آخر الأخبار

الأم والصحة النفسية: الأم ليست بخير، فهل المجتمع بخير؟

شارك
مصدر الصورة

هل فكّرتم يوماً أن الأم التي تبتسم لطفلها كل صباح تخوض معركةً داخليةً لا يراها أحد؟ في هذا التقرير، تروي بعض النساء قصصهن مع معارك الصحة النفسية وكيف تعاملن معها وسط كل التحديات والمسؤوليات التي أُلقيَت على عاتقهن.

السابع من مايو/أيار هذا العام يصادف "اليوم العالمي للصحة العقلية للأم" للتوعية بالقضية، ولا يزال العديد من الأمهات تعانين بصمت وتتحمّلن عبء الضغوط النفسية والجسدية مع مسؤوليات أولادهن وعملهن.

رانيا أحمد، أمٌّ سورية لجأت إلى لبنان مع اندلاع الحرب في سوريا قبل 14 عاماً، تقول إنها عانت كثيراً في الغربة؛ "كنت أقوم بدور الأم والأب في آنٍ واحد"، عندما يمرض أولادها، تقول إنه لا أحد يكون بجانبها، فتتحمّل وحدها مسؤولية رعايتهم والاهتمام بهم. وإذا مرضت هي، فلا تجد من يعتني بها أو حتى يترك لها مجالاً لتستريح. تعيش في خوف دائم، خوف من أن تُحرَم من أطفالها، وخوف عليهم من مستقبل مجهول، وخوف على نفسها مِن استغلال مَن حولها.

منذ عام، لم يظهر والد أطفالها، لا بالسؤال ولا بأي نوع من الدعم، المادي أو المعنوي. هي وحدها من تعمل وتُدير شؤون المنزل وتربية الأولاد. "لا أهل يدعمونني، ولا طليقي، ولا المجتمع يرحم لأنني"مطلقة".

تشرح لي وضعها: أعصابها متعبة، ذهنها مثقلٌ بالهموم. فهي تفكر في مصاريف الأولاد، إيجار البيت، متطلبات الدراسة، وتوفير الطعام، وكل ما يحتاجونه. تعمل رانيا في بيع الخضار والطبخ، لتأمين مصروف البيت - رغم الإرهاق الجسدي الذي تعاني منه. ومع ذلك، فإن ما تعانيه اليوم "أهون من أن تعيش مع رجل سيّئ بكل ما تحمله الكلمة من معنى".

رغم المشقة التي تعيشها الآن، تشعر بأن أطفالها "بدأوا يتنفّسون شيئاً من الراحة النفسية"، بعد أن تخلّصوا من بيئة "مليئة بالعنف والإذلال".

تنهي حديثها لي بالقول: "أنا قد ما انضغطت وصلت للانتحار، بس تراجعت مشان ولادي، مالون غيري".

تقول اختصاصية علم النفس الدكتورة خولة القدومي، إنه كلما زادت ظروف الأمهات قسوةً مثل اللجوء، والهجرة، والفقر، فإنهن يصبحن أكثر عرضة للتهميش والاكتئاب نتيجة تزايد المشكلات وصعوبة الوصول إلى المساعدة الضرورية، كما أنهن بحاجة إلى مضاعفة الجهود وتيسير السبل للتدخل بالشكل والوقت المناسب بما يضمن حصولهن على بعض احتياجاتهن الضرورية دون المساس بحقوقهن المشروعة.

كذلك، أظهرت تقارير صادرة عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وصندوق الأمم المتحدة للسكان، أن الأمهات في مخيمات النزوح يعانين من مستويات مرتفعة من الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، نتيجة التعرض للعنف أو فقدان أحد أفراد الأسرة أو العيش في ظروف غير إنسانية. وتؤكد الدراسات أن هذه الضغوط لا تؤثر فقط على الصحة النفسية للأم، بل تمتد لتؤثر على النمو العاطفي والسلوكي لأطفالهن، الذين غالباً ما يعيشون في بيئة تخلو من الحماية النفسية والدعم المجتمعي.

مصدر الصورة

ريمي سلّوم، وهي أم لتوأم ومدوّنة، تقول لي إنها ومثل كثير من الأمهات، مرّت بتجربة اكتئاب ما بعد الولادة.

توضح أن المشكلة لم تكن في شعورها بـ"الخجل" من الحديث عن الأمر، بل في عدم إدراكها أنها تمر بهذه الحالة أصلاً. فالتوعية حول اكتئاب ما بعد الولادة كانت شبه منعدمة، إلى درجة أنها كانت تفسّر ما تمرّ به على أنه مجرد تعب، أو قلة نوم، أو ربما شعور بالحنين لشيء ما، دون أن تدرك أنها تعاني من حالة نفسية حقيقية تحتاج إلى التعامل معها بجدية.

تقول إن اكتئابها لم يُصنَّف على هذا النحو في البداية، لا من قِبلها ولا من قِبل مَن حولها، خاصةً وأن أهلها من جيل "لا يؤمن كثيراً بوجود أمراض نفسية "أو "صحة نفسية" بشكل عام.

"كانوا يرون أنها بخير ما دامت بصحة جسدية جيدة، ويعتبرون أن مسؤولية الأطفال تقع على عاتقها وحدها. رغم أن عائلتها كانت داعمة على المدى القصير، إلا أن المسؤولية الكبرى بقيت على عاتقها وحدها، دون حتى أن تُلقى على مربية أو شخص آخر".

ترى ريمي أنه من المهم جداً أن تكون الأم قادرة على ممارسة "الوعي الذاتي" أو التأمل في ذاتها، لتفهم مشاعرها وتتمكن من طلب المساعدة في الوقت المناسب. فإذا شعرت بأنها عالقة في حالة اكتئاب لا تستطيع الخروج منها، ولم تعد تجد شيئاً يفرحها أو يحفّزها، فهنا ينبغي أن تطلب دعماً من مختصين نفسيين.

وإذا لاحظت أن هناك عادات صغيرة تقوم بها يومياً تساعدها على تخفيف حدة الاكتئاب، فعليها أن تلتزم بها. لأن تجربة الخروج من الاكتئاب تكون شخصية للغاية، ولا يوجد حل واحد يناسب الجميع.

وفي حالتها الشخصية، فقد تضاعف الاكتئاب بعد الولادة لأنها كانت تعاني مسبقاً من الاكتئاب والقلق المزمن، ما جعل التجربة أكثر تعقيداً.

وتضيف أن كتب المساعدة الذاتية قد تكون مفيدة أحياناً، ولكن في كثير من الحالات لا تكفي وحدها، خاصة في المراحل الحرجة مثل ما بعد الولادة.

نسبة كبيرة من الأمهات عرضة له، خاصة عندما لا يلقين الرعاية والاهتمام الكافيين من الزوج والأهل، وهو قد ينجم عن تزايد المسؤولية وتعاظمها مع وجود طفل رضيع جديد في الأسرة، لا حول له ولا قوة إلا في حضن والدته، ويستمد منها القوة التي تساعده في النمو واستمرار الحياة.

أمام تلك المسؤولية العظيمة قد تنهار المرأة خاصة مع اضطراب الهرمونات الذي يحصل في جسم الأم بعد الولادة لمساعدتها في التوازن والعودة للوضع الطبيعي قبل الحمل.

إخصائية علم النفس الدكتورة خولة القدومي تشرح لي: حتى نستطيع تجنيب المرأة اكتئاب ما بعد الولادة، ينبغي إعطاؤها ومنحها المزيد من الاهتمام، خاصة من قِبَل الزوج الذي يفترض أن يكون الشريك الرئيس لقدوم هذا الطفل للعالم.

وتضيف الإخصائية أنه من مظاهر الاهتمام الواجب توفيرها: أكل صحي وغذاء مناسب، وراحة تامة (توفير مساعدة) في المنزل لفترة مناسبة حتى تستعيد الأم صحتها وعافيتها، وبيئة آمنة هادئة بعيدة عن المشاكل - ويجب أن تسعى عائلة الأب والأم معاً لتوفير أجواء مرح وسعادة لاستقبال الحفيد الجديد.

كما تؤكد أن الصحة النفسية للأم تؤثر بشكل مباشر على صحة أطفالها، وخصوصاً في سن مبكّرة، حيث يتلقون تجاربهم الأولى في الحياة من خلال الأم أولاً والمحيط ثانياً، فالأم هي الشخص الأكثر احتكاكاً بأطفالها منذ نعومة أظفارهم.

بحسب المجلة الأمريكية للطب النفسي، فإن ما يصل إلى 15-20 في المئة من الأمهات يعانين من اكتئاب ما بعد الولادة، وهو أكثر شيوعاً لدى الأمهات الجدد اللاتي لا يتلقين الدعم الاجتماعي الكافي. الاكتشاف المبكر والتدخل العلاجي له تأثير إيجابي في تخفيف الأعراض وتحسين جودة العلاقة بين الأم والطفل.

"الدعم النفسي أهم من الطعام والشراب"

زينة سليم، أمٌ لشاب يدرس في الجامعة، ولفتاة مراهقة في المدرسة. هي متزوجة، "لكن ليس بإرادتها الكاملة".

تقول: "لو توفرت لي القدرة المادية الكافية، لانفصلت منذ زمن. كما أنني محرومة من أي دعم معنوي من الأسرة أو المجتمع المحيط، ولا أملك بيئة تُتيح لي أن أكون مطلقة وأعيش حياة كريمة وعزيزة مع أولادي".

بالنسبة لها، كأم معنَّفة، كما تقول لي، فإن الصحة النفسية والدعم النفسي "أهم من الطعام والشراب"، بل أهم من أي حاجة أساسية.

"كثيراً ما فكرت: لو أنني امتلكت الشجاعة لطلب المساعدة النفسية في وقتٍ مبكر، لكنت وفّرت على نفسي كثيراً من الألم ونوبات الغضب والأمراض الجسدية التي نشأت بسبب الضغط المزمن".

تكمل قائلة: "صحيح أن هناك جمعيات تقدّم دعماً نفسياً، لكن هذا وحده لا يكفي. ليست كل النساء يمتلكن الجرأة ليقلن "لا". نحن ضحايا في مجتمع يُمارس العنف بشكل مؤسسي. العنف يبدأ من بيت الأهل؛ تتزوج الفتاة وهي غير واعية لحقوقها كإنسانة. كان من المفترض أن يكون الأب أول من يدعم ابنته، لكن للأسف، في مجتمعنا، كثير من الآباء متخلّون عن دورهم الحقيقي. يعملون ويجلبون المال، لكنهم لا يشاركون في التربية، ولا يقدّمون لبناتهم الدعم العاطفي أو التربوي اللازم. وهكذا تنشأ الفتاة بشخصية مهزوزة، تجهل حقوقها، وتفقد الثقة بنفسها".

تقول زينة: "الدعم النفسي مهم، لكنه لا يوفّر الحماية الكافية للأم في مجتمع سطحي وظالم. لو قررتُ، مثلاً، أن أغادر منزلي وألجأ إلى جمعية ما، سيُمعن المجتمع في إيذائي أنا وأطفالي. نحن ما زلنا بعيدين عن تحقيق دعم حقيقي وفعّال للنساء، لكن لا بد أن أقول: كل الشكر للجمعيات، فهي النقطة البيضاء في هذا الظلام. بإمكانهم إحداث فرق حقيقي إنْ ضغطوا نحو إنجاز قوانين تُنصف المرأة وتحميها".

تشدد إخصائية علم النفس، الدكتورة خولة القدومي، على أهمية أن تراعي المناهج الدراسية أدوار الأمهات منذ مرحلة تشكيل الأسرة، وأن تعكس هذه الأدوار بصورة واقعية تُبرز حجم المسؤوليات والمهام التي تؤديها الأم على مختلف المستويات، لا أن تقتصر على الصور النمطية التقليدية مثل "ماما تطبخ".

"كنتُ امرأة محطَّمة"

مصدر الصورة

تستذكر زينة سليم العديد من المواقف التي مرّت بها، "أعترف أن من أخطائي في الماضي أنني كنت أنفعل أمام أولادي. كنت امرأة محطّمة، تعاني بصمت، وأهلي كانوا يرون معاناتي دون أن يمدّوا لي يد العون. انفعلت، وصرخت، وربما تصرفت بعنف أحياناً. أعلم أن ذلك خطأ. لكنني كنت إنسانة على حافة الانهيار".

تروي لي أنها مؤخراً، اكتشفت أن زوجها يقيم علاقة مع امرأة أخرى: "لم أُظهر له رد فعل سوى ابتسامة ساخرة. لم أخبر ابني بذلك، ليس حرصاً على صورة الأب لديه، التي لم تعد تعنيني، بل حفاظاً على تركيز ابني في دراسته".

"رسالتي لكل أم: لا تترددي في طلب الدعم النفسي من مختصين. حاولي قدر المستطاع أن تُبعِدي أولادكِ عن مشاكلك مع الزوج والأب الذي يمارس التعنيف، فالأبناء يدفعون ثمن ذلك حين يكبرون. ابني عاش مراهقة صعبة بسبب ما رآه في المنزل، وابنتي الآن تمرّ بالشيء ذاته. لم أكن قادرة ولا واعية في السابق لحماية أطفالي من كل ذلك"، كما تقول زينة.

تضيف أن التوعية تبدأ من المدارس، ومن تربية الأطفال على فهم حقوقهم، ورفض العنف، وقبول فكرة الرعاية النفسية.

بيّنت دراسة نُشرت في ذا لانسيت سايكيتري The Lancet Psychiatry في 2015 أن القلق والاكتئاب أثناء الحمل لا يؤثران فقط على الأم، بل قد يكون لهما تأثيرات بيولوجية على الجنين، مثل زيادة إفراز هرمون الكورتيزول، ما قد يؤدي إلى مشاكل في النمو العصبي للطفل لاحقاً.

في حديثها لي، أخصائية علم النفس الدكتورة خولة القدومي، تقول إن علامات حاجة الأم للدعم النفسي تكون عندما: تتغير طبيعة سلوك الأم إلى الجانب السلبي، مثلاً: البكاء بدون أسباب واضحة، والميل للعزلة والصمت خلافاً لما اعتادت عليه، وإهمال الأم لنظافتها أو نظافة بيتها وأطفالها، وعدم اهتمامها بجمالها وأناقتها كالمعتاد، والعصبية الزائدة بلا مبرر، وانخفاض مستوى الشكوى لديها بشكل واضح، والتبرُّم من الحياة ومشاغلها خاصة للتي لا عمل لديها وليس بيدها مصدر دخل.

"هلأ عايشة كرمال ولادي وشغلي"

مصدر الصورة

سميرة إبراهيم، امرأة متزوجة، وأم لثلاثة أطفال: ولدان وبنت.

كانت سميرة تعتني بصحتها النفسية وتؤمن بأهميتها، لكنها حين أصبحت أُمّاً، تدهورت حالتها النفسية. لم تكن ترغب في التحدث مع أحد، فعاشت وحدها سنوات من المعاناة والصمت. ترى سميرة أنه حين تكون الأم واقعة تحت ضغط نفسي، من الضروري أن تلجأ إلى معالج نفسي، لأن ذلك يخفف عنها كثيراً.

"بقوتها النفسية تستطيع أن تبقى ثابتة في وجه المجتمع وأمام عائلتها، لأن لا أحد سيقف معها إن لم تكن قوية".

كما تعتقد أن الأم التي لا تملك القدرة على تحمّل مسؤولية طفل، من الأفضل ألا تُنجبه، لأن الطفل وحده هو من يدفع ثمن مشاكل الأهل.

خلال فترة الحمل، تعرّضتْ للضرب حتى أُجهض جنينها، وتقول إنها كانت ضحيةً للخيانة والعنف الجسدي من زوجها، هي وأطفالها عانوا كثيراً. وصلت سميرة إلى حد التفكير بالانتحار بسبب الضرب والإهانة والتعب الجسدي الذي أنهكها. أولادها كذلك تأذوا نفسياً بشكل كبير، ولم تجد من يساعدها، لا من الدولة ولا من القضاء، إذ وجدت أن الجميع يقف إلى جانب الرجل.

خصصت إحدى الجمعيات لأطفالها جلسات دعم نفسي، فقد أصبح أحد أبنائها عدوانياً، وابنتها تأثرت دراسياً، وكانت تمر بحالة غضب دفعتها للتفكير بجمع المال لشراء سلاح للانتقام ممن سبّب لها الأذى.

والآن، تحاول أن تعيش من أجل أطفالها ومن أجل عملها، بعد أن استطاعت الوقوف على قدميها من جديد.

تزداد أهمية التدخل المبكر والدعم النفسي للأمهات. وفقاً لتقارير منظمة الصحة العالمية، فإن عدم تلقي العلاج والدعم الاجتماعي قد يؤدي إلى تفاقم الحالة النفسية، ما يؤثر على علاقة الأم بطفلها، ويضعف قدرتها على الرعاية والتفاعل.

تختتم الدكتورة خولة القدومي، أخصائية علم النفس، بقولها: "لكل امرأة أرهقها القلق والتوتر والتفكير الزائد، كوني لنفسك صديقة، ادعمي ذاتك، ولا تسمحي لأحد أيّاً كان أن يخنقك أو يدمر ذاتك. لو انتابك الضعف وشعرتِ بتدني مفهومك لذاتك، ابحثي عن مساعدة المختصين ولا تترددي في عرض شكواكِ عليهم. وينبغي توفير قائمة بأسماء المعالجين النفسيين والأطباء المختصين الذين لديهم استعداد كافٍ لتقديم الدعم النفسي أو العلاج للنساء مجاناً، خاصةً وأن كلفة العلاج النفسي في مجتمعنا مرتفعة جداً".

بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار