آخر الأخبار

إسرائيل وعدوى الانفصال من "أرض الصومال" إلى اليمن

شارك

يمكننا القول إن خارطة العالم ليست نهائية، وإن بدت كذلك. إن أي محاولة لإضافة دولة جديدة – دولة واحدة- إلى خارطة العالم قد تكون مزلزلة للنظام العالمي. يسري هذا على المنطقة العربية، كما على القارة الأوروبية.

وهو أمر غاية في الخطورة في آسيا، كما يعد أحد أسباب عدم الاستقرار في أفريقيا. كان لافتا، ودالا، أن تأتي استجابة الصين على الاعتراف الإسرائيلي بـ"إقليم أرض الصومال الانفصالي" حادة، مستخدمة تعبيرات مثل؛ "التآمر مع قوى خارجية". الصين عضو في مجلس الأمن، وترفض بحزم منح الكيانات الانفصالية قبلة حياة، فلديها على ترابها الوطني أزمات خاملة من هذه الشاكلة.

إلى جانب قومية "الهان"، التي تشكل العمود الفقري للمجتمع الصيني، ثمة 55 إثنية صينية، وخارطة من اللغات. تعمل الصين على "صيننة" Sinicization كل هذا التنوع لصالح الهوية الأم العابرة للإثنيات: الدولة الوطنية. إن ترك الأقليات، والكيانات ذات النزعات الانفصالية، تفعل ما يحلو لها بالدولة الأم، وتوفير الحماية القانونية لها من الخارج، يعد تهديدا دوليا عابرا للحدود، وهذا ما سنتناوله هنا انطلاقا من النموذج الذي سقناه أعلاه.

تبدو فكرة الانفصال قاتلة لشعبها وجمهورها، فهي وإن نجت من المرور عبر طريق الحرب الأهلية، أو البلقنة، فإن مصيرها المؤكد هو أن تؤول إلى جمهورية مجمدة- أو أبخازيا جديدة- لا يعترف بها سوى أخ أكبر

في العام 2014 ذهب الناخبون الأسكتلنديون للاقتراع بـ"نعم" أو "لا" حول سؤال: هل تؤيد استقلال أسكتلندا عن "بريطانيا العظمى؟". حبس الأوروبيون أنفاسهم حتى بعد أن فاز خيار البقاء "لا" بحوالي 55% من الأصوات.

في ذلك المناخ المتوتر أوردت صحيفة الغارديان تقريرا مفصلا حول النزعات الانفصالية في القارة الأوروبية. نلاحظ أن أكثر من 25 دولة من دول القارة تعاني من نوازع انفصالية، بما في ذلك دول كبرى بالمعنيين: السياسي والتاريخي.

إليك بعض الأمثلة: إقليم بافاريا في ألمانيا، شمال إيطاليا، كتالونيا الإسبانية، أسكتلندا البريطانية، فلاندرز في بلجيكا، وغيرها. في كل تلك الأقاليم تنمو نوازع انفصالية- استقلالية على أساس تاريخي، ولأسباب هي في جوهرها أنانية اقتصادية. فعلى سبيل المثال يرى الشمال الإيطالي الغني أن عليه أن يحمل على عاتقيه مهمة إسناد جنوب إيطاليا اقتصاديا. وفي مناطق أخرى من القارة تنظر الأقاليم الانفصالية إلى الدولة المركزية بعين الريبة، وتشكك في قدرتها وأهميتها.

إعلان

ففي استطلاع ليوروباروميتر Eurobarometer للعام 2025، كانت ثقة المواطنين الأوروبيين بالحكومات الوطنية في حدود 36%. على الجانب الآخر، قال 52% منهم إنهم يثقون بالاتحاد الأوروبي كمؤسسة.

يُعتقد على نحو واسع أن الاتحاد الأوروبي، كمظلة أمنية وسياسية لمواطني القارة، غذى النزعات الانفصالية أكثر من ذي قبل. إذ بات الانطباع العام لدى الانفصاليين في كتالونيا وأسكتلندا أن مواطنة الاتحاد الأوروبي هي البديل الآمن لمواطنة الدولة الأم، كما أنه سيحميها، من خلال السوق المشتركة والأمن المشترك، من أي تداعيات خطرة قد تترتب على الاستقلال.

حيال هذه المسألة لا يزال تأثير الدومينو Domino Effect هو الهاجس الأوروبي على كافة المستويات من السياسية إلى الأكاديمية. التشكيل الفسيفسائي للقارة الأوروبية ربما ليس هو المصير النهائي لما كان في الماضي إمبراطوريات أوروبية، وقد يبدأ انهيار جبل الجليد بقطعة صغيرة يسمح لها بالانفصال. مشهد انهيار يوغسلافيا في وسط- جنوب أوروبا إلى ثماني دول كان مدويا. رافق ذلك التصدع، في تسعينيات القرن الماضي، حروب بينية ارتقت في بعض صورها إلى درجة الإبادة البشرية.

من حين لآخر، في سياقات سياسية معينة، يعود النقاش حول احتمالات "بلقنة أوروبا"، مع حديث متواصل- على الصعيد الأكاديمي غالبا- حول تآكل مفهوم الدولة القومية الموحدة الذي تأكد واستقر في القرن التاسع عشر.

تحت عنوان تفكك الدولة القومية ذهبت صحيفة الإيكونوميست، سبتمبر/أيلول 2014، إلى القول إن مفهوم الدولة القومية بدأ يفقد وظيفته في القارة الأوروبية. فتحت تأثير العولمة، وفكرة الاتحاد الأوروبي، بات يُنظر إلى الدولة الوطنية بوصفها كيانا صغيرا جدا أمام المشاكل الكبيرة كالمناخ والتجارة، وكبيرا جدا أمام المشاكل الصغيرة كالهوية والخدمات المحلية. شيئا فشيئا ينفصل المزاج العام، خصوصا في الأقاليم الانفصالية، عن الفكرة الدالة الوطنية، دولة كل الناس. ليتخلق وضع مقلق يثق فيه فقط ثلث السكان بأهمية تلك الدولة وجدارتها، كما في الاستطلاع الأحدث ليوروباروميتر المشار إليه أعلاه.

ما الذي يمكن أن يحدث فيما لو نجح إقليم أوروبي في مغادرة الدولة الأم؟ قد يرقى الحدث إلى درجة الزلزال السياسي. ستجد القارة نفسها أمام سابقة سياسية مفتوحة على كل الاحتمالات، كما سيشكل مثل هذا النجاح "وقودا لا ينضب للحركات الانفصالية" بتعبير صحيفة لوموند الفرنسية.

كان المفكر البريطاني هوبزباوم يرى أن القوميات الصغيرة، ذات النزعات الانفصالية، لا ينبغي النظر إليها بوصفها حركات تحرر، بل باعتبارها حركات أنانية اقتصادية ستفضي في نهاية المطاف إلى التفتت والتشظي.

لا يبدو الأمر مختلفا خارج القارة الأوروبية، فالدولة المتجانسة قوميا- كاليابان وكوريا- لا تشكل أكثر من 15% من مجتمع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. يقوم بنيان غالبية دول العالم على التنوع الثقافي والإثني، بل تنص دساتير بعض الدول على حقيقة أنها كيانات قائمة على التنوع الإثني، كما هو الحال في نيجيريا وحتى الصين. وفي بلاد مترامية الأطراف، متعددة الديانات والإثنيات، كالهند فإن دستورها الرسمي يعترف بـ 22 لغة لشعب البلاد.

إعلان

غالبا ما تحيل الحركات الانفصالية في خطابها إلى أمرين اثنين: تميزها الثقافي- الإثني في سياق تاريخي، وقدرتها الاقتصادية. وهو خطاب بدائي يتجاهل حقيقة هذا العالم القائم على تنوع إثني وثقافي لانهائي.

لنأخذ على سبيل المثال إندونيسيا، ذلك المختبر الأعظم للتنوع. فهي دولة تتأسس من حوالي 17 ألف جزيرة، يعيش فيها ما يزيد على 300 إثنية، ويتحدث سكانها ما يربو على 700 لغة، ويعترف دستورها رسميا بستة أديان. أدارت الديمقراطية الإندونيسية كل ذلك التنوع، جاعلة منه معملا خلاقا وإبداعيا، واستطاعت أن تجد لها مكانا في قائمة الدول العظمى العشرين.

