب حقيقية ثار لها الملايين في العالم، كان منهم من راح يترحم على أدولف هتلر، وراحت الآلاف المؤلفة من الأوربيين الذين خدعتهم الدعاية الصهيونية تعيد قضية فلسطين إلى واجهة الأحداث الدولية وترفع الأعلام رباعية اللون في كل مكان….الأعلام التي مُنعت في بعض أجزاء الوطن العربي الذي كان يتغنى يوما ما بأناشيد الوطن الأكبر، قبل أن يختطف الموت الرجال.

ومعنى هذا، للأمانة ولو أغضب ذلك جنرالات المقاهي، أنه لو تدخل حزب الله في الأسابيع الأولى لهجوم رجال المقاومة فإن ذلك سيجعل إسرائيل تبدو ضحية مسكينة، مما يجهض النتائج الإيجابية لطوفان الأقصى.

غير أنني، ببساطة شديدة، كنت أرى أنه كان على حزب الله أن يحدد اللحظة المناسبة التي يضع فيها كل ثقله لتشتيت فعالية العدوّ الصهيوني، ولم أكن أتخيل أن ضعف الحاسة الأمنية سوف تمكن العدو الصهيوني من القيام بعملية ليس فيها من العبقرية إلا استغلال نقطة الضعف في الجانب العربي، تماما كما حدث في هزيمة 1967، والتي كان أسوأ ما فيها أنه كان يمكن أن تكون انتصارا عربيا صاعقا لو كانت قيادة القوات المسلحة ومخابراتها آنذاك تجسد على أرض الواقع كلمات المشير عامر للرئيس ناصر…”برقبتي يا ريّسْ”.

كانت هزيمة يونيو في مصر أساسا خللا مخابراتيا لا يتحمل رجال القوات المسلحة المصرية ولا الشعب المصري مسؤوليته، مثل ما هي ضربة اليوم في لبنان، التي كانت أيضا خللا أمنيا لا يتحمل جنود حزب الله تبعاته.

وما يعانيه لبنان وجنوبه على وجه التحديد يستحق وقفة قد تتناقض مع أخلاقيات التعامل مع شقيق جريح، لكنني قلت، بأقصى قدر ممكن من العفة، ما أراه، لأنني لا أريد أن أكون شيطانا أخرس.

والسؤال: هل اقتصرت الرجولة على مناطق محدودة من الوطن العربي والعالم الإسلاميّ وانتصرت الدياثة في جل الأقطار؟.

شارك الخبر

إقرأ أيضا