فالتعليق المفاجئ لتصاريح الإقلاع والهبوط، وامتداده ليشمل الأجواء كافة، يشير بوضوح إلى أن التحالف السعودي الإماراتي هو من حرك الخيوط، في خطوة تبدو متصلة بعمليات إعادة انتشار وتحضير تجري في المحافظات الجنوبية والشرقية، وبالتحديد في حضرموت والمهرة، حيث تتصاعد تحركات المجلس الانتقالي المدعوم من أبوظبي.
وتزداد دلالة هذا التحرك حين يوضع ضمن اللحظة السياسية المحمومة التي يشهدها جنوب اليمن. فسيطرة قوات الانتقالي على مناطق واسعة من حضرموت أتت وسط توتر مع القوات المحسوبة على حزب الإصلاح، وفي ظل تباين سعودي إماراتي غير معلن حول من يملك اليد العليا على الشرق اليمني وموانئه ونفطه. ورغم محاولات الرياض الظهور بمظهر الضامن للاستقرار، إلا أن قرار إغلاق المجال الجوي بهذا الشكل يكشف جانباً من صراع النفوذ، ويؤكد أن التحالف يعيد هندسة المشهد بما يخدم مصالحه، وليس مصالح اليمنيين.
لكن التطور الأخطر على الإطلاق جاء من الإشادة الإسرائيلية العلنية بتحركات قوات المجلس الانتقالي. فقد قدّم المحلل الإسرائيلي آفي أفيدان- في منشور على حسابه بمنصة إكس تناقلته وسائل إعلام- قراءة تكاد تكون وثيقة إدانة سياسية، لأنها تكشف بجلاء طبيعة الارتباطات والتقاطعات التي يجري إنكارها رسمياً. فالرجل امتدح سيطرة قوات الانتقالي على سيئون ومنشآت حيوية في حضرموت بوصفها "نجاحاً استراتيجياً" ضمن خطة إماراتية إسرائيلية لمحاصرة قوات صنعاء وتأمين الممرات البحرية التي تؤثر على 30% من حركة الملاحة العالمية، والأخطر أنه وصف هذا التوسع الجنوبي بأنه جزء من "كماشة استراتيجية" تمتد من سقطرى– حيث تحدث عن مراكز استخبارات مشتركة– حتى عدن وحضرموت، بما يصنع طوقاً على قوات صنعاء بدون تدخل بري مباشر من تل أبيب أو أبوظبي.
هذا الثناء الإسرائيلي لا يمكن قراءته كتحليل محايد. إنه أشبه باعتراف صريح بأن التحركات العسكرية في جنوب اليمن ليست معزولة، بل تقع ضمن هندسة أمنية إقليمية تشارك فيها الإمارات وإسرائيل، مع قبول سعودي ضمني أو مباشر. فحين يُشيد خبير إسرائيلي بسيطرة الانتقالي على منشآت نفطية يمنية، ويقدمها بوصفها جزءاً من دفاع إسرائيل عن مصالحها، فإن ذلك يسلط الضوء على أن اليمن– أو على الأقل جنوبه– أصبح حلقة في مشروع أمني واقتصادي أكبر من حدود الجغرافيا اليمنية نفسها.
وتزداد الصورة وضوحاً حين يربط أفيدان بين توسع الانتقالي وإمكانية انضمام الجنوب إلى اتفاقات إبراهام، وهي إشارة لا يمكن فصلها عن تصريحات قيادات جنوبية موالية للإمارات، ولا عن طبيعة المشاريع التي تسعى أبوظبي لفرضها في الساحل والبحر. فحين يصف المحلل الإسرائيلي حضرموت بأنها "نموذج للكفاءة والتمكين التكنولوجي" المدعوم إماراتياً، ويقارنه بما يسميه "الإخفاق السعودي"، يصبح من الواضح أن ثمة مشروعاً إماراتياً إسرائيلياً متناسقاً في اليمن، يراهن على تحييد النفوذ السعودي التقليدي، وصناعة مجال نفوذ جديد يخدم المصالح المشتركة للطرفين.
وهنا تتضح العلاقة بين إغلاق الأجواء والتوسع العسكري في حضرموت. فالسعودية، التي علقت لسنوات في حرب مكلفة ضد صنعاء، تجد نفسها اليوم بين ضغط أمريكي إسرائيلي متزايد لضبط الخارطة العسكرية في اليمن بما يحد من قدرات صنعاء المتنامية، وبين نفوذ إماراتي يتوسع بسرعة في الجنوب والشرق. ومن هذا المنظور، يصبح قرار إغلاق الأجواء خطوة ضمن عملية تحشيد وإعادة تموضع، ضرورية قبل أي مرحلة قادمة، سواء كانت مواجهة جديدة مع صنعاء أو صراعاً داخلياً على النفوذ في الجنوب نفسه.
وفي ظل هذا التداخل الهائل بين المشاريع الإقليمية– الإماراتية والإسرائيلية والأمريكية– لا يبدو اليمن اليوم مجرد ساحة صراع داخلي. بل أصبح جزءاً من شبكة صراعات تمتد من غزة إلى البحر الأحمر إلى الخليج، وهو ما يجعل أي تحرك عسكري أو جوي في عدن أو حضرموت انعكاساً مباشراً لاعتبارات تتجاوز اليمنيين جميعاً. فالإشادة الإسرائيلية الأخيرة ليست مجرد تعليق سياسي، بل دليل إضافي، وربما الأكثر وضوحاً، على حجم التخادم الإقليمي الجاري، وعلى أن اليمن يتعرض لعملية إعادة تشكيل وفق أولوية السيطرة على ممرات التجارة العالمية وتأمين المصالح الإسرائيلية، وليس وفق مصالح سكانه أو مستقبل دولته.
وإذا كان إغلاق الأجواء قد بدا في لحظته مجرد حادث إداري أو خلل فني، فإن تزامنه مع هذا النوع من الاحتفاء الإسرائيلي يثبت أن ما يجري ليس معزولاً، بل جزء من هندسة كبرى تستهدف إعادة رسم خريطة السيطرة والنفوذ، تمهيداً لمرحلة قد تكون أكثر حسماً، سواء باتجاه التصعيد مع صنعاء أو تثبيت مشروع إقليمي جديد في جنوب اليمن.
المصدر:
البوابة الإخبارية اليمنية