هذه الحقيقة الكبيرة تجعل دول العالم، لا سيما الدول الكبرى، شديدة الحساسية تجاه النوازع الانفصالية في أي مكان في العالم. في الأيام الماضية أصدرت الصين تحذيرا قاسيا تجاه "إقليم أرض الصومال الانفصالي"، بل حذرته من "التآمر مع قوى خارجية" كما سبق أن ذكرنا.

أبدت قائمة طويلة من الدول رفضها القاطع استقلال "إقليم أرض الصومال" عن الدولة الأم، رغم كون الإقليم منفصلا عمليا De facto منذ ربع قرن من الزمن. اعترفت إسرائيل، وربما دولة أخرى، باستقلال الإقليم، وهذا فخ قاتل يشابه الفخ الذي أُخذ إليه إقليما أبخازيا وأوسيتيا الجورجيان.

لنتحدث قليلا عن ذلك الفخ، الذي سيطلق عليه في التعريف القانوني: "الجمهوريات المجمدة Frozen Republics". عملت روسيا على فصل الإقليمين عن جورجيا، 2008، وساعدت الحكومات المحلية على إعلان الاستقلال. منذ ذلك الحين لم تنضم إلى روسيا سوى بضع دول، أقل من خمسة أعضاء في الأمم المتحدة.

انحبس السكان داخل إقليم غير معترف به سياسيا وقانونيا، وباتوا غير قادرين على التواصل مع العالم أو السفر إليه، كونهم غادروا الجنسية الجورجية وأصبحوا مواطنين لدولة غير موجودة على خارطة العالم السياسية. حتى يتمكنوا من مغادرة الإقليم عليهم الحصول على جوازات سفر روسية.

في هذه الظروف "المجمدة" وقع الإقليمان فريسة الأطماع الروسية، وفرضت عليهما شروط صعبة مثل السماح للأغنياء الروس بتملك الأراضي، وللجيش الروسي ببناء قواعده العسكرية. في نهاية الأمر ابتلعت روسيا الإقليمين رغم امتلاكهما علما وحكومة محلية وشرطة. بالنسبة للقوى الكبرى، خصوصا تلك المسؤولة عن حماية السلم الدولي مثل روسيا، فإن وضعا كهذا الذي انزلق إليه الإقليمان الجورجيان هو وضع مثالي، يسمح لها باستعمار الإقليمين استعمارا لا يراه أحد ولا يدينه أحد.

ينتظر "إقليم أرض الصومال الانفصالي" الفخ نفسه، ومن المتوقع أن يسقط فريسة الأطماع والخطط الإسرائيلية. داخل الخارطة العالمية غير المستقرة، تلك المثبتة على باب يطل على الجحيم، إذا جاز لنا وصف الحال مجازيا، فما من مستقبل للكيانات الانفصالية سوى أن تبتلعها كيانات أجنبية انتهازية وتخفيها عن العالم. أن تخرج من جمهورية مرئية، بصرف النظر عن وضعها الأمني والاقتصادي، ستصير كيانا مجمدا ومنبوذا لا يقدر سكانه على مغادرة حدوده.

تبدو إسرائيل في هذه الحالة هي بوابة "إقليم أرض الصومال الانفصالي" الوحيدة إلى العالم، ولن يمضي سوى وقت قصير حتى يجري ابتلاعه إسرائيليا. طريق النجاة شبه مستحيل، وهو أن يحصل "إقليم أرض الصومال الانفصالي" على اعتراف دولي وعضوية في الأمم المتحدة، غير أن هذا الحلم بعيد المنال.

فلا يبدو العالم مستعدا لخلق تلك السابقة القانونية، ولا لمنح الحركات الانفصالية "الوقود الذي لا ينضب" من الإلهام والمثال. مصيرٌ مماثل ينتظر جنوب اليمن الذي شرع في تقديم عروض التطبيع مع إسرائيل، الأخ الأكبر الجديد، قبل أن يصادر آخر بندقية تتبع الدولة الوطنية.

