آخر الأخبار

الطغاة لا يصنعون السلام.. كيف تُبيّض خطة ترامب إبادة غزة لصالح نتنياهو ؟

شارك

العفو الذي يُعرض اليوم على حماس، بعد مرور عام تقريباً على عملية طوفان الأقصى، في السابع من أكتوبر 2023، لا يُمكن فصله عن المجازر الجماعية والحصار الممنهج والقصف العنيف الذي حول غزة إلى أرض خراب.

العفو، إذن، ليس سوى إعادة تدوير للأزمة في ثوب مبادرة إنسانية، لكن الواقع أن هذا العفو جاء فقط بعد أن استُنفدت الآلة العسكرية الإسرائيلية في القتل والتدمير، وبعد أن تحول الضغط الدولي إلى خطر حقيقي على صورة إسرائيل، خصوصاً بعد تحركات دولية متزايدة في محاكم جرائم الحرب، وارتفاع غير مسبوق في التأييد الشعبي العالمي للقضية الفلسطينية.

خطة ترامب، التي تتضمن نقل قادة حماس إلى الخارج، وتبادل الرهائن بالسجناء، و"العفو" عن المقاتلين الذين يتعهدون بالتعايش، تبدو من الوهلة الأولى كأنها صفقة سياسية لإغلاق ملف الصراع. لكنها في الحقيقة، محاولة ممنهجة لامتصاص الغضب الدولي، وتجميد موجات التضامن المتصاعدة مع الفلسطينيين. تُسوق الخطة كأنها "نهاية مشرّفة" للصراع، بينما هي في الواقع إعلان انتصار للصهيونية عبر التهجير والإذلال وإعادة تأهيل الجريمة في الوعي العالمي.

ليست هذه الخطة دبلوماسية، بل صفقة مافياوية: دماء قُدّمت كقربان سياسي، وصفقة غُلفت بالإنسانية بينما هي عقد إذعان. إن أي حل لا يُعيد للشعب الفلسطيني حريته، ولا يُحاسب مجرمي الحرب، هو في حقيقته ترسيخ للاحتلال، وليس لإنهائه.

لم تكن إسرائيل الدولة الأمنية الأقوى في المنطقة فقط، بل قدمت نفسها لسنوات ككيان لا يُخترق، ولا يُفاجأ. لكن في 7 أكتوبر، انهار هذا الوهم في ساعات، وبدت إسرائيل كمن فوجئ بانكشاف داخلي مدوٍّ. وبدل أن يُحمّل نتنياهو المسؤولية السياسية والأمنية، حوّل هذه الكارثة إلى فرصة لبناء سرديته الشخصية كبطل حرب، لا كمن تسبب فيها.

كل ما أعقب السابع من أكتوبر لم يكن نابعاً من استراتيجية عسكرية بقدر ما كان رهينة لبقاء نتنياهو السياسي. الهجوم الكاسح على غزة، التدمير الشامل للبنية التحتية، المجازر الجماعية، والتهجير، كانت كلها أدوات لتأجيل سقوط نتنياهو. ومن هنا، فإن ما يبدو اليوم كمبادرة "عفو"، هو في الحقيقة خروج آمن له، مغلف بمظهر المصالحة.

المفارقة الأخلاقية الفجة التي لا يمكن تجاوزها، هي كيف يمكن لنتنياهو- الذي تُحمّله منظمات حقوقية دولية مسؤولية مباشرة عن جرائم إبادة- أن يتحول فجأة إلى صانع سلام، أو حتى إلى جهة تفاوضية؟ ما يحدث اليوم هو إعادة تدوير للصورة، لا للواقع. فأي "سلام" لا يأتي بعد عدالة، ليس سوى تسوية قسرية.

الرهائن الذين يُستخدمون الآن كعملة سياسية قُتل معظمهم بغارات إسرائيلية، حسب تقارير متقاطعة. والمدنيون في غزة الذين يُمنحون "عفواً" لم يكونوا طرفاً في القتال أصلاً، فماذا يعني "العفو" عن طفل تحت الأنقاض، أو عن أم فقدت أبناءها؟ هذا ليس سلاماً، بل تهكم فج على العدالة.

من الواضح أن الهدف الاستراتيجي الأساسي لخطة ترامب هو ضرب موجة التعاطف العالمي غير المسبوق مع الفلسطينيين. لقد أصبحت صور غزة ومعاناة سكانها، رمزاً للاضطهاد في الضمير العالمي، وتهديداً كبيراً للرواية الصهيونية التي طالما احتكرت دور "الضحية".

بتقديم "حل" شامل- ظاهرياً- يبدو أن الولايات المتحدة وإسرائيل تسعيان لإغلاق ملف غزة في الوعي العالمي، وتجميد أي نقاش مستقبلي حول المحاسبة، أو إعادة الإعمار بشروط فلسطينية، أو حتى العودة لملف الاحتلال نفسه. هي محاولة لمسح ذاكرة العالم، لا لتصحيح مسار التاريخ.

نتنياهو لن يُسجله التاريخ كصانع سلام، بل كأحد أكثر القادة استخداماً للأزمات من أجل البقاء السياسي. أما خطة ترامب، فهي ليست سوى ورقة توت أخيرة تغطي عورة نظام فقد كل شرعية أخلاقية، وتحاول غسل دماء عشرات آلاف الشهداء بماء "السلام" المسموم.

لن يكون هناك سلام عادل ما لم تتم إعادة تعريف ما جرى في غزة كما هو، بوصفه إبادة جماعية موثقة، لا حادثاً عرضياً في "صراع معقّد". ومن يحاولون اليوم إعادة إنتاج الجريمة كإنجاز دبلوماسي، إنما يزرعون بذور انفجار قادم، أشد قسوة وأطول مدى.



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا