لقد شيّعت غزة ستة من الصحافيين دفعةً واحدة، رُسلُ الحقيقة وناقلي الوجع، في مشهد لا يمكن وصفه إلا بالخوف الإسرائيلي من الحقيقة، واستهدافهم لم يكن خطأ عسكرياً ولا ضرراً جانبياً كما تزعم آلة الإعلام الصهيونية، بل هو سياسة ممنهجة تقوم على طمس الحقيقة وقتل الشاهد قبل أن يُدلي بشهادته. إنها حرب على الكلمة والصورة، لأنها الأدوات الوحيدة القادرة على تجريد المحتل من دروعه الزائفة التي صنعها بمساعدة إعلام عالمي متواطئ ودعم غربي لا يخجل.
ليست هذه المرة الأولى التي يُستهدف فيها الصحافيون في فلسطين. لكن تصاعد وتيرة استهداف الإعلاميين، وقتلهم في وضح النهار، يكشف مدى ارتباك إسرائيل من احتمال اختراق روايتها التضليلية. فما الذي تخشاه إسرائيل حقاً؟
تخشى أن يرى العالم صور الجوعى والمشردين، والأطفال ذوي الأعين الغائرة، والنساء اللائي يبكين بجوار جثث أحبائهن.
تخشى أن تُكشف صفقات التهريب والتمويل من أنظمة عربية، تدّعي الوقوف إلى جانب الفلسطينيين في العلن، بينما تسلّم رقابهم إلى العدو في السر، تخشى أن تخرج إلى العلن وثائق وتحقيقات تؤكد تدفق الأموال الخليجية إلى مصانع السلاح الإسرائيلية، بينما يُحرم الشعب الفلسطيني من لقمة العيش.
إنها تخاف الحقيقة لأنها تكشفها على حقيقتها: كيان احتلال عنصري متوحش، لا يقيم وزناً للقانون الدولي، ولا يراعي أدنى قيم الإنسانية.
ما يحدث في غزة ليس مجرد حصار، بل عملية قتل جماعي بالتجويع، تُنفذ أمام أعين العالم بأسره. الموت في الطوابير للحصول على مساعدات لا يكشف فقط جريمة الحصار، بل أيضاً تواطؤ من يملك الأموال والقدرة على كسر هذا الحصار ولم يفعل.
في المقابل، نشهد موجة تطبيع عربي مهين، تُساق فيها الدول الواحدة تلو الأخرى إلى "حظيرة التطبيع"، كما لو أن الشرف والكرامة قد أصبح عبئاً على البعض. ومع كل خطوة تطبيعية، تزداد شراسة الاحتلال، ويزيد بطشه، لأنه يعلم أن الظهر مكشوف، وأن اللسان العربي الرسمي لا يملك سوى البيانات المخزية.
وفي المشهد الدولي، ما تزال القوى الغربية تمارس سياسة الخداع الطويل. يُؤجّلون الاعتراف بدولة فلسطين إلى "شهور قادمة"، كما فعلوا منذ عقود، دون أن يحترق لهم ضمير أو يُحرّكهم صوت الأطفال تحت الركام. الولايات المتحدة، التي تملأ المنطقة بالقواعد العسكرية وتُغذي الانقسامات في سوريا واليمن ولبنان، تُواصل الدفع نحو مشاريع تفكيك وتطويع لا تخدم سوى الكيان الغاصب.
وفي لحظة دقيقة، تنشر واشنطن قواتها وتُرسل أدوات تجسس جديدة، بينما تستنفر أدواتها الإعلامية لتشويه كل من يعارض المشروع الصهيوني. لكنّ الشعوب لم تعد صامتة، وصوت الغضب الشعبي الإنساني يتصاعد في كثير من العواصم.
إسرائيل تخاف الحقيقة لأنها تنزع عنها ورقة التوت الأخيرة. هي تخشى عدسة الكاميرا، وترتعد من صحافي يحمل قلماً، لكن الحقيقة لا تموت وإن قُتل الصحافيون فدماؤهم تصرخ، وإن صُودرت الكاميرات فإن الصور المحفوظة في ضمير العالم كفيلة بإدانة القاتل.
إنها حرب على الوعي، وعلى الذاكرة، وعلى التاريخ. وفي هذه الحرب، فإن الانتصار لن يكون فقط في الميدان، بل أيضاً في فضح الأكاذيب وتوثيق الجرائم وإبقاء الرواية الفلسطينية حيّة كونها روح الحقيقة، مهما تعاظمت آلة القتل والتضليل الإسرائيلية.