الملح من الأشياء التي لا غنى عنها في طعامنا، وعلى الرغم من التحذيرات من مخاطر استهلاك الكثير منه على الصحة العامة، بدأ ينتشر حديث عن أضرار "قلة" الملح في الطعام.
يعد عنصر الصوديوم - الأساسي في تركيبة الملح - حيوياً لأجسادنا، فبدونه لا تستطيع الحفاظ على توازن السوائل، وهو أمر ضروري لنقل الأكسجين والمغذيات داخل الجسم، وبه تنطلق النبضات العصبية بين الخلايا.
وفي الأغلب كانت المشكلة تتمثل في الإفراط في تناول الملح، ولذا يستمر مسؤولو الصحة حول العالم في تحذيرنا من مخاطر الإكثار منه.
ويوصي الأطباء ألا يزيد ما يتناوله الشخص البالغ من الملح يومياً عن ستة غرامات، أما في بريطانيا فالفرد البالغ يتناول في المتوسط ما يقارب ثمانية غرامات، وفي الولايات المتحدة ترتفع النسبة إلى 8.5 غراماً يومياً.
يأتي ربع ما نتناوله من الملح يومياً من إضافة الملح مباشرة للطعام، بينما الثلاثة أرباع الأخرى تأتي من الملح المضاف للأغذية التي نشتريها كالخبز والمرق والأطعمة المصنعة.
ومما يزيد اللّبس أن الشركات تشير إلى الملح بين مكونات منتجاتها من الطعام بكلمة "الصوديوم"، ما قد يجعلنا نظن أننا نتناول كميات أقل من الملح.
والملح يتكون من الصوديوم وأيونات الكلوريد، ويحتوي كل 2.5 غرام من الملح على غرام واحد فقط من الصوديوم.
وتقول ماي سيمكين، خبيرة التغذية، إن الناس لا يدركون ذلك معتقدين أن الصوديوم مرادف تام للملح، ولا يوجد هناك من يخبرهم بغير ذلك.
وأثبتت أبحاث عديدة أن الإفراط في تناول الملح يتسبب في ارتفاع ضغط الدم، وهو ما يزيد مخاطر الإصابة بالسكتات الدماغية وأمراض القلب، وهناك اتفاق كبير بين العلماء على أن الأدلة التي تشير إلى أضرار الملح دامغة، فهو يؤدي إلى احتفاظ الجسم بالماء، مما يرفع ضغط الدم.
ومع زيادة ما يتناوله الفرد من الملح قد تتعرض الشرايين مع مرور الوقت للتلف ويصبح ضغط الدم المرتفع عرضاً مرضياً، وهو ما يتسبب بدوره في نحو 62 في المئة من السكتات الدماغية، و49 في المئة من أمراض الشريان التاجي، بحسب أرقام منظمة الصحة العالمية.
وبالجمع بين ما خلصت إليه 13 دراسة على مدار 35 عاماً، وُجِد أن تناول خمسة غرامات إضافية من الملح يومياً يزيد خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية بنسبة 17 في المئة، وبالسكتات الدماغية بنسبة 23 في المئة.
وبتقليل الملح يومياً، قد تختفي المتاعب الصحية، فقد أظهر تحليل بيانات ضغط الدم ومسببات أخرى لأمراض القلب والأوعية الدموية ومتوسط تناول الملح على مدار ثماني سنوات، أن خفض نسبة الملح بنحو 1.4 غرام يومياً أدى لانخفاض معدل ضغط الدم، وهو ما أدى بدوره لتراجع حالات السكتة الدماغية القاتلة بنسبة 42 في المئة، وفي وفيات أمراض القلب بنسبة 40 في المئة.
وأقر الباحثون في تلك الدراسات بصعوبة فصل أثر خفض الملح عن تغيرات أخرى متعلقة بنمط الأكل والمعيشة، إذ أن من يدرك خطورة الملح ويسعى للتقليل منه، عادة ما يتبنى توجهات صحية أخرى في الأكل والحركة، بالإضافة إلى التقليل من التدخين وشرب الكحوليات.
