هذا التحرك لا يمكن قراءته خارج سياق الاستراتيجية الأمريكية-الإماراتية طويلة الأمد لإعادة تشكيل المشهد العسكري في مناطق سيطرة الشرعية بما يخدم مصالح الطرفين: واشنطن التي تسعى إلى ضمان أمن البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وأبوظبي التي تسعى إلى تثبيت نفوذها على الجغرافيا والموانئ اليمنية، باستخدام أدوات محلية موالية.
بحسب المعلومات المتداولة، فإن عملية "التقييم" تشمل جميع عناصر ألوية العمالقة في الساحل الغربي وشبوة، وتركز على جوانب صحية وبدنية وتكتيكية، إلى جانب اختبارات في استخدام السلاح، مع التركيز الصريح على الجانب الفكري والعقائدي الذي يتبنّاه المقاتلون، في ما أُطلق عليه الناشط الجنوبي عادل الحسني: "سلفية المخابرات".
هذا البند الأخير ليس تفصيلاً تقنياً، بل يعكس توجهاً خطيراً نحو تشكيل جهاز أمنيعسكري مؤدلج، وليس فقط مؤهلاً ميدانياً، وهو ما يشير إلى نية إنشاء قوة عسكرية بمرجعية سلفية تابعة تنظيمياً لا للجيش اليمني، بل للممول الخارجي وأجهزته الأمنية. الأمر الذي يعيد للأذهان نماذج أفغانية وسورية وعراقية، حيث تم تشكيل فصائل محلية باسم مكافحة الإرهاب، ليتضح لاحقاً أنها أدوات للفوضى ومشاريع التقسيم.
حكومة "الشرعية" اليمنية، التي يُفترض أنها الممثل الرسمي للشعب كما تصف نفسها، تبدو اليوم مغيّبة بالكامل عن قرارات جوهرية تمسّ الأمن والسيادة، ولا تملك إلا الموافقة أو الصمت. فكلما استُحدِث معسكرٌ جديد، أو أُعيد تشكيل لواء، أو زار وفد أمريكي أو إماراتي مواقع عسكرية يمنية، يتم الأمر خارج علم الحكومة، أو بموافقتها الشكلية.
هذا السلوك لا يمثل مجرد ضعف، بل ارتهان سياسي وعسكري كامل، يُفرغ الدولة من مضمونها، ويُحوّلها إلى واجهة دبلوماسية لكيان خاضع لإملاءات الخارج. وبينما تُبرَّر هذه التدخلات تحت لافتات "التعاون الأمني"، إلا أن النتيجة العملية هي بناء جيش ظلّ، يأتمر بأوامر أبوظبي وواشنطن.
المفارقة الكبرى، أن جزءاً من هذه التشكيلات التي يتم إعادة تأهيلها أو دعمها لوجستياً، تضم في صفوفها عناصر ذات خلفيات متشددة. فصائل سلفية متطرفة، وشخصيات ذات ارتباطات مع القاعدة أو حتى داعش، موجودة إما بشكل مباشر ضمن صفوف "العمالقة"، أو على أطراف التحالفات الميدانية المرتبطة بها.
الإمارات- التي رفعت شعار "مكافحة الإخوان والإرهاب"- لم تتردد في استخدام بعض هذه الفصائل في صراعاتها مع خصومها المحليين، مستفيدة من تساهل أو تجاهل أمريكي مريب. واليوم، تعود هذه العناصر إلى الواجهة، ضمن مشروع إعادة التأهيل والتسليح، ما يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الفوضى الأمنية، ستكون نتائجها مدمّرة على المجتمع اليمني، خصوصاً في المناطق الخاضعة لحكومة "التحالف".
أصبح جنوب اليمن بمثابة "المختبر العسكري" للتحالف الأمريكي-الإماراتي. كل تجربة أمنية أو مشروع فصائلي انفصالي يتم اختباره هناك: من الحزام الأمني، إلى النخب، إلى العمالقة، والآن إلى إعادة هيكلتهم ضمن قوالب جديدة.
كالعادة، المواطن اليمني هو الخاسر الأكبر. فبنية الأمن في الجنوب لم تُبنَ على أسس وطنية، بل على تناقضات وولاءات خارجية، ما يجعلها قابلة للانفجار في أي لحظة. وإذا اندلعت موجة جديدة من العنف، سواء بين التشكيلات المختلفة، أو ضد المدنيين، فلن يدفع الثمن سوى السكان المحليين الذين يعيشون في مناطق باتت خاضعة لأجهزة أمن موازية، لا تعترف بالقانون ولا بأعراف البلاد، وهنا يتضح جلياً أن الشرعية ليست تلك الواجهة التي تتلقى دعماً دولياً وإملاءات خارجية، بل من يحفظ كرامة شعبه ويصون سيادته.