غير أن هذه الفرضية تتهاوى عند أول اختبار حقيقي لمنطق الاقتصاد الهش. فالإمارات، التي قدّمت نفسها نموذجاً للاستقرار والنجاح في الشرق الأوسط، تقوم في عمقها على اقتصاد عبور، وخدمات لوجستية، وموانئ، أي على ثقة الآخرين قبل أي شيء آخر. وميناء جبل علي، الذي يُسوّق باعتباره رمز القوة الإماراتية، هو في الواقع نقطة ضعف مركزية؛ لأن أي اضطراب في حركة الملاحة لا يعني تعطيل مرفق اقتصادي فحسب، بل تشقق صورة الدولة بوصفها بيئة آمنة.
في هذا السياق، يصبح البحر سلاحاً استراتيجياً لا يقل أثره عن الصواريخ. فالدولة التي استخدمت الحصار أداة لإخضاع شعب، قد تجد نفسها عاجزة عن تحمّل منطق الحصار نفسه، لأن اقتصادها لا يملك عمقاً إنتاجياً يحميه من الصدمات. فالتجارة الدولية لا تتحرك بالعواطف ولا بالتحالفات السياسية، بل بمعيار واحد: الاستقرار. وما إن يُمسّ هذا الاستقرار، حتى تبدأ السفن وشركات التأمين والمستثمرون بالبحث عن بدائل، بدون انتظار توضيحات سياسية أو بيانات طمأنة.
وتزداد خطورة المأزق الإماراتي عند النظر إلى باب المندب، الذي تعاملت معه أبوظبي بوصفه مسرح نفوذ بعيد، لا عقدة اختناق حقيقية. أي اضطراب مرتبط بهذا الممر لا ينعكس على اليمن وحده، بل يضرب مباشرة قلب النموذج الإماراتي، القائم على تدفق سلس للتجارة بين الشرق والغرب. والمفارقة أن الإمارات ساهمت بوعي كامل في تعطيل موانئ يمنية كانت مرشحة لأن تكون منافساً طبيعياً لها، لكنها في المقابل رهنت أمنها الاقتصادي بممرات لا تملك السيطرة الكاملة عليها.
أما السعودية، فالمشهد لا يقل هشاشة وإن اختلفت الأدوات. فاقتصاد المملكة، رغم مسارات التنويع المعلنة، لا يزال يعتمد بشكل حاسم على النفط، وعلى صورة المورّد الآمن للأسواق العالمية. واستهداف منشآت نفطية– كما حدث سابقاً– لا يشكل ضربة عسكرية فقط، بل يضرب مباشرة مصداقية الدولة بوصفها ضامناً لاستقرار الطاقة العالمية. فالنفط، مثل الموانئ، ليس مجرد مورد، بل عقد ثقة بين الدولة والعالم.
وأي خلخلة متكررة في هذا العقد ترفع كلفة التأمين، وتربك الأسواق، وتضع المملكة في موقع دفاعي اقتصادي، مهما بلغت احتياطاتها أو علاقاتها الدولية. فالسوق لا ينتظر طويلاً، والبدائل– وإن كانت أكثر كلفة– تبدأ بالظهور كلما تكررت الصدمات. وهنا يتقاطع مصير الرياض وأبوظبي: كلاهما بنى نموذجاً اقتصادياً يفترض الاستقرار الدائم، وكلاهما تورط في حرب مفتوحة جعلت هذا الاستقرار موضع شك.
الأكثر تعقيدًا أن التنافس الخليجي نفسه يضيف طبقة جديدة من الهشاشة. فالرؤية الاقتصادية السعودية، القائمة على تطوير موانئ البحر الأحمر وتحويلها إلى مراكز لوجستية عالمية، تضع دبي تلقائياً في مرمى المنافسة. وفي لحظة اضطراب إقليمي، قد لا يكون هناك دافع حقيقي لدى الرياض للدفاع عن تفوق موانئ الإمارات، بل ربما ترى في تراجعها فرصة تاريخية لإعادة رسم خريطة التجارة في المنطقة.
في المحصلة، تكشف الحرب على اليمن عن حقيقة صادمة: أن من حوّل الاقتصاد إلى أداة حرب، قد يكتشف متأخراً أن اقتصاده هو أول الضحايا. فالقوة لا تُقاس فقط بعدد القواعد أو حجم الاستثمارات، بل بقدرة الدولة على امتصاص الصدمات حين تنقلب المعادلات. واليمن، الذي ظُنت أبوظبي والرياض أنه ساحة مفتوحة بلا كلفة، أثبت أن الجغرافيا حين تُستباح، قادرة على الرد، ليس فقط عسكرياً، بل عبر ضرب نقاط الاختناق التي يقوم عليها اقتصاد الخصم.
لذلك، فإن إعادة الحسابات، والانسحاب من منطق الحصار والهيمنة، لم تعد خياراً أخلاقياً فحسب، بل ضرورة استراتيجية. لأن البحر الذي استُخدم للابتزاز، قادر– حين تتغير الرياح– أن يتحول إلى أداة خنق، لا ترحم من بنى مجده على وهم الأمن المطلق.
المصدر:
البوابة الإخبارية اليمنية