وفي البداية هناك حاجة للاستناد إلى تجارب عشوائية طويلة الأمد تقارن أشخاصاً يتناولون الكثير من الملح بآخرين يقللون منه، للوقوف على حقيقة وجود صلة مباشرة، ولكن تلك التجارب قليلة ولا تفي بالمطلوب لضعف التمويل، فضلاً عن اعتبارات أخلاقية أيضاً.
ويقول فرانسيسكو كابوتشيو، أستاذ أمراض القلب والأوعية الدموية بكلية طب جامعة ووريك، والمسؤول عن دراسة السنوات الثمان، إن "القيام بتجارب عشوائية على الأثر المباشر للملح على الجسم يكاد يكون أمراً مستحيلاً".
لكنه يضيف أنه لا توجد تجارب عشوائية على السمنة أو التدخين "وهي الأخرى من المسببات المعروفة للوفاة".
مع هذا فهناك الكثير من النتائج القائمة على الملاحظات، فبعد أن تبنت الحكومة اليابانية حملة في أواخر الستينيات لتوعية المواطنين بمخاطر الملح، تراجع الاستهلاك من 13.5 غراماً إلى 12 غراماً يومياً؛ وخلال نفس الفترة انخفضت الإصابة بضغط الدم، وتراجعت الوفيات جراء السكتة الدماغية بنسبة 80 في المئة.
وفي فنلندا، انخفض استهلاك الفرد من الملح من 12 غراماً يومياً أواخر السبعينيات إلى تسعة غرامات بحلول عام 2002، وهو ما صاحبه انخفاض في وفيات السكتة وأمراض القلب بنحو 75 إلى 80 في المئة في ذات الفترة.
لكن ما يعقد الصورة، أن أثر استهلاك الملح على ضغط الدم وصحة القلب يختلف من شخص لآخر.
وقد أظهرت دراسات اختلاف استجابة أجسادنا للملح نظراً لعوامل كثيرة، منها ما يتعلق بالعرق، والسن، وحساب الوزن إلى الطول، والصحة العامة، والتاريخ المرضي للعائلة فيما يتعلق بضغط الدم.
وأظهرت دراسات أن هناك أشخاصاً أكثر حساسية للملح بشكل يجعلهم أكثر عرضة لارتفاع ضغط الدم جراء تناوله.
بل إن بعض العلماء بدأوا يحذرون من مغبة الإقلال من الملح في الطعام باعتبار أن ذلك لا يقل خطراً عن ارتفاع ضغط الدم، بمعنى أن الإقلال من الملح لحد معين قد يؤدي، مثل زيادته، إلى رفع ضغط الدم!
وكشفت دراسة مجمعة عن وجود صلة بين تدني استهلاك الملح والإصابة بأمراض القلب والأوعية وحتى الوفاة، وقال الباحثون في هذه الدراسة إن تناول أقل من 5.6 غراماً من الملح يومياً، أو أكثر من 12.5 غراماً منه يومياً، يؤدي لمتاعب صحية.
كما خلصت دراسة أخرى بمشاركة أكثر من 170 ألف شخص إلى نتائج مشابهة.
حيث كشفت وجود صلة بين تدني استهلاك الملح لأقل من 7.5 غراماً وارتفاع إصابات القلب والأوعية الدموية والوفاة لأشخاص منهم من عانى الضغط المرتفع، ومنهم من كان سليماً، وذلك عند المقارنة بأشخاص كانوا يتناولون قدراً "معتدلاً" من الملح يصل إلى 12.5 غراماً يومياً (أي نحو ملعقة ونصف إلى ملعقتين ونصف صغيرتين)، وهذا القدر المعتدل حوالي ضعف الحد الموصى به يومياً في بريطانيا.
وخلص آندرو مينت، خبير الأمراض المتعلقة بالتغذية بجامعة مكماستر بأونتاريو، والقائم على هذه الدراسة، إلى أن خفض كمية الملح من حد مرتفع إلى معتدل يقلل مخاطر الإصابة بارتفاع ضغط الدم، بينما لا توجد أي فائدة على الصحة من خفض الملح لأقل من ذلك، بل قد تكون هناك فائدة من زيادة الملح من مستوى متدن إلى معتدل.
ويقول: "يتفق ما خلصت إليه الدراسة من فائدة الإبقاء على مستوى معتدل من الملح مع ما نعرفه عن المغذيات الأساسية، إذ يقود الإفراط منها إلى السمية، فيما يؤدي الافتقار إليها لمتاعب أخرى. وخير الأمور الوسط."
لكن هناك من يختلف مع ما سبق، ومنهم كابوتشيو الذي يصر على أن الإقلال من الملح سيؤدي إلى انخفاض ضغط الدم لدى الجميع.
ويقول كابوتشيو، إن النتائج المغايرة هي نتاج لـ"دراسات قليلة" خلال السنوات الأخيرة، وقد اعتمدت على مشاركة أشخاص "يعانون أساساً" من أمراض، واستندت لـ "بيانات معيبة" - ومنها دراسة مينت التي اعتمدت على عينات بول فورية لصائمين بدلاً من الاختبار الأكثر موثوقية بأخذ عدة عينات على مدار 24 ساعة كاملة.
وتقر سارا ستانر، المديرة العلمية بالمؤسسة الخيرية للتغذية البريطانية، بقوة الأدلة القائلة إن "تقليل الملح" لمرضى الضغط المرتفع يؤدي لـ "انخفاض ضغط الدم، والإصابة بأمراض القلب."
وتشير إلى أنه يندر أن تجد من يتناول ثلاثة غرامات يومياً فقط من الملح، وهو المستوى الذي يصفه البحث السابق بشديد الخطورة، فالطعام الذي نشتريه فيه من الملح ما هو أكثر من ذلك بالفعل دون الحاجة لإضافة مزيد منه.
وتؤكد أن أغلب ما نتناوله من ملح موجود في أطعمة نستهلكها بشكل يومي، وتوصي بإدخال تغيير جذري على صناعة الأغذية لخفض مستوى الملح.
كذلك تختلف آراء الخبراء حول ما إذا كان يمكن تعويض الأثر السيء لزيادة الملح باتباع أنظمة صحية بطرق أخرى، مثل ممارسة الرياضة، ويقول البعض، مثل ستانر، إن تناول أغذية غنية بالبوتاسيوم كالفواكه والخضراوات والجوز والحليب ومشتقاته يعمل على تحييد الآثار الضارة للملح على ضغط الدم.
وتقول سيو ماتيو، المحاضرة في اقتصاد الصحة بجامعة لانكاستر، إنه ينبغي أن تكون الأولوية للتوعية بالملح غير الظاهر في ما نتناوله من طعام بدلاً من محاولة الامتناع عنه كلية.
وتضيف: "ربما ترتبط المشكلات المتعلقة بزيادة الملح في الجسم بمشكلات مشابهة تتعلق بنقصانه، ولكن يلزم إجراء الكثير من الأبحاث لفهم المزيد حول هذا الأمر، ولحين استكمال البحوث اللازمة، على الشخص المهتم بصحته تناول كميات أقل، فكلما زادت كميات الملح يصعب التعامل معها، كما أن الامتناع عن الملح كلية فليس بالأمر الجيد".
ورغم الدراسات الأخيرة التي تحدثت عن مخاطر التقليل من الملح، ورغم أن مدى التأثر بالملح قد يختلف من شخص لآخر، يظل المؤكد حتى الآن أن الإكثار من الملح يرفع ضغط الدم. أما ما يقال غير ذلك، فلا يعتبره الجميع حقيقاً.