تبدو فكرة الانفصال قاتلة لشعبها وجمهورها، فهي وإن نجت من المرور عبر طريق الحرب الأهلية، أو البلقنة، فإن مصيرها المؤكد هو أن تؤول إلى جمهورية مجمدة- أو أبخازيا جديدة- لا يعترف بها سوى أخ أكبر. والأخ الأكبر- كما في حال أبخازيا- سيستبيح الإقليم ويخفيه عن الأنظار.

إعلان

مؤخرا صار البحر الأحمر، جيوسياسيا، إلى البحيرة الأكثر أهمية في العالم. وحتى قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول كانت إسرائيل تبحث عن مكان لها على الضفاف المطلة على مياهه ومضيقه الخطِر.

في 21 من يونيو/حزيران، 2020، نشرت "يسرائيل هيوم" مقالة للكاتب أفيل شنايدر تحت عنوان: "صديق إسرائيل السري الجديد في اليمن". في مقالته يؤكد شنايدر أن مسؤولين إسرائيليين في القدس أخبروه عن لقاءات أجروها مع قيادات المجلس الانتقالي الجنوبي. "الانتقالي"، بدا منفتحا على فكرة مد الجسور مع إسرائيل. ما الذي تطور منذ ذلك الحين، خلال خمسة أعوام، بين الطرفين؟ ربما الكثير، فقد ذكرت صحيفة "معاريف" بالأمس أن مصادرها داخل المجلس الانتقالي عبرت عن أمنيتها في أن تقدِم إسرائيل على الخطوة التالية وهي الاعتراف بـ"الكيان" الذي سيعلنه المجلس الانتقالي.

بالنسبة لإسرائيل فتلك غنيمة إستراتيجية كبرى تطل على المياه الثمينة. تدرك إسرائيل أن الكيان الجديد، جنوب اليمن، سيلاقي مصير "إقليم أرض الصومال" على الخارطة السياسية، ولن يعدو كونه جمهورية مجمدة لا يعترف بها سوى ثلة من الدول. وضع مثالي بالنسبة لإسرائيل، سيجعلها قادرة على مد الكوريدور الأمني- العسكري الخاص بها حتى المحيط الهندي.

إصرار قادة المجلس الانتقالي على فكرة الانفصال يبدو قفزة إلى المجهول، بل المعلوم سياسيا، وهو العزلة الدولية. فقد أعقب اعتراف إسرائيل بـ"إقليم أرض الصومال" رد فعل كاسح من جامعة الدول العربية، حتى مجلس الأمن، ومن المجموعة الإسلامية حتى الاتحاد الأفريقي. كل ذلك الرفض لا يعني إسرائيل كثيرا، بل هو ما تريده، أن تنفرد بالإقليم المنفصل. حتى إن أميركا- التي تترك لإسرائيل تدبر هواجسها الإستراتيجية دون تضييق- انفردت بتجاهل المسألة أثناء نقاشها في مجلس الأمن قبل أسبوع.

ما الذي سيجعل قدَر "الجنوب العربي" مختلفا؟ كل الدلائل والإشارات تقول إن المجلس الانتقالي يحلم بجمهورية لن ترى النور، وباستقلال هو في طبيعته أسوأ من الاستعمار. وفي أحسن أحوالها فسوف تحصل على اعتراف مجموعة صغيرة من الدول، منها دول ستطلب أثمانا باهظة مقابل اعترافها. في إقليم أبخازيا كان الثمن السيادة نفسها.

في الحالة الاستعمارية يمكننا رؤية مستعمَر ومستعمِر، أما الجمهورية المجمدة فلا ترقى إلى ذلك الوضع. يخبرنا نموذج أبخازيا عن الصورة الكاملة: يقع الإقليم في ظل الأخ الأكبر، ولا يجد وسيلة لا سياسية ولا قانونية للخروج من ذلك الظل. ثم يدخل في ذلك الوضع الخطر الذي يقال له: الاستعمار الذي لا يتحدث عنه أحد.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا