آخر الأخبار

"الرجال بلا مشاعر" ومعلومات مغلوطة أخرى لا نفهمها عن "الرجولة"

شارك
مصدر الصورة

من الشائع في مجتمعاتنا العربيّة أن ينشأ الأولاد في أسرٍ لا يُظهر فيها الآباء مشاعرهم بشكلٍ صريح. وإذا عبّروا عنها، فإنّ الغضب غالباً ما يكون الشعور الوحيد المسموح بإظهاره.

وإن "تلصصنا" على المحادثات الخاصة لشابات في يومنا على إنستغرام، قد نجد هاجساً مشتركاً، وهو السخرية أو الغضب من من برود الرجال العاطفي، ولا مبالاتهم، والحيرة في كيفيّة التعامل معهم، وضرورة عرضهم على أطباء نفسيين.

ورغم أنّ هذه المواد تبدو، في ظاهرها، نوعاً من المزاح البريء المنتشر على الإنترنت، إلا إنّها تسلّط الضوء على أزمةٍ أعمق، تتعلّق بطريقة تفاعل الرجال مع مشاعرهم، ومع الآخرين، في العلاقات التي تتطلّب قدراً من التعبير العاطفيّ.

هناك اعتقاد سائد لا يزال راسخاً في ثقافتنا، أنّ الرجال لا يعبرون عن عواطفهم، أنهم "بلا مشاعر". ويرى كثيرون أنه من "المعيب" على الرجل أن يشكي همه، يفصح عن هشاشته أو مشاعره، فالرجال "لا يبكون". ولكن هذه الأفكار قد تكون خطيرة وتؤثّر على صحة الرجال النفسية والجسدية على المدى الطويل.

فهل يعاني الرجال حقاً من "برود عاطفي"، أم أنه نتاج لتوقعات اجتماعيّة مفروضة عليهم؟

1- "الرجال غير عاطفيين"

واحدة من أكثر المعلومات المغلوطة شيوعاً التي تتردد في مجتمعاتنا هي أنّ الرجل "بطبيعته" أقلّ عاطفية، أو غير قادر على الإحساس العميق. هذه الفكرة، المتداولة على نطاقٍ واسع، تُعامل كحقيقة بيولوجية، وكأنّ الرجل مؤهّل للتعبير أو حتى الشعور.

يرى المعالج النفسي هادي أبي المنى في حديث إلى بي بي سي عربي أن "واحدة من أبرز الصور النمطية المغلوطة في مجتمعاتنا هي الاعتقاد بأنّ التعبير عن المشاعر سلوكٌ "أنثوي"، وكأنّ المشاعر بطبيعتها ترتبط بالأنوثة. في المقابل، يُنظر إلى كتمان المشاعر أو تحمّل الألم بصمتٍ على أنه دليل على "الرجولة".

هذا الربط القائم بين قمع المشاعر و"الرجولة" لا ينعكس فقط على الحياة العاطفية للرجال، بل على صحّتهم النفسيّة أيضاً، إذ يحرم كثيرون من فرصة العيش بتوازنٍ وهدوءٍ داخليّ، خوفاً من أن يساء فهم ضعفهم أو حساسيّتهم.

يقول المعالج النفسي هادي أبي المنى في حديثٍ إلى بي بي سي عربي: "كثيراً ما يقال إنّ الرجال ليسوا عاطفيّين بما يكفي، أو أنّهم غير قادرين على الشعور بعمق، وبالتالي لا يعبّرون عن مشاعرهم بالطريقة نفسها المتوقعة من النساء. يعتقد أنّ هذا أمرٌ طبيعي، يولد به الذكر. لكن الحقيقة أنّ جميع البشر، رجالاً ونساءً، يتساوون في القدرة على الشعور وعمق الإحساس".

ما الذي يحدث إذن؟ بحسب أبي المنى، فإنّ الرجل، وخصوصاً في مجتمعاتنا، "يتعلّم منذ الصغر ألّا يعبّر عن مشاعره بالكلام". هذا التعليم لا يلغي المشاعر، بل يدفنها، أو يعيد توجيهها. ويشرح المعالج النفسي أنّ هذه المشاعر "لا تختفي، بل تتحوّل وتظهر بطرقٍ أخرى، مثل الصمت، أو الغضب، أو الانغماس المفرط في العمل".

عندما سألناه إن كان الانشغال بالعمل يمنح شعوراً مؤقّتاً بالراحة، أجاب: "على المدى القصير، نعم. لكن استبدال الشعور الأساسي بمشاعر أو أفعالٍ أخرى، يمنع الفرد من إدراك مشاعره وتحليلها، والاعتراف بها وفهمها والتعبير عنها، أي أنه يتجنّبها تماماً".

ويشدّد أبي المنى على أنّ هذا التجنّب "ليس حلاً طويل الأمد، ولا يساهم في معالجة المشاعر أو حلّ المشكلة الأساسيّة".

مصدر الصورة

2- "الكلام لن يحلّ المشكلة"

يشيرهادي أبي المنى إلى أنّ واحد من أكثر الأفكار المتكرّرة التي يسمعها من الرجال الذين يتجنّبون اللجوء إلى العلاج النفسي، هي أن "الحديث عن المشكلة لا قيمة له، لأنه لا يساعد في حلّها".

لكنّه يوضح أنّ الحديث عن المشكلة هو بالضبط ما يشكّل جوهر العلاج النفسي. ويقول: "يسمح العلاج النفسي للشخص بالتحدّث عن مشكلاته ومشاعره، ويفهم ماذا يحدث معه، حتى لو لم يجد حلولاً فوريّة للمشكلة. ذلك يعطي فكرة عن كيفية التعامل مع مشاعره وتنظيمها".

ويلفت إلى نقطة مهمّة غالباً ما تغفل: "حين يقوم الشخص بتسمية مشكلاته، يعطيه ذلك القليل من القوة أمامها".

من جهتها، ترى المعالجة النفسية جيزيل صليبا أنّ تردّد الرجال في اللجوء إلى العلاج النفسي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بصورة نمطيّة رُسّخت في أذهانهم منذ الصغر. وتقول لـبي بي سي عربي: "الرجال الذين يتخذون قرار اللجوء إلى معالج نفسي غالباً ما يكونون متردّدين جداً، بسبب اعتقادهم بأنّ ذلك يُعدّ ضعفاً أو يقلّل من رجولتهم".

وتشرح قائلة: " دائماً ما يؤكّدون أنّ أحداً لا يجب أن يعلم بالأمر. يحصل ذلك لأنهم سمعوا منذ الصغر عبارات مثل: أنت رجل، عليك أن تكون قادراً على فعل كل شيء وحدك، أو حلّ كل شيء من دون مساعدة".

وتضيف: "تجنّب التعبير عن المشاعر شائعٌ جداً بين الرجال، لأنّهم كأطفال قيل لهم إنّ البكاء أو التعبير عن التوتر أو الخوف أو الانزعاج، لا يليق بالذكور، وأن الرجال لا يفعلون ذلك".

مصدر الصورة

3- "الوقت كفيل بحل كل شيء"

لطالما سمعنا في الأمثال الشعبيّة والأغاني المتداولة بلغاتٍ عدّة أنّ "الوقت كفيل بحلّ كل شيء" أو "الزمن يُنسي". لكنّ الأبحاث أثبتت مراراً أنّ هذا الاعتقاد الشائع لا يستند إلى أساسٍ علميّ.

ويشرح هادي أبي المنى أنّ تجاهل المشكلة أو الامتناع عن الحديث عنها لا يساهم في حلّها، بل يؤدّي إلى تفاقمها مع مرور الوقت. ويقول: "تجنّبنا الحديث عن أمرٍ ما يجعل المشكلة تتضخّم، فبدلاً من أن تختفي، تصبح أكثر تعقيداً".

ويقدّم مثالاً توضيحيّاً قائلاً: "ليس بالضرورة أن تصاب أسناننا بالتسوّس كي نبدأ بتنظيفها. الحقيقة أنّنا ننظّفها كي لا تصاب بالتسوّس، أو تتفاقم المشكلة لاحقاً".

