تغيب الإرادة السياسية عن أكثر العواصم العربية والإسلامية، بينما يتقدّم بعضها الآخر خطوات في مسار الشراكة الضمنية أو العلنية مع الاحتلال. تتصدر تركيا والسعودية وجمهورية مصر العربية هذه القائمة، ليس فقط عبر المواقف الدبلوماسية المتواطئة أو الخطابات الرمادية والبيانات الهشة، بل عبر الوقائع المكشوفة التي لا يمكن إنكارها، وأبرزها استمرار إبحار سفنها التجارية إلى الموانئ الإسرائيلية.
تُظهر بيانات مواقع تتبّع الملاحة البحرية العالمية أن السفن التركية والمصرية والسعودية لا تزال ترسو بانتظام في موانئ حيفا وأسدود، رغم تصاعد العدوان الإسرائيلي على غزة، وتوثيق الجرائم الجماعية بحق المدنيين. هذا الواقع يطرح سؤالاً أخلاقياً صارخاً: ما قيمة التنديد اللفظي إذا اقترن بتغذية ماكينة الحرب اقتصادياً؟
على الطرف الآخر من المشهد، تتجلى مفارقة الغرب الكبرى: الولايات المتحدة تقود آلة الإبادة علناً وتموّل الحرب وتسلح الجيش الإسرائيلي، وتنكر في الوقت نفسه وجود مجاعة في غزة، رغم كل الشهادات الأممية والتقارير الإعلامية المباشرة بالصوت والصورة. في المقابل، تكتفي دول الاتحاد الأوروبي بإصدار بيانات قلق، بينما تواصل تصدير الأسلحة وتوقيع عقود بمليارات الدولارات مع الكيان.
لكن في خلفية هذا المشهد، بدأت تلوح إشارات التوجّس الأوروبي من تحوّلات جيوسياسية كبرى، كما عكسه البيان الأوروبي الأخير عقب مفاوضات دولية حساسة، ربما تأثّر بالتحذيرات الروسية غير المباشرة بشأن قابلية الحدود الدولية للتغيير، وأمثلة مثل قمة ألاسكا باتت تُستخدم للدلالة على أنّ السيطرة لا تعني الأبدية، وأن الجغرافيا خادعة حين تدار بأدوات القوة فقط.
وفي أقرب خطوط النار إلى فلسطين، يعيش لبنان على صفيح ساخن سياسي وأمني، حيث تتكثف الضغوط الغربية والعربية على المقاومة، ليس عبر الحرب، بل عبر التفاوض والتطويق الداخلي. فهناك محاولات داخلية وخارجية لانتزاع سلاح حزب الله عبر وساطات أمريكية، يروّجون لها تحت عناوين الحياد أو السيادة، بينما لا تخلو من بوادر تطبيع وقنوات موازية للتنسيق مع إسرائيل.
الأخطر أن بعض القوى المحلية باتت تعلن صراحةً استعدادها لتقاسم الأدوار مع العدو في استهداف المقاومة، وهو ما يُنذر بانقسام وطني حاد، قد يُستخدم ذريعة لفرض تسويات تهدف لنزع قدرة لبنان على ردع العدوان، لا سيما في ظل المتغيرات الإقليمية.
على الضفة الأخرى من البحر الأحمر، يكشف اليمن عن وجهه الصلب، رافعاً راية غزة بالفعل لا بالبيانات. الحظر البحري الذي تفرضه صنعاء على السفن المتجهة إلى إسرائيل أثبت فعاليته، ووفقاً لتقارير إسبانية، تحوّل مضيق باب المندب إلى فخٍ مميت للسفن المرتبطة بالكيان.
ورغم الجهود السعودية المكثفة لإفشال هذا الحظر، فإن ما يجري في البحر الأحمر يعكس تغيّراً نوعياً: لم يعد اليمن مجرد دولة تدافع عن نفسها، بل أصبح لاعباً يُغيّر قواعد اللعبة. وهذا بحد ذاته إنذار لدول الإقليم التي لا تزال تتعامى عن جدوى الفعل المقاوم، وتراهن على علاقاتها مع تل أبيب كأداة نفوذ إقليمي.
في المشهد العربي والدولي المعقّد، تتضح معالم التحالفات الحقيقية. غزة لا تواجه الاحتلال وحده، بل تواطؤ الجغرافيا السياسية، ونفاق الشراكة الاقتصادية، وصمت الأنظمة التي فضّلت الاستقرار على العدالة، والنفط على الدم.
لكن البوصلة لا تزال تشير إلى فلسطين، حتى وإنْ بدا الطوفان القادم من غزة مجرد شرارة، لأنّ المعادلات بدأت تتغير، والخيارات التي كانت مستحيلة باتت مطروحة. وما بين نار غزة وماء البحر، ثمة مرحلة جديدة تُرسم تحت جنح الظلام، لكن أنوار المقاومة لا تزال قادرة على إضاءة الطريق.