هذا التحول الأميركي لم يأتِ في فراغ، بل جاء في لحظة تشهد فيها الساحة اليمنية تصعيداً غير مسبوق من جانب صنعاء. ففي الأسبوعين الأخيرين وحدهما، نُفّذت أكثر من ثماني عمليات يومياً في المتوسط ضد أهداف مرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي، مستخدمة الطائرات المسيّرة والصواريخ الانشطارية، ما أدى إلى تعطيل مرافق استراتيجية أبرزها مطار “رامون” في جنوب فلسطين المحتلة.
هذا التصعيد الميداني كشف قدرة صنعاء على فرض معادلة ردع تتجاوز حدود اليمن، الأمر الذي أربك الخطط الأميركية الرامية إلى تحجيم قدرات اليمن عسكرياً.
الولايات المتحدة كانت قد دخلت في مواجهة مباشرة مع اليمن مطلع العام عبر سلسلة غارات وهجمات بحرية، لكن الحصيلة لم تكن على مستوى توقعاتها. فبالرغم من التفوق التكنولوجي واللوجستي الأميركي، تمكنت الدفاعات اليمنية من إسقاط مقاتلتين من طراز “إف-18” خلال عملية واسعة على حاملة طائرات في البحر الأحمر، في حادثة نادرة شكّلت صدمة للمؤسسة العسكرية الأميركية. أعقب ذلك إعلان الرئيس الأميركي هدنة أحادية في مايو، وهو ما اعتبره خصوم واشنطن اعترافاً ضمنياً بفشل الخيار العسكري.
المقارنة بين أداء الطرفين تبرز بوضوح الفجوة بين الأهداف الأميركية والنتائج المتحققة على الأرض. فبينما راهنت واشنطن على توجيه ضربات دقيقة تكسر إرادة صنعاء وتعيدها إلى طاولة المفاوضات بشروط أكثر مرونة، جاءت النتيجة عكسية تماماً. عمليات صنعاء لم تتراجع بل تصاعدت، وانتقلت من الرد الدفاعي إلى الهجوم الإقليمي المفتوح دعماً لغزة، ما منحها زخماً شعبياً ورسخ صورتها كطرف فاعل في محور المقاومة.
الانتقال إلى سلاح العقوبات يبدو إذن محاولة لإعادة الإمساك بزمام المبادرة عبر استهداف البنية المالية والاقتصادية لخصوم واشنطن. لكن فعالية هذه الأدوات محل شك واسع. فاليمن يعيش منذ سنوات تحت حصار اقتصادي خانق، وقد طوّر شبكات تمويل تمكّنه من الاستمرار في تمويل عملياته العسكرية رغم الضغوط.
على المستوى الاستراتيجي، يكشف هذا التحول الأميركي عن مأزق مزدوج: من جهة، تعجز القوة العسكرية عن ردع طرف يمتلك إرادة قتال عالية ويعتمد تكتيكات غير متماثلة؛ ومن جهة أخرى، تبقى أدوات الضغط الاقتصادي محدودة التأثير على كيان سياسي-عسكري غير معتمد على النظام المالي العالمي. النتيجة هي مزيد من الاستنزاف الأميركي في ساحة بعيدة جغرافياً، في وقت تواجه فيه واشنطن أولويات أكثر إلحاحاً في أوروبا وآسيا.
التصعيد الاقتصادي قد يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من المواجهة، يكون عنوانها كسر الإرادة لا كسر السلاح. لكن السؤال الذي يطرحه المراقبون هو: هل تستطيع الولايات المتحدة تحمل تبعات مواجهة مفتوحة لا أفق واضحاً لنهايتها؟، خصوصاً أن أي فشل إضافي في تحقيق أهداف ملموسة سيضعف موقعها التفاوضي ويمنح خصومها مساحة أكبر للمناورة.
في المحصلة، ما جرى ليس مجرد إعلان عقوبات جديدة، بل هو اعتراف عملي بأن الخيار العسكري لم يحقق المرجو، وأن واشنطن تجد نفسها مضطرة إلى البحث عن أدوات بديلة في معركة باتت تتجاوز اليمن لتلامس موازين القوى في المنطقة. وإذا استمر التصعيد على هذا النحو، فقد تكون هذه الحزمة الاقتصادية بداية لمرحلة أشد تعقيداً عنوانها الرئيسي الفشل في إخضاع صنعاء عسكرياً والانتقال إلى صراع استنزاف طويل الأمد.