ويشدّد على أهمية التدخّل المبكر، قائلاً إنّه "كلّما حصل التدخّل في وقتٍ أبكر، كلّما خفّت حدّة المشكلة، وتراجعت احتمالات امتدادها إلى جوانب أخرى من حياة الفرد".

4- "الرجال يتدبرون أمورهم بدون مساعدة"

مصدر الصورة

ويشير هادي أبي المنى إلى أنّ أحد الأسباب الجذريّة وراء تردّد الرجال في طلب الدعم النفسي، هو أنّهم ببساطة لم يتعلّموا أنّ طلب المساعدة أمرٌ طبيعي.

ويشرح أنّ الرجل، حين يبادر إلى طلب الدعم، "يحمَّل بالعار وينظر إليه على أنّه ضعيف"، لأنّ المجتمع يربط بين مفهوم "الرجولة" وبين الاستقلاليّة التامّة وعدم الحاجة إلى أحد.

ويقول: "الصورة النمطيّة للرجل القوي، الذي يمكنه حلّ كل شيء بنفسه، والذي لا يحتاج ولا يطلب مساعدة، ما زالت مرتبطة اجتماعياً بفكرة الرجولة والقوة. في المقابل، ينظَر إلى الرجل الذي يطلب المساعدة أو يعبّر عن مشاعره على أنّه ليس رجلاً بما فيه الكفاية".

هذه المعايير المغلوطة، كما يشير أبي المنى، تثير أسئلة كثيرة حول تأثير التوقّعات الاجتماعيّة غير المنطقيّة على الصحة العقليّة للرجال، وعلى قدرتهم في التفاعل مع أنفسهم والآخرين بصدقٍ وراحة.

5- "الرجل الناجح هو المتماسك دائماً"

يؤكّد هادي أبي المنى أنّ النجاح الحقيقي لا يقاس بمدى التماسك الظاهري أو الصلابة الخارجيّة، بل يرتبط بالقدرة على تحقيق توازن داخلي يمكّن الفرد من فهم مشاعره ومشكلاته والتعامل معها بشكلٍ صحّي.

ويضيف أنّ الوعي بالمشاعر والقدرة على تنظيمها هو ما يوفّر للشخص أدوات فعليّة للتقدّم بثبات، بينما أيّ اضطراب داخلي غير معالَج في التعامل مع الأفكار والمشاعر قد يعيق تطوّره الشخصي والمهنيّ على حدّ سواء.

من جهتها، تلفت المعالجة النفسيّة جيزيل صليبا إلى أنّ بعض الأشخاص الذين يسعون إلى التحكّم الكامل بأنفسهم، ويحاولون أن يكونوا عقلانيّين طوال الوقت، إنّما يعبّرون عن تربية قائمة على تصوّرٍ خاطئ مفاده أنّ المشاعر أمرٌ سلبي.

وتقول: "هناك من يعتقد أنّ عليه أن يهتم فقط بالعمل ويقمع أي وجود للمشاعر. هؤلاء غالباً ما نشأوا على فكرة أنّ الشعور هو ضعف، وأنّ الانشغال بالوجدان أمرٌ غير منطقي أو غير مجدٍ".

هل تزيد التوقعات الاجتماعية من معاناة الرجل؟

مصدر الصورة

يجمع خبراء الصحة النفسية على أنّ تطوّر أي اضطراب نفسي أو مرض عقلي لا يحدث نتيجة عاملٍ واحد فقط، بل هو نتيجة تقاطع ثلاثة عوامل رئيسية: التكوين البيولوجي، والخلفيّة النفسية، والظروف الاجتماعيّة المحيطة.

وفي هذا السياق، تؤكّد جيزيل صليبا أنّ كبت المشاعر والضوابط الاجتماعيّة غير المنطقيّة التي تُفرض على الرجال، قد تجعلهم أكثر عرضةً لتطوّر مشكلات في الصحة العقليّة.

تقول إن هناك "ضغوطاً كبيرة يضعها المجتمع على الرجل، من بينها أنّه لا يجب عليه التعبير عن مشاعره أو التأثّر أو الحديث عن ذلك".

هذه الضغوط لا تغيّر فقط من شكل التجربة النفسيّة، بل تؤثّر حتى على طبيعة الأعراض التي تظهر لدى الرجال. وتوضح: "نعتقد أن الاكتئاب مثلاً، يظهر لدى الجميع بشكل حزنٍ وانطواء. لكنّه يظهر لدى كثير من الرجال على شكل غضبٍ دائم، لأنّ التعبير عن الحزن غير مسموح به للذكور".

وتضيف أنّ نسب الانتحار أعلى بكثير لدى الرجال مقارنةً بالنساء، قائلةً: "لكي يصل أحدهم إلى هذه المرحلة، فهذا يعني أنّه بلغ وضعاً نفسيّاً بالغ الصعوبة".

وتفسّر هذه الأرقام بقولها: "النساء عادةً لا يواجهن مشكلة في التحدّث عن مشكلاتهنّ ومشاعرهنّ، بينما الرجال غالباً ما يحتفظون بكل شيء لأنفسهم ويكبتون الألم والمشاعر".

"أنت رجل لا يمكنك البكاء"

تشير المعالجة النفسية جيزيل صليبا إلى أنّ نِسب استخدام المواد المخدّرة والإدمان على الكحول أعلى بكثير لدى الرجال مقارنةً بالنساء، كما أنّ اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، الذي يتميّز بأنماط سلوكية تتجاهل حقوق الآخرين وتعتمد على الخداع أو التلاعب والتهوّر، يظهر بشكلٍ أكبر لدى الذكور.

هذا الاضطراب يكون مرتبطاً بعوامل بيولوجيّة وراثيّة بحسب هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية، إضافةً إلى تجارب الطفولة المؤلمة، مثل التعرّض للإهمال أو الإساءة العاطفية أو غياب أحد الوالدَين من الناحية الوجدانية.

أما على الصعيد الجسدي، فيُجمع كلّ من صليبا وهادي أبي المنى على وجود علاقة موثّقة بين الكبت والتوتّر والإجهاد العاطفي من جهة، وظهور أمراض جسديّة من جهة أخرى.

ويضرب أبي المنى مثالاً بمرضي الروماتيزم والفيبروميالجيا، حيث تساهم المشكلات العاطفية، بحسبه، في تفاقم الأعراض. ويقول: "تحريك الجسد، كالمشي أو التمارين الرياضيّة، يساهم كثيراً في تحسين الصحة النفسيّة. أما الكبت والتوتّر، فقد يؤدّيان إلى آلام جسديّة حقيقيّة، مثل الصداع أو ارتفاع ضغط الدم".

وتنبه صليبا إلى خطورة التقليل من شأن التوتّر، وتقول: "في السنوات الأخيرة، نلاحظ تزايداً في الشكاوى الجسديّة التي لا يكون لها تفسير عضوي. ننسى في هذه الحالات أنّ الأمر لا يعني أننا بخير، بل أن التوتّر أو القلق قد تَسبّب فعلاً بمشكلة جسديّة حقيقيّة".

وتشرح قائلة: "أظهرت الدراسات أنّ التوتّر قد يضعف المناعة، يؤثّر على صحّة القلب، يسبّب اضطرابات النوم، أو حتى اضطرابات الأكل، وكلّها ترتبط بعدم القدرة على التعامل مع مشاعرنا بشكلٍ صحّي".

وتختم صليبا بنصيحة توجّهها إلى الأهل، وتحديداً إلى من يربّون أطفالاً ذكوراً: "جملة مثل 'أنت رجل، لا يمكنك البكاء'، كفيلة بأن تجعل الطفل عاجزاً عن التعامل مع مشاعره طوال حياته".

وتضيف: "بدلاً من أن نصنع منه رجلاً أقوى، كما نتصوّر، نكون بذلك قد زرعنا فيه أزمة عاطفيّة عميقة وغياباً للراحة الداخليّة".

وتؤكّد في النهاية: "لا يمكننا أن نمنع أحداً من أن يشعر. ما نفعله، هو أنّنا نجعل مهمّة فهم هذه المشاعر والتعامل معها أصعب بكثير".

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار