في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
تخيّل أننا عثرنا على باب صغير يفتح على جزء خفي من الواقع، عالم لم نره من قبل، لكنه كان هناك طوال الوقت يختبئ خلف قوانين الطبيعة التي نعرفها. لسنوات طويلة، حاول العلماء التسلل إلى ما وراء هذا الباب، لكن أقوى أدواتنا، مثل مصادم الهادرونات الكبير (وهو أكبر وأقوى مسرّع للجسيمات في العالم)، لم تكشف لنا إلا عن ومضات عابرة، كأننا نطل من ثقب مفتاح على واقع آخر.
اليوم، يقف العلم أمام فرصة تاريخية: بناء آلة قادرة على الغوص إلى أعماق أصغر بمليارات المرات مما وصلنا إليه، بحثًا عن القوانين المجهولة التي تصوغ كل ما في الكون. في هذا المقال المترجم من مجلة "نيوساينتست"، يناقش عالم فيزياء الجسيمات، هاري كليف، من جامعة كامبريدج، السؤال الأهم: هل نفتح هذا الباب على مصراعيه، أم نتركه موصدًا تاركين أسراره تهمس لنا من وراء ستار الزمان والمكان؟
انقضت 15 عامًا منذ أن بدأ مصادم الهادرونات الكبير رحلته في تفكيك أسرار الكون، محطّمًا الجسيمات في أعنف تصادمات عرفها العلم. ومنذ ذلك الحين، كنتُ واحدًا من آلاف العقول التي غاصت في أعماق تلك الاصطدامات، نبحث بين الشظايا عن بصيص أمل لفيزياء جديدة، علّها تحمل لنا تفسيرًا لغياب المادة المظلمة أو لِسرّ وجودنا ذاته.
في عام 2012، اكتشف المصادم جسيم "هيغز" (الجسيم المرتبط بما يُعرف بمجال هيغز، وهو مجال غير مرئي يملأ الكون بالكامل و يمنح الجسيمات الأخرى كتلتها*)، ليُرسّخ بذلك أسس النموذج القياسي، كأهم نظرية لفهم الجسيمات الأولية وقوانينها. لكن، ورغم تلك اللحظة التاريخية، فإن باب الفيزياء الجديدة ما زال موصدًا، يعجز المصادم عن فتحه إلى الآن.
ليس في الأمر ما يدعو إلى اليأس بالضرورة، فربما يكون مصادم الهادرونات الكبير يُنتج في هذه اللحظات جسيمات جديدة، لكنها تتوارى عن أنظارنا، إما لندرتها الشديدة، أو لصعوبة التقاطها، أو لأنها تتخفّى ببراعة وسط فوضى الحطام الناتج عن التصادمات. وإن صحّ ذلك، فقد يحمل التحديث المرتقب لهذا المصادم في نهاية هذا العقد، وعدًا بكشف تلك الخفايا التي طال انتظارها.
ومع ذلك، لا مفرّ من مواجهة احتمال أكثر إزعاجًا، أن تكون الجسيمات التي ننشدها تقبع خلف أفق قدرتنا الحالية، بعيدة عن متناول حتى أعظم مصادم صنعته البشرية. وإن صحّ ذلك، فقد لا يكون أمامنا سوى الانتظار ربما لسنوات طويلة، حتى يظهر مصادم أعظم يستطيع بلوغ ما عجز عنه سلفه، هذا إن كُتب له أن يُبنى يومًا ما.
لكن الباحث النظري في جامعة ميونيخ التقنية بألمانيا، أندجي بوراس، لا يرغب في الانتظار إلى أن يُشيَّد مصادم جديد. فعلى عتبة عامه 78، لا يزال يقود حراكًا علميًّا جريئًا، مؤمنًا بأننا قادرون على فتح "باب خلفي" نحو عوالم أبعد بكثير من مدى مصادم الهادرونات الكبير.
تتمحور مهمة بوراس حول الوصول إلى ما يُطلَق عليه "الكون الزبتوني"، عالم خفي تقع أبعاده في حدود 10⁻²¹ متر، حيث يُرجّح أن تختبئ الجسيمات الجديدة التي طالما راودتنا أحلام اكتشافها. وما يبعث في نفسي الحماسة هو أننا بدأنا بالفعل نطرق باب هذا العالم المجهول.
يُعدّ النموذج القياسي أقرب إطار نظري لما يمكن تسميته "بالنظرية الشاملة لكل شيء"، إذ بإمكانه وصف جميع الجسيمات الأساسية المعروفة والقوى التي تحكمها، باستثناء قوة الجاذبية. وقد أثبت هذا النموذج نجاحًا لافتًا، حيث اجتاز كل تجربة خضع لها بدقة مُدهشة إلى حدّ يثير الحيرة. واللافت أن هذه الدقة نفسها تُعدّ مصدر إرباك، لأننا نعلم يقينًا أن النموذج القياسي لا يُقدِّم الصورة الكاملة، وأن هناك ظواهر في الكون لا يزال عاجزًا عن تفسيرها.
من الواضح أن النموذج القياسي يعجز عن تفسير وجود المادة المظلمة، وهي مادة غير مرئية يُستدل على وجودها من خلال تأثير جاذبيتها في تشكيل بنية الكون. كما أنه لا يقدّم تفسيرًا للأنماط الغريبة التي تظهر في سلوك الجسيمات الأساسية، والتي تشير إلى وجود بنية أعمق لم تُكتَشف بعد.
فعلى سبيل المثال، تُظهِر جسيمات المادة ما يُعرَف بثلاثة "أجيال" متتالية تزداد كتلتها تدريجيًا، ولا يزال هذا النسق العجيب بلا مفتاح يفسر سرّه. وربما تكمن الإشكالية الأكبر في أن النموذج القياسي يُشير إلى أن المادة والمادة المضادة كان ينبغي أن تُفني إحداهما الأخرى خلال اللحظات الأولى من الانفجار العظيم. ومن الواضح أن أي نظرية تُفضي إلى غياب الكون ذاته، لا بدّ أنها تعاني خللًا عميقًا في جوهرها.
لهذا السبب، لا يزال العديد من الفيزيائيين النظريين على قناعة راسخة بأن النموذج القياسي لا يُمثّل الكلمة الأخيرة في عالم فيزياء الجسيمات، وأن هناك جسيمات أساسية جديدة لا تزال في انتظار أن يُكشف عنها.
وبما أن مصادم الهادرونات الكبير، القابع في مختبر سيرن قرب جنيف في سويسرا، لم يعثر حتى الآن على شيء جديد، فإن عزم الباحثين لم يخفت، بل دفعهم للبحث عن سُبل مبتكرة تخترق حجب المجهول. ومن هنا تنبع جاذبية ذلك "الباب الخلفي"، الذي يلوّح بإمكانية وجود عالم آخر لم تبلغه أدواتنا بعد.
لفهم سبب وجود هذا "الباب الخلفي" وكيف يمكننا العبور من خلاله، علينا أولًا أن نُلم ببعض الأساسيات في فيزياء الجسيمات. أولى هذه الأساسيات أن المصادمات حين تطرق أبواب الطاقة العالية، لا تكتفي بالكشف عن قوة التصادم، بل تغوص أيضًا في أعماق المسافات متناهية الصغر.
غالبًا ما يُقاس مدى مصادم الهادرونات الكبير من خلال أقصى طاقة يستطيع أن يضخّها في الجسيمات التي يسرّعها؛ فكلما ارتفعت طاقة التصادم، زادت احتمالية ولادة جسيمات أثقل، إذ تتحوّل الطاقة إلى كتلة كما تنص معادلة آينشتاين.
لكنْ يمكن أن نرى المصادم من زاوية أخرى، باعتباره "مجهرًا فائق الحجم"، لا يكتفي بتكبير ما هو صغير، بل يشقّ طريقه نحو أبعد أعماق المادة، كاشفًا عن البنية الأولى للواقع عند مسافات قصيرة للغاية.
يدفع مصادم الهادرونات الكبير بالبروتونات إلى سرعات هائلة تمنحها طاقة تقارب 7 تريليونات إلكترون فولت، فاتحًا نافذة على مسافات متناهية الصغر تصل إلى نحو 50 زيبتومترا، وهي مسافة يعجز العقل البشري عن تصورها، فهي أصغر من حجم الذرّة بعشرات المليارات من المرات. إلا أن المعضلة تكمن في أن الفيزياء الجديدة قد تختبئ في أعماق أضيق مما تستطيع عين مصادم الهادرونات الكبير أن ترصده، وبالتالي سيعجز عن رؤيتها.
أما الحقيقة الثانية التي ينبغي أن ندركها، فهي أن الجسيمات فائقة الكتلة الكامنة في أعماق المسافات الصغيرة، تملك القدرة على توجيه مصائر الجسيمات الأخف على مسافات أوسع أو مقاييس أكبر.
ويرجع ذلك إلى أن نظرية الحقول الكمّية تُبين أن الجسيمات ليست كيانات أساسية بحد ذاتها، وإنما اهتزازات في حقول كمّية دائمة الوجود، وهي أشبه بوسط سائل غير مرئي يملأ الكون بأسره. ووفقًا لهذا التصور، فإن الجسيمات أشبه بتموجات على محيط كوني، وحتى في غياب هذه التموجات (أي غياب الجسيمات)، يبقى الحقل الكمّي المرتبط بها موجودًا دائمًا.
حتى لو كان هناك جسيم جديد صغير جدًا لدرجة أن مصادم الهادرونات الكبير لا يستطيع رصده مباشرة، فإن الحقل الكمي المرتبط به يمكن أن يترك أثرًا باقياً على مسافات أكبر، فيؤثر على سلوك الجسيمات الأكبر التي يمكننا ملاحظتها.
والأهم من ذلك، أن هذا يعني أن القياسات الدقيقة للجسيمات التي نُنتجها بشكل روتيني في المسرّعات الحالية، قد تكشف عن أثر هذه الجسيمات الجديدة التي تقع خارج نطاق رؤيتنا المباشرة.
يكمن السر في انتقاء عملية فيزيائية تشارك فيها جسيمات نعرفها جيدًا، نعتقد أنها تتمتع بحساسية عالية لآثار الحقول الكمّية الجديدة. وغالبًا ما يتجسد ذلك في مشهد تحلل جسيم ثقيل، وُلد من قلب تصادم عنيف، ليتحوّل إلى ذرّات أخف وزنًا.
في الوقت نفسه، تَعرف هذه الكائنات غير المستقرة ألف طريق للفناء، لكن بعضها يختار طرقًا مألوفة، بينما يسلك القليل منها مسارات نادرة، لا تتكرر إلا مرة أو مرتين بين كل مليار ولادة. تلك اللحظات النادرة هي أصدق شهودنا على وجود الحقول الجديدة، وقد تكون مفاتيحنا لعبور حدود النموذج القياسي إلى عوالم أعمق وأغرب.
الفكرة في جوهرها بسيطة الملامح، لكنها عميقة المعنى: يبدأ المنظرون برسم تنبؤات شديدة الدقة، تحدد كم مرةً ينبغي أن يقع أحد تلك الاضمحلالات النادرة، لو أن الكون يسير تمامًا وفق قوانين النموذج القياسي.
ثم يتسلم التجريبيون الراية، فينقّبون في بيانات مصادم الهادرونات الكبير وسواه من المسرّعات، بحثًا عن تلك الإشارات الخافتة، ويقيسون معدلاتها بأقصى ما تسمح به أدوات البشر من دقة، فإذا ما ظهر انحراف واضح بين ما تشير إليه النظرية وما تكشفه التجربة، كان ذلك همسًا من عالم آخر، وإشارة إلى جسيمات لم تُرَ من قبل.
في ميدان الفيزياء، تبدو دراسة معدلات الاضمحلال بالدقة المنشودة مهمةً شديدة التعقيد، فأصعب ما يواجه العلماء هو سطوة "الديناميكا اللونية الكمّية"، تلك النظرية التي ترسم رقصة الكواركات (وهي جسيمات تحت ذرية يُعتقد أنها تُؤلِف كل شيء يُمكننا رؤيته تقريباً، ومكوّنة لنوى الذرات)، والغلوونات (الجسيمات التي تنقل القوة النووية الشديدة وتربط الكواركات معًا). غير أن حساب تأثيراتها بدقة يُعدُّ مهمة صعبة للغاية، لأن هذه التأثيرات تجعل من العسير التنبؤ بمصير العديد من حالات الاضمحلال النادرة. ومع ذلك، فإن اختيار قنوات الاضمحلال بحذر قد يفتح نافذة صغيرة نحو صدى بعيد قادم من أعماق الكون الزبتوني.
لهذا الغرض، تعاون بوراس مع إلينا فينتوريني، التي تعمل الآن بالمدرسة الدولية للدراسات المتقدمة في ترييستي بإيطاليا، لإعداد قائمة بأهم الأهداف البحثية، وأطلقوا عليها اسم "العظماء السبعة". وتعتبر جميع هذه الأهداف اضمحلالات نادرة جدًا لجسيمات تحتوي على أنواع غريبة من الكواركات: الكوارك الغريب أو الكوارك القاعي.
في المقابل، تُعدُّ هذه الاضمحلالات (التفككات) نادرة جدًا، إذ لا يمكن للجسيم أن يبلغ نهايته إلا بعد عبور متاهة من وسطاء هائلين في الكتلة، عابرين مسافات أصغر بكثير من أن تراها العين أو تُدركها الحواس.
وبسبب هذه الندرة والتعقيد، تكتسب هذه الاضمحلالات أهمية خاصة، بمعنى أنها قد تمنحنا فرصة لاكتشاف فيزياء جديدة خلال العقد الحالي، وهناك بالفعل تجارب حول العالم تحاول رصدها.
في أعماق المختبر تكمن أسرار الجسيمات، فالعظماء السبعة على سبيل المثال، ليسوا سوى لحظات اضمحلال عابرة لميزونات "بي"، تلك الكيانات الدقيقة التي تنسجها كواركات مختلفة في نسيج واحد.
وفي أروقة إحدى التجارب الرئيسية في مصادم الهدرونات الكبير -وهي تجربة "إل إتش سي بي"- أقود مع زملائي رحلة تتبع تلك اللحظة النادرة حين يتحول الميزون إلى ميون وشبيهه؛ وهما جسيمان كالإلكترونات لكنهما أثقل، يعبران العالم الكوانتي دون أن يلمسا الكواركات أو الغلوونات مباشرة. وما يجعل هذه اللحظات أكثر فرادة وندرة، أن معدلات حدوثها لا تتجاوز بضعة أجزاء في المليار أو أقل.
حتى الآن، أظهرت الدراسات في مختبرات التصادم تجارب تتفق مع النموذج القياسي، لكن لا يزال هناك احتمال لظهور آثار فيزياء جديدة مع زيادة دقة القياسات. ومؤخراً، أجرينا تحسينات كبيرة على التجارب لزيادة سرعة جمع البيانات 5 مرات، مما يتيح لنا الآن الحصول على عينات أكبر من جسيمات معينة ناتجة عن التصادمات، وهو ما سيمكننا قريبًا من إجراء قياسات أدق بكثير، وقد تظهر تأثيرات جسيمات جديدة مع تقلص الأخطاء في النتائج.
في عام 2023، وعلى الضفة الأخرى من العالم في اليابان، أضاءت تجربة "بيل 2" الدرب لأول مرة نحو واحدة أخرى من "العظماء السبعة"، حيث يتحلل ميزون "بي" إلى جسيم يُسمى "كاون" وجسيمين آخرين يُسمّيان "نيوترينوات". ومثل تلك التحللات التي نتابعها في مختبراتنا، تعتبر نظيفة جدًا أيضًا (أي سهلة التحليل والقياس بدقة عالية*)، ويرجع ذلك هذه المرة إلى وجود النيوترينوات التي لا تتفاعل كثيرًا مع المادة.
مثلما يحدث مع الميونات في التجربة، فإن وجود النيوترينوات في نواتج التحلّل يقلّل من تلك الشكوك أو التعقيدات النظرية المزعجة التي تصعّب الحسابات. والأمر المثير للاهتمام هو أن تجربة "بيل 2" وجدت أن معدل هذا التحلّل أعلى قليلًا مما يتوقعه النموذج القياسي في الفيزياء، لكن الدليل ما زال ضعيفًا جدًا، لذلك من المبكر الاحتفال أو اعتبار الأمر اكتشافًا مؤكدًا.
إن أعمق بواباتنا إلى "عالم الزبتون" (مستويات متناهية الصغر من الكون) قد تكون مخبأة في لحظات التحلل العابر لجسيمات تحمل في قلبها كواركًا غريبًا. ومن بين ذلك، يلمع عمل بوراس وفينتوريني، اللذين يشيران إلى ثلاثة تحللات نادرة "للكاونات"، تلك الكيانات التي تجمع بين كوارك غريب وكوارك مضاد، بوصفها جواهر ضمن "العظماء السبعة".
في الوقت ذاته، تستطيع هذه التحللات النادرة دراسة الفيزياء على مسافات ومقادير طاقة أكبر بكثير مما يمكن أن يبلغه حتى أقوى المصادمات المخطط لها مستقبلًا. والأهم أن هذه التحللات أظهرت بالفعل فروقًا مثيرة بين ما يتنبأ به الفيزيائيون نظريًا وما يقيسه العلماء تجريبيًا.
في تجربة صغيرة في سيرن تُعرف باسم "إن إيه 62″، تُسرَّع البروتونات لتصطدم بهدفٍ ما، فتنتج وابلًا من الجسيمات النادرة، منها الكاونات. ومنذ عام 2015، يسعى الكاشف "إن إيه 62" لالتقاط حدث شديد الندرة تتحلل فيه الكاونات إلى بايون مشحون واثنين من النيوترينوات، وهي جسيمات تكاد توصف بالشبحية لندرة تفاعلها مع المادة. ولأن رصد النيوترينوات مباشرة شبه مستحيل، يبحث العلماء عن كاون يبدو وكأنه تحوّل إلى بايون وحده، مع استبعاد أي احتمال أن تكون الجسيمات الأخرى قد أفلتت من الرصد بالصدفة.
في سبتمبر/أيلول 2024، فتحت تجربة "إن إيه 62" نافذة على أحد أندر المشاهد في عالم الجسيمات، إذ التقطت لأول مرة ومضة تحلّل يحدث مرة واحدة بين كل 10 مليارات كاون. ويُعدّ هذا أندر تحلّل جسيمي رُصد حتى الآن. وكان وقع المفاجأة أشد حين تبيّن أن معدّل حدوثه جاء أعلى بنسبة 50% مما يتنبأ به النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات.
في السياق ذاته، تصف عالمة الفيزياء كريستينا لازيروني، من جامعة برمنغهام بالمملكة المتحدة، والمتحدثة السابقة باسم التجربة، هذه اللحظة بأنها كانت مفعمة بالإثارة. غير أن الحذر يظل سيّد الموقف، إذ لا يزال مبكرا أن نحتفل بالنتائج. فهامش عدم اليقين في القياسات لا يزال كبيرًا جدًا، ما يجعل من الصعب الجزم بما إذا كان الأمر يكشف فعلًا عن فيزياء جديدة، أم أنه مجرّد تقلب إحصائي عابر.
الأمر أشبه بفتح العلماء نافذة صغيرة في جدار الكون، يطلّون منها على عالم الزبتون متناهي الصغر. وما عليهم الآن إلا أن يعبروا العتبة، ليتجوّلوا في أروقته الخفيّة، يجمعون من كل زاوية قياسات أدقّ تكشف أسراره. ولحسن الحظ، ستظل تجربة "إن إيه 62" تنبض بالحياة لعامين آخرين، قبل أن تُخلي قاعتها لمولود علمي جديد. وربما تمنحهم هذه السنوات القليلة دلائل أقوى على وجود فيزياء لم تُكتشف بعد، وإن كانت الحقيقة الكاملة ما تزال تتمنّع خلف حجب الغموض.
ما قد يزيد الأمر إحباطًا بالنسبة لبوراس، أن تجربة "الكاون عالية الكثافة" التي كان يُمكن أن تمدّ مشروع "إن إيه 62" بآفاق جديدة، لم تحصل على موافقة سيرن. ونتيجة لذلك، يتركز الأمل حاليًا على تجربة "كوتو" في منشأة "جيه بارك" باليابان، حيث يجري الفيزيائيون بحثًا موازيًا لرصد نوع نادر آخر من تحلّل الكاون. وحتى الآن، لم تسجّل التجربة أي إشارة مؤكدة، لكن المزيد منها في الطريق، وقد يحمل في طياته مفاجآت تكتب فصلًا جديدًا في القصة.
ومن هنا، ينبع السؤال المهم: أين يتركنا هذا كله؟ وللإجابة عن هذا السؤال، قررتُ مؤخرًا التحدث مع بوراس، لكنه أخبرني أن الإحباط قد تملّكه. فبالرغم من أنه لا يزال بصحة جيدة في الوقت الراهن، فإنه لم يعد شابًا على أية حال، ومن الطبيعي أن يرغب في رؤية تقدم سريع. ومع ذلك، يلوح في الأفق بصيص أمل يدعو إلى التفاؤل، إذ إن تطوير تجربة "إل إتش سي بي" بدأ يجمع كمًّا هائلًا من البيانات الجديدة، ومع القياسات الإضافية المنتظرة من تجارب في سيرن واليابان، قد تتحول المؤشرات الحالية إلى اكتشافات راسخة تمهّد الطريق لفيزياء جديدة.
وبالنظر إلى المستقبل، فإن العلماء يخططون لترقية ثانية وكبيرة لتجربة "إل إتش سي بي"، ستجعلها قادرة على جمع بيانات أسرع بحوالي 10 أضعاف. وحين تنبض هذه النسخة الجديدة من التجربة بالحياة في ثلاثينيات هذا القرن، ستساعد في تحقيق حلم بوراس بالقيام "برحلة استكشافية" حقيقية داخل عالم الزبتون، على أمل العثور على جسيمات غريبة قد تكون مختبئة هناك.
وبينما يترقب الفيزيائيون بفارغ الصبر بزوغ مؤشرات جديدة لفيزياء لم تُكتشف بعد، يقف العلم اليوم على عتبة مفترق طرق. ففي أروقة أوروبا العلمية، تُرسَم ملامح الرؤية البعيدة لميلاد وريثٍ لمصادم الهادرونات الكبير، أداة ستفتح نوافذ أوسع على أسرار الكون العميقة. لكن الطريق إلى هذا المشروع أشبه برحلة جبارة، تتشابك فيها التحديات العلمية والتقنية، وتعلو فوقها معركة الإرادة السياسية.
وفي النهاية، سيأتي المصادم الجديد بحجم وتكلفة يفوقان بكثير مصادم الهادرونات الكبير، لدرجة أنه سيصل إلى أقصى ما يمكن أن يُحققه مشروع علمي واحد. لذلك، فظهور أدلة واضحة على وجود فيزياء جديدة بانتظارنا، سيجعل الحجة لبناء مصادم قادر على استكشافها مباشرةً أكثر قوة وإقناعًا.
____________
* إضافة المترجم
هذه المادة مترجمة عن نيوساينتست ولا تعبر بالضرورة عن الجزيرة نت