يأتي ذلك بعد مرور عامين على عملية "طوفان الأقصى" التي هزّت المشهد الإقليمي والدولي في السابع من أكتوبر عام 2023، حيث توالت الأحداث خلال هذه الفترة التي تجاوزت العامين، خاصة العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة طيلة تلك الفترة، وما نتج عنه من خسائر كبيرة جراء توحش الكيان وارتكابه لجرائم الإبادة بحق المدنيين والتي راح ضحيتها قرابة ربع مليون فلسطيني ما بين شهيد ومفقود وجريح بحسب الإعلان الرسمي من قبل السلطات الصحية في حكومة غزة. بالإضافة إلى الدمار الكبير الذي طال أكثر من 80% من البنية التحتية في القطاع، ومعاناة قرابة مليوني نسمة جراء المجاعة وانعدام الغذاء والدواء بسبب الحصار الذي يفرضه الكيان على كامل قطاع غزة.
ورغم الحجم المهول لتلك الخسائر، فإن ثمة ما تحقق لصالح القضية الفلسطينية، والشعب الفلسطيني، حيث يُجمع محللون وخبراء سياسيون على أن هذه الأحداث، وما تلاها من عدوان غير مسبوق على غزة، قد نجحت في تحقيق تحول استراتيجي ومعنوي هام للقضية، مخرجةً إياها من دائرة النسيان الدولي إلى صدارة الأجندة العالمية.. مشيرين إلى أنه يمكن رصد عدد من المكاسب الرئيسية أعادت تشكيل الوعي العالمي والإقليمي بالصراع الإسرائيلي العربي، وعدالة القضية الفلسطينية، وحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، وعاصمتها القدس.
كسر الجمود وتأكيد مركزية الصراع
لعل أول ما أثمرت عنه عملية طوفان الأقصى هو كسر الجمود السياسي والإعلامي الذي خيّم على القضية الفلسطينية لعقود، ففي الوقت الذي كانت فيه قضايا المنطقة تتصدر الاهتمام ومحاولات التطبيع العربي الإسرائيلي تتقدم بوتيرة متسارعة، جاءت العملية لتفرض نفسها بقوة، معيدةً القضية إلى مركز الصراع في المنطقة، لتثبت الأحداث أن الاستقرار الإقليمي لا يمكن تحقيقه عبر تجاوز أو تهميش القضية الفلسطينية، والقفز على حقوق الشعب الفلسطيني، باعتبار ذلك جزء حيويا لا يمكن تجاهله في أي تسوية مستقبلية.
نسف سردية الكيان ونزع الغطاء عن جرائمه
بدا واضحا أن من أهم المكاسب التي يرى المحللون أنها تحققت كثمرة لطوفان الأقصى، هو انكشاف حقيقة إسرائيل أمام الرأي العام العالمي، فقد أدت المجازر والإبادة الجماعية والحصار والتجويع المتعمد لأكثر من مليوني فلسطيني في غزة إلى تحطيم صورة "الدولة الديمقراطية" التي سعت إسرائيل لترويجها، ونسفت السردية الإسرائيلية التي لطالما تم تضليل الرأي العام العالمي بها لعقود طويلة، بأن الكيان الإسرائيلي يواجه الإرهاب وتبييض جرائمه بتصويرها كعمليات دفاع عن النفس.
هذا الانكشاف المروع، الذي وثقته وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، أيقظ الضمير العالمي وحفز موجة مظاهرات واحتجاجات شعبية غير مسبوقة في جميع أنحاء العالم، خاصة في الغرب، مناصرةً للقضية الفلسطينية. وشكل هذا الحراك الشعبي الهائل ضغطا على الحكومات وبدأ يترجم إلى تغيير ملموس في الرأي العام العالمي نحو فهم الرواية الفلسطينية وتاريخ الاحتلال. وقد تجسد هذا الضغط في خطوات دبلوماسية نادرة، حيث بدأت دول أوروبية بارزة مثل إسبانيا والنرويج وإيرلندا الاعتراف رسمياً بدولة فلسطين.
الحراك الشعبي يقلب الموازين الغربية
على الصعيد الدولي، شهد العالم صحوة ضمير شعبية غير مسبوقة، ما فتئت أن وصل صداها بطريقة أو بأخرى إلى الأنظمة السياسية ومراكز صنع القرار، وتجسدت تلك الصحوة في موجات عارمة من المظاهرات والاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين. هذا الحراك كان لافتاً بشكل خاص في العواصم الغربية وأمريكا الشمالية، مما أشار إلى تحول جوهري في الرأي العام، ما يؤكد تزايد الوعي بالمظلومية الفلسطينية وتاريخ الاحتلال، خاصة بين جيل الشباب، الأمر الذي دفع بالعديد من الهيئات والمنظمات إلى تبني دعوات المقاطعة وسحب الاستثمارات، كما أن الأروقة السياسية في عدد من الدول الغربية شهدت سجالات من الجدل بشأن التنديد بجرائم الكيان الإسرائيلي في غزة، والتضامن مع الشعب الفلسطيني، والاعتراف بحقه في إقامة دولته المستقلة.
كما انعكس هذا الضغط الشعبي في إنجازات دبلوماسية نادرة؛ حيث دفعت التطورات الأخيرة بعض الدول الأوروبية مثل إسبانيا والنرويج وإيرلندا إلى الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين، وهو ما يُعد مكسباً تاريخياً يرسخ الشرعية الدولية للقضية.
توسيع جبهة المقاومة
على الصعيد الإقليمي، أثمرت العملية عن تغييرات استراتيجية لافتة، يأتي في مقدمتها ظهور قوى مقاومة جديدة، حيث نتج عن الأحداث ظهور أو تفعيل أدوار قوى مقاومة إقليمية جديدة على خط المواجهة، أبرزها جبهة اليمن، مما وسع دائرة الصراع الجيوسياسي المتعلق بفلسطين وأعاد تشكيل خرائط التحالفات.
وبتوسع جبهات المقاومة وظهور جبهات جديدة كاليمن، وما شكلته هذه الجبهة من صدمة لكيان الاحتلال ولحلفائه الغربيين وخاصة الولايات المتحدة، حيث كان لعمليات قوات صنعاء ضد الكيان الإسرائيلي تأثير حاسم، كبد الاحتلال الإسرائيلي خسائر كبيرة، وكشف هشاشة منظوماته الدفاعية، بالإضافة إلى ورقة البحر، والتي أثبتت فاعليتها، باعتبارها ورقة ضغط في سبيل المساندة للمقاومة الفلسطينية، ونصرة الشعب الفلسطيني.
إيقاظ الوعي العربي بالخطر الوجودي
كان لرد الفعل الإسرائيلي الوحشي وغير المنضبط أثر بالغ الأهمية على الشعوب العربية. لقد جعل هذا التمادي في العدوان والمجازر الشعوب تستشعر الخطر الوجودي للسياسات الإسرائيلية، وتحول هذا العدوان من مجرد صراع حدودي إلى تهديد خطير يمس المنطقة العربية بأسرها. هذا الإحساس بالخطر المشترك عزز من التضامن الشعبي، وأكد أن إنهاء الاحتلال لم يعد قضية فلسطينية بحتة، بل هو شرط للأمن والاستقرار العربي العام.
تعزيز الثقة بالمقاومة وكشف هشاشة الخصم
وعلى مستوى الداخل الفلسطيني والأوساط العربية، نجحت العملية في إعادة بناء الثقة بقدرة المقاومة على الفعل والمبادرة بعد سنوات من الإحباط، فعلى الرغم من الانقسام السياسي، ارتفعت روح الوحدة والمقاومة بشكل كبير، مما عزز الشعور بالمصير المشترك بين الفلسطينيين في جميع أماكن تواجدهم.
أما استراتيجياً، فقد مثلت الأحداث صدمة قوية للعقيدة الأمنية الإسرائيلية، حيث كشفت العملية عن هشاشة المنظومة الأمنية والاستخباراتية التي كانت تُعتبر لسنوات "لا تُقهر"، وكسرت هذا الحاجز النفسي والأمني، ما يُعد مكسباً معنوياً واستراتيجياً للمقاومة، حيث أثبت أن التفوق التكنولوجي لا يضمن الحصانة الكاملة للكيان.
تجميد مسار التطبيع وتأكيد الأولوية
سياسياً، كان للعملية أثر بالغ الأهمية في تجميد أو إبطاء مسار تطبيع العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، خاصة المحادثات التي كانت تترقبها المنطقة. لقد وضع هذا التطور قيداً أخلاقياً وسياسياً على أي تحرك عربي لتطبيع العلاقات قبل التوصل إلى حل عادل للقضية.
وبناء على ما أفرزته مجريات الأحداث، يمكن الجزم بأن عملية "طوفان الأقصى" أعادت التأكيد على المبدأ الجوهري بأن القضية الفلسطينية هي المركز الحقيقي للصراع، وأن تحقيق أي سلام إقليمي حقيقي وبعيد المدى يظل مرهوناً بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية.