آخر الأخبار

مقال.. كيف حافظ معلمو القدس على هوية المدينة منذ اللحظات الأولى للنكسة؟

شارك





شنت إسرائيل حربها المعروفة بـ"حرب الأيام الستة" في 5 يونيو/حزيران 1967م، وفي اليوم الثالث من بدء العمليات العسكرية تمكنت إسرائيل من استكمال احتلال القدس -كانت قد احتلت 84% منها إبان معارك النكبة- وشرعت مساء اليوم السادس من تلك الحرب في هدم حارة المغاربة ومسحها كاملا، لتجهيز المكان لاحتفالات دينية يهودية قد تمت في اليوم التاسع، الثلاثاء 13 يونيو/حزيران.

لم ينته يونيو/حزيران من عام 1967 حتى أعلن الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) ضم القدس الشرقية إلى إسرائيل، أي إخضاعها للقوانين الإسرائيلية على المستويات كافة، الأماكن الدينية والمدارس والمؤسسات الثقافية والصحية، وغيرها. وتعامل الاحتلال مع القدس الشرقية باعتبارها مدينة "محررة" منح نفسه حرية العبث في شؤونها كافة، وليست "مدينة محتلة" يحتفظ سكانها بهويتهم وحقوقهم المدنية.

مصدر الصورة الشيخ عبد الحميد السائح أنشأ الهيئة الإسلامية للتصدي لهجمة وزارة الأديان على الأماكن المقدسة (الصحافة الفلسطينية)

"قادة شجعان"

هكذا ساد الرعب والقلق أوساط المجتمع المقدسي الذي استذكر مذابح النكبة، خاصة دير ياسين المجاورة. ولكن انبرى عدد من قادة المجتمع الشجعان الذين قرروا مواجهة الاحتلال، فوقع صراع حقيقي بين الاحتلال والمجتمع المدني المقدسي، تجلى في إنشاء الهيئة الإسلامية برئاسة المرحوم عبد الحميد السائح التي تصدت لهجمة وزارة الأديان الإسرائيلية، وقامت الهيئة بحماية الأماكن المقدسة واستمرار إدارتها.

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 غزل أبو ريان.. طفلة غزية تناشد العالم لتأمين العيش والعودة إلى المدرسة
* list 2 of 2 بحثا عن الأمان والقيم المحافظة.. التعليم المنزلي يشهد طفرة في أميركا end of list

ففي مجال التعليم والمدارس، ووفقا لقرار الاحتلال توحيد مدينة القدس وجعلها عاصمة له، فإن المنظومة التعليمية في دولة الاحتلال أخذت تتجه نحو انتزاع الهوية العربية والإسلامية للتعليم في القدس الشرقية، من أجل إلحاقها بمنظومة الاحتلال التعليمية، بأسرلتها وتهويدها.

في تلك الأثناء، كان معلمو القدس يراقبون كل ما يجري على الأرض من أحداث، وذلك بقيادة التربوي المقدسي العريق المرحوم حسني الأشهب ، إذ جمع حوله نخبة من المعلمين الأوفياء الذين استجابوا لنداء الوطن؛ فكانوا الدرع الحصينة في حماية الوعي والانتماء وتثبيت الهوية لأجيال القدس.

إعلان

كما أن المجتمع المقدسي كان سندا قويا لتلك القيادة التربوية الوطنية، فعندما وضعت سلطة الاحتلال يدها على مدرسة الرشيدية الثانوية (حكومية) كانت تضم 39 معلما و12 طالبا فقط، علما بأنها كانت تضم نحو 780 طالبا قبل الحرب.

وهكذا احتدم الصراع مع الاحتلال بأن رفض المجتمع المدني المقدسي الخضوع لإملاءات الاحتلال بفرض منهاجه على مدارس القدس، ويوجز التربوي المقدسي المرحوم طاهر النمري مراحل الصراع بالآتي:


* تحرك رئيس مكتب التربية حسني الأشهب لتشكيل مجموعة "بؤرية" كخلية أزمة، تتكون من حسني الأشهب، وفوزي جابر، وطاهر النمري، وعلية نسيبة، وفاطمة أبو السعود، وإبراهيم الباشا، وعبد الجليل النتشة. وحملت هذه المجموعة مسمى "لجنة المعلمين السرية"، وكان رئيسها "حسني الأشهب"، وأمين سرها "النمري" وجسر الاتصال فيها المعلمتين: علية نسبية وفاطمة أبو السعود.
* قامت القيادة المكلفة بالمحافظة على مناهج التعليم العربي في مدينة القدس، وهكذا استمر العمل الجاد والفاعل، بقيادة "حسني الأشهب" الذي كان يوجه السياسات التربوية العليا، بالتنسيق "الدائم" مع الحكومة الأردنية.
* أعلن المرحوم حسني الأشهب عن إضراب المعلمين فأضرب الطلبة بدعم المجتمع المدني المقدسي ومساندته، وتبنى الإضراب ودعمه بقوة واقتدار العديد من الشخصيات التربوية الوطنية المقدسية، ومنهم نهاد أبو غربية مدير الكلية الإبراهيمية، وم. حسن القيق مدير المدرسة الصناعية الثانوية التابعة لجمعية دار اليتيم العربي، وفاطمة أبو السعود، وعلية نسيبة، والأب ألفرد روك مدير كلية تراسنطة، وطاهر النمري الذي اعتقله الاحتلال مع حسني الأشهب، وغيرهم.
* عندما استشعر الاحتلال تأثير هذه المجموعة قام بعد 6 أشهر باعتقال أعضاء اللجنة من الرجال، بالإضافة إلى المرحوم أحمد عبد اللطيف، فأجرى ضباط مخابرات الاحتلال -وهم أكاديميون كذلك- تحقيقات حوارية مع المعتقلين، انتهت بصمودهم واضطرار الاحتلال للإفراج عنهم بعد 44 يوما.
* كانت هناك 48 مدرسة حكومية ألحقها الاحتلال بوزارته "المعارف"، وعين مديرين لها، فغادر مئات الطلبة تلك المدارس وتوجهوا إلى المدارس التي التزمت بالمنهاج الأردني، فكان رد اللجنة السرية برئاسة حسني الأشهب أن قامت بتشكيل مدارس بديلة، وهي المدارس الخاصة الخمس التالية: الفتاة اللاجئة، والنظامية، والنهضة، والروضة، والأيتام الإسلامية. فقد قام حسني الأشهب باستئجارها واستخدام تراخيصها، وعندما فاضت أعداد الطلبة والمعلمين عن إمكانات الاستيعاب، وبغرض الاستفادة من التراخيص؛ قام بتفريع كل مدرسة إلى مجموعة مدارس أخرى تحت المسمى نفسه، ولكل منها رمز خاص (أ، ب، ج…). مصدر الصورة حسني الأشهب أسس مع مجموعة من قادة التعليم في القدس لجنة سرية لمواجهة تهويد المناهج (الصحافة الفلسطينية)
* كان في القدس 38 مدرسة، أهلية وخاصة وطائفية، التزمت جميعها بالمنهاج الأردني. وتم التوافق فيما بينها على تشكيل قيادة مشتركة باسم "لجنة المدارس الخاصة بالقدس"، ورئيسها عبد المحسن جابر الذي كان يعمل بتوجيهات مباشرة من "حسني الأشهب".
* فتحت المدارس الخاصة المسيحية أبوابها للقيادة التربوية الوطنية، كما فتحت الآفاق لاستخدامها بما يحفظ للقدس عروبتها.
في النهاية، أُرغِم الاحتلال على القبول بتعليم المنهاج العربي في مدارس القدس، وحتى في المدارس الرسمية التابعة لبلدية الاحتلال. ويعود ذلك إلى القيادة المكلفة بالمحافظة على مناهج التعليم العربي في مدينة القدس. وهكذا استمر العمل الجاد والفاعل بقيادة حسني الأشهب الذي كان يوجه السياسات التربوية العليا بالتنسيق الدائم مع الحكومة الأردنية.
* وفي إشارة إلى دور المرحوم حسني الأشهب في المحافظة على شخصية الإنسان المقدسي وهويته، تقتضي الأمانة أن أذكر جملة قالتها السيدة الشيماء البديري (واحدة من أبناء الجيل الذي نهل من إنجازات فترة حسني الأشهب) إذ تقول "رحم الله حسني الأشهب وصحبه الكرام الذين لولاهم لما تعلمنا العربية، ولكنا نتجرع العبرية في كل شأن من شؤون حياتنا".
* لم يتوقف دور القيادة التربوية الوطنية عند فرض المنهاج العربي في التعليم، وإنما امتد أثرهم ليكونوا حاضنة للمعلمين الوطنيين الذين تشملهم إجراءات الاحتلال بالفصل أو بالملاحقة، وذلك بتوفير أماكن عمل لهم في المدارس التي تُدار فلسطينيا، بعيدا عن هيمنة الاحتلال.
مثلا، يروي محمود شقير في مذكراته التي كتبها "محمود الكعبي" أنه عندما فُصل، هو وزميله، من إحدى المدارس الخاصة لأسباب سياسية، قام حسني الأشهب بتعيينهما في مدرسة دار الأيتام الثانوية المسائية الواقعة في طريق الواد في البلدة القديمة.
كما أن كاتب هذه السطور فصلته سلطات الاحتلال من مدرسة بنات أريحا الثانوية لأسباب سياسية، فاستدعاه المرحوم حسني الأشهب، وطلب منه التوجه إلى المرحوم نهاد أبو غربية ، رئيس الكلية الإبراهيمية بالقدس، حيث عُيّن معلما في تلك الكلية الرائدة التي تربض في خاصرة الجامعة العبرية، وتحفظ عروبة المكان.
إعلان

بمرور الزمن، وبالإصرار ومضاعفة الجهود، وباستصدار تراخيص لمدارس أخرى؛ أصبح الآن في القدس 51 مدرسة أوقاف كان يطلق عليها مدارس حسني الأشهب، تشكل مديرية تربية القدس، وتدار مباشرة من قبل وزارة التربية والتعليم الفلسطينية ومديرية أوقاف القدس، إضافة إلى 76 مدرسة خاصة وأهلية.

بين منهاجين

هكذا، نجد أنفسنا أمام قيادة تربوية تاريخية أنقذت الأجيال المقدسية التالية من ضياع محقق، إذ إن المنهاج الإسرائيلي الذي كانت دولة الاحتلال تسعى إلى فرضه بالقوة، يقطع مقومات انتمائهم إلى هويتهم الوطنية، وإلى أمتهم، وتراثهم الوطني، ويُخضعهم إلى "غسل دماغ" ينكر عروبة مدينتهم المقدسة، ويتنكر للانتماء إلى أمتهم كأمة عربية عريقة، ولا يسعى إلى وحدتها وعزتها، في حين أن المنهاج الأردني يغرس في الطالب صدق الانتماء إلى وطنه وأمته، وإلى الإنسانية بوجهها العادل، ويقوم على تربية المتعلم تربية سليمة قويمة، ملؤها حب الوطن والانتماء له والدفاع عنه.

وبعد مجيء السلطة الوطنية الفلسطينية حلّ المنهاج الفلسطيني محل المنهاج الأردني، وذلك رفع وتيرة الصراع مع الاحتلال الذي طور أساليبه من أجل اختراق العملية التعليمية لمصلحة مخططاته التي بدأها عام 1967 وفق الوصف أعلاه.

من جانب آخر، لا بد لنا من التوقف عند المجتمع المدني المقدسي الذي استمر قائما على التعليم في القدس، بعيدا عن الاحتلال وأمواله، من خلال مؤسسات تربوية غير ربحية، إسلامية ومسيحية، مثل كلية الأمة، ومدارس رياض الأقصى الإسلامية، ومدارس الإيمان، ومدارس الأوقاف المذكورة أعلاه، ومؤسسة فيصل الحسيني (2002)، وأعداد كبيرة من رياض الأطفال والمدارس الأساسية التي تديرها جمعيات خيرية وأطر نسوية، ومؤسسة "النيزك" المشهورة التي ترعى الطلبة المبدعين في المجالات العلمية والتكنولوجية. وهناك عدد كبير من المؤسسات التعليمية التي تتبع الكنائس في القدس، يضاف إلى ذلك مدارس تعلم الطلبة مقابل أقساط كالكلية الإبراهيمية بالقدس وغيرها.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا