منذ ما يقارب قرنا من الزمان حين وضع إدوين هابل أولى اللبنات لمعرفتنا عن تمدد الكون لم يتخيل أحد أن هذا التمدد لن يكون ثابتا بل متسارعا.
ففي أواخر التسعينيات كشفت أرصاد المستعرات العظمى البعيدة أن الكون يتوسع بسرعة متزايدة كما لو أن قوة غامضة تدفع المجرات بعيدا عن بعضها البعض، وأُطلق على هذه القوة اسم "الطاقة المظلمة"، لأنها غير مرئية ولا تُكتشف إلا من خلال أثرها في معادلات الكون.
لكن ما هي الطاقة المظلمة؟ هل هي خاصية خفية للفراغ الكوني (نسيج الزمكان)؟ أم أنها شكل من أشكال الطاقة لم نتعرف عليه بعد؟ هذه الأسئلة حيّرت العلماء لعقود، واليوم تبرز فرضية جريئة تقول إن الثقوب السوداء نفسها قد تكون المصدر الحقيقي للطاقة المظلمة.
وتُعد الثقوب السوداء من أعجب وأشد الأجسام تطرفا، فهي مناطق تنكمش فيها المادة تحت ضغط الجاذبية الهائل حتى تتحول إلى نقطة متناهية الصغر تُعرف بالمفردة.
وعند هذه النقطة تفشل قوانين الفيزياء التقليدية في تفسير ما يحدث، وتصبح مفاهيمنا المعتادة عن المكان والزمان غير صالحة.
ولطالما نظر العلماء إلى الثقوب السوداء كـ"مقابر للنجوم" حيث تنتهي حياتهم العملاقة، لكن الفرضية الجديدة تقترح زاوية أخرى تقول إن هذه الأجرام ليست فقط نهاية لرحلة النجوم، بل قد تكون مفاتيح لبداية فهم الطاقة المظلمة.
وفي السنوات الأخيرة طرح بعض الفيزيائيين فكرة أُطلق عليها اسم "الربط الكوني"، والفكرة الأساسية تقول إن كتلة الثقوب السوداء لا تبقى ثابتة كما كنا نعتقد، بل تنمو بمرور الزمن مع توسع الكون كما أوضح العلماء في بيان رسمي من جامعة ميشيغان.
هذا النمو لا يعتمد فقط على ابتلاع الثقوب للمادة أو اندماجها مع غيرها، بل هو نمو "مقترن" ببنية الكون نفسه، وبحسب هذه الفرضية فإن الثقوب السوداء ليست مجرد أجسام ضخمة جاذبة، بل تحتوي في داخلها على شكل من الطاقة يرتبط بما نعرفه كالطاقة المظلمة.
ولتكون الفرضية أكثر من مجرد فكرة كان لا بد من أدلة تجريبية، وهنا جاء دور مشروع "ديزي" (جهاز مطياف الطاقة المظلمة)، وهو أداة متطورة في ولاية أريزونا الأميركية تُستخدم لرسم خرائط ثلاثية الأبعاد للمجرات.
ومن خلال متابعة ملايين المجرات وقياس سرعة ابتعادها عن بعضها البعض لاحظ الباحثون أن سلوك الكون يتوافق مع الفرضية، فكلما توسع الكون بدت كمية الطاقة المظلمة وكأنها تزداد، وهذا يتماشى مع فكرة أن عدد الثقوب السوداء يزداد مع الزمن ومعها يزداد مخزون الطاقة المظلمة الكوني.
قد يبدو غريبا أن تتحول مادة مضغوطة داخل ثقب أسود إلى "طاقة مظلمة" تؤثر على الكون بأسره، لكن الفرضية الجديدة تفسر ذلك من خلال "الانبعاث الكمي للفراغ"، أي أن الكتلة في ظروف معينة يمكن أن تظهر في صورة طاقة خفية غير قابلة للرصد المباشر، لكنها تُحدث أثرا جاذبيا "طاردا".
وبهذا، تصبح الثقوب السوداء أقرب إلى خزائن صغيرة للطاقة المظلمة موزعة في أنحاء الكون كما أوضح الباحثون في تقرير نشر بدورية "فيزيكال ريفيو ليترز"، وبدلا من افتراض "ثابت كوني" غامض كما فعل أينشتاين يمكننا أن نفسر التوسع المتسارع كنتيجة طبيعية لتطور الثقوب السوداء عبر الزمن.
والفرضية الجديدة لا تحتاج إلى فيزياء "خارجية" جديدة، بل يمكن إدراجها ضمن إطار النسبية العامة مع تعديلات طفيفة، ولكن رغم إثارة الفكرة فإنها لا تزال في طور النقاش، وهناك أسئلة عدة صعبة: كيف نختبر مباشرة أن كتلة الثقوب السوداء تنمو بفعل الربط الكوني؟ وهل يمكن أن تكون هناك آليات أخرى مسؤولة عن زيادة الطاقة المظلمة؟ وكيف يتفاعل هذا النمو مع الثقوب السوداء فائقة الكتلة الموجودة في مراكز المجرات؟