في خطوة علمية مثيرة تُعيد طرح أسئلة قديمة عن حدود العالم الكمومي وإمكاناته، أعلن فريق من الفيزيائيين اليابانيين في جامعة طوكيو تحقيق إنجاز لطالما اعتبره المتخصصون شبه مستحيل، إذ تمكن الفريق من إخضاع جسيم نانوي لعملية "ضغط كمومي" تتجاوز الحد النظري، الذي كان يعتقد العلماء أنه غير قابل للاختراق في فيزياء الكم.
نشر الفريق تجربته ونتائجها في دراسة حديثة في دورية "ساينس"، ليبرهنوا على تقنية جديدة تفتح بابا واسعا لفهم كيف يمكن للجسيمات الكبيرة نسبيا، وليس الذرات والإلكترونات فحسب، أن تُظهر أيضا سلوكا كموميا، في وقت اعتقد فيه أغلب العلماء أن مثل هذه الظواهر تختفي في الأجسام الأكبر.
يقول كيوتاكا أيكاوا، الأستاذ المشارك في قسم الفيزياء في جامعة طوكيو اليابانية، والباحث المراسل في الدراسة، في تصريحات حصرية للجزيرة نت: "نجحت فيزياء الكم في الجسيمات المجهرية مثل الذرات، غير أن الكثير من الأجسام الأكبر مثل تلك التي يمكن رؤيتها بالعين المجردة أو تحت الميكروسكوبات العادية لا تُظهر سلوكيات ميكانيكية كمومية. بل يكاد لا يُفهم شيء عن ميكانيكا الكم على المقاييس الأكبر".
يشرح أيكاوا الضغط الكمومي، موضحا أنه "عملية تهدف إلى تقليل اهتزاز الحركة إلى ما دون اهتزاز حالة الطاقة الدنيا. وهذا لا يحدث في حياتنا اليومية، لأن أي جسم يتعرض دوما لهزات ناجمة عن التقلبات الحرارية".
بمعنى آخر، حتى في أكثر الظروف سكونا، لا تتوقف الأجسام عن الاهتزاز نتيجة طاقتها الحرارية في عالمنا الكلاسيكي الذي نراه من حولنا. لكن في العالم الكمومي المتناهي الصغر، من الممكن "ضغط" أو تقليص هذه الاهتزازات بشكل يجعل النظام أكثر استقرارا مقارنة بكل ما يمكن أن توفره فيزياء عالمنا الكلاسيكية.
أراد العلماء اختبار الضغط الكمومي على الجسيمات النانوية الأكبر من الذرات لمعرفة تأثير تقليص اهتزازاتها للوصول بها لحالة أكثر استقرارا. لذلك علّق الباحثون جسيما نانويا صغيرا في الهواء باستخدام حقل ضوئي، كأنه "ملقط ضوئي"، بهدف عزل الجسيم تماما عن معظم مصادر التشويش مثل الاهتزازات الميكانيكية والتقلبات الكهربائية والحرارية.
ثم استخدموا تقنيات قياس وتحكم دقيقة للغاية لتبريد حركة الجسيم وتقليل اهتزازه إلى ما يقارب الحد الأدنى الذي تسمح به ميكانيكا الكم (حالة الطاقة الدنيا). ثم طبقوا بروتوكول "الضغط الكمومي" ليعيدوا توزيع هذه الاهتزازات بحيث تقل في أحد أبعاد الحركة.
النتيجة كانت مذهلة، إذ تمكن الباحثون من خفض الاهتزازات إلى ما دون مستوى الاهتزاز الطبيعي، وتجاوزوا بذلك ما يُعرف بحد الـ3 ديسيبلات الفيزيائي، وهو حاجز بين عالمنا الكلاسيكي والعالم الكمومي، ولطالما اعتبره الفيزيائيون صعب الاختراق.
هذا الإنجاز أثبت أن حتى الجسيمات الأكبر من الذرات يمكن أن تُظهر سلوكا كموميا واضحا، ويفتح الباب أمام تطوير حساسات كمومية عالية الدقة، كما أنه من الخطوات المهمة التي تلت منجزات جون كلارك، وميشيل ديفوريت، وجون مارتينيس من جامعة كاليفورنيا الأميركية، الحاصلين على نوبل في الفيزياء لعام 2025.
ونال هؤلاء العلماء الجائزة تقديرا لاكتشافهم الرائد الذي أظهر أن التأثيرات الكمومية الغريبة لا تقتصر على الذرات والجسيمات الدقيقة، بل يمكن تحقيقها في جهاز من صنع الإنسان يمكن حمله باليد، ليؤكدوا بذلك أن الحدود بين الكمّ والحياة اليومية أرقّ مما كنا نعتقد.
منذ أن وضع العالم فيرنر هايزنبيرغ مبدأه الشهير لعدم اليقين، مثّل هذا المبدأ حجر الزاوية في فهم ميكانيكا الكم. ويعني مبدأ هايزنبيرغ لعدم اليقين ببساطة أنك لا تستطيع أن تعرف كل شيء عن جسيم كمومي بدقة كاملة في الوقت ذاته، أي لا يمكن قياس مكان الجسيم وزخمه (أي سرعته واتجاه حركته) بدقة مطلقة معا.
إذا حاولت أن تقلل الخطأ في معرفة الموضع، سيزداد الخطأ في معرفة الزخم، والعكس صحيح. لا يعود السبب إلى ضعف في الأجهزة أو القياسات، بل هو قانون أساسي من قوانين الطبيعة في العالم الكمومي، لذلك عندما يتفق سلوك المادة مع مبدأ عدم اليقين، فنحن أمام تأكيد للسلوك الكمومي.
هذا ما حاول العلماء في تجربة جامعة طوكيو اختباره للتأكد من أن كسر حاجز الـ3 ديسيبلات ليس استثناء، بل إنه دليل واضح على السلوك الكمومي. يقول أيكاوا: "نعتقد أن نتائجنا تتماشى مع مبدأ هايزنبرغ لعدم اليقين. وبذلك، فإن نتائجنا تؤكد أن هذا المبدأ صحيح أيضا عند دراسة حركة الجسيمات النانوية".
من أجل تحقيق استنتاجات أيكاوا، ضغط الباحثون الاهتزازات الكمومية لجسيم نانوي يُفترض ألا يتبع قواعد العالم الكمومي مثل مبدأ هايزنبيرج، ونجحوا في تقليل الاهتزازات في بُعد معين من الحركة، وقد جاء ذلك على حساب زيادة الاهتزازات في البعد الآخر.
تخيل أن لديك بالون ممتلئ بالماء ويهتز من مركزه في كل الاتجاهات. إذا حاولت ضغط هذا البالون من الأعلى والأسفل للتقليل من اهتزازاته في هذا البُعد الحركي، فستزداد اهتزازاته في اليمين واليسار مثلا. هذا السلوك ينسجم تماما مع مبدأ هايزنبيرغ، لأنه يوضح أن تقليل عدم اليقين في خاصية ما قابله بالضرورة زيادته في خاصية أخرى. وبالتالي، أكدت نتائجهم أن المبدأ ينطبق أيضا على الأجسام النانوية الكبيرة نسبيا، وليس فقط على الجسيمات الدقيقة مثل الإلكترونات والذرات.
لم يتوقع الفريق أن ينجح في تحقيق الضغط الكمومي بهذا الشكل. يقول أيكاوا: "بما أنه لا أحد يعرف إذا كانت هناك عملية أساسية تمنع الضغط الكمومي، فقد فوجئنا بنتائجنا. في رأينا، لم يصبح من الواقعي اختبار ميكانيكا الكم عند المقاييس الماكروسكوبية [الأكبر من الذرات] إلا مؤخرا. ومن هذه الناحية، فإن نتائجنا تختلف عن الاكتشافات الفيزيائية الحديثة الأخرى".
لم يكن الوصول إلى هذه النتيجة أمرا يسيرا. يوضح أيكاوا ما واجهته التجربة من تحديات تقنية معقدة، قائلا إن "هناك جوانب رئيسية عدة، فالنظام حساس للغاية لأي نوع من التقلبات، مما أجبرنا على تقليل عديد من العمليات التي قد تُزعزع حركة الجسيم. على وجه التحديد، كان علينا تقليل الحركات الزاوية للجسيم، والتأثيرات الكهربائية، وكذلك اهتزازات نظام التجربة ذاته".
يعكس هذا التصريح حجم الدقة المطلوبة، فالجسيم النانوي المستخدم في التجربة -وهو جسم أكبر بكثير من الذرات- يتفاعل مع أدنى خلل في البيئة المحيطة. وبالتالي، عزل التجربة عن أي اهتزازات خارجية قد تُفسد النتائج كان ضروريا.
يضيف أيكاوا: "تجاوز حد الـ3 ديسيبلات يعني أن نظامنا يُعتبر نظاما كموميا جيدا، ويمكن أن يكون مفيدا لدراسات متنوعة أخرى وتطبيقات مثل أجهزة قياس التسارع". ومن ثم، هذه النتيجة ليست فقط انتصارا تجريبيا، بل تحمل معها وعودا تطبيقية يمكن أن تغير مستقبل تقنيات الاستشعار.
جدير بالذكر أن أجهزة قياس التسارع هي أجهزة تُستخدم في الهواتف الذكية والسيارات والطائرات وحتى الأقمار الصناعية. ويشرح أيكاوا أجهزة قياس التسارع بقوله إن "الأجهزة الحالية مقيدة بالتقلبات الحرارية. لكن النظام المعلّق خال من هذه التقلبات، ونتائجنا تُظهر إمكانية تحسين الحساسية عبر بروتوكول الضغط [الذي ابتكره الباحثون]. توجد بالفعل حساسات كمومية للتسارع مثل مقياس التداخل الذري".
ويضيف: "حاليا، لا يمكننا الجزم بما إذا كانت الحساسات القائمة على الجسيمات النانوية أفضل من مقياس التداخل الذري. هذه مسألة يجب أن نُجيب عنها في السنوات القادمة". هذا الطرح يفتح الباب أمام سباق علمي جديد بين نوعين من التقنيات الكمومية: الحساسات المبنية على الذرات، وأخرى ستعتمد على الجسيمات النانوية.