شكل التحالف الغربي بين الولايات المتحدة وأوروبا، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إحدى الركائز الأساسية للنظام الدولي. فقد قام هذا التحالف على الإيمان المشترك بـ"الديمقراطية والحرية"، وأسهم في الحروب الكبرى، وهزيمة الشيوعية، وقيادة موجة ازدهار اقتصادي عالمي غير مسبوقة.
بيد أن هذا التحالف التاريخي أصبح اليوم محل شك متزايد، وتساءلت صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية -في تقرير أعده ديفيد لونو رئيس مكتب الصحيفة في المملكة المتحدة، وماركس ووكر رئيس مكتب جنوب أوروبا- عما إذا كان قد وصل إلى مرحلة الانهيار.
على أوروبا الآن التفاوض على اتفاق جديد تماما مع الولايات المتحدة قائم على "التجارة والصفقات" و"ما يمكن أن تجنيه الولايات المتحدة ماديا من أوروبا"
واستهل الكاتبان تقريرهما بالإشارة إلى تصريح المستشار الألماني فريدريش ميرتس، خلال لقاء مع قادة أعمال في برلين، الذي قال فيه إن "ما كنا نسميه سابقا الغرب لم يعد موجودا"، مضيفا أن الأميركيين منشغلون بتحقيق أولوياتهم وأن على أوروبا فعل ذلك أيضا.
وقد تزايد التوتر بين الطرفين بعد صدور أحدث نسخة من إستراتيجية الأمن القومي الأميركية، التي انتقدت فيها واشنطن الاتحاد الأوروبي واتهمت قادته بالفشل، وأشارت إلى سياسات الهجرة بوصفها تهديدا للهوية الأوروبية.
وعد كثيرون في أوروبا الوثيقة "ورقة طلاق"، وفق الصحيفة، ووصفها المؤرخ البريطاني تيموثي غارتون آش بأنها "إعلان حرب سياسية على الاتحاد الأوروبي".
واستعرضت وول ستريت جورنال أسباب هذا التحول المفاجئ ظاهريا، مشيرة إلى تحولين رئيسيين في نظرة الولايات المتحدة إلى أوروبا والعالم.
ويتمثل العامل الأول في تراجع الوزن الاقتصادي والعسكري والديمغرافي لأوروبا مقارنة بآسيا، مما دفع الإدارات الأميركية المتعاقبة، منذ عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، إلى تحويل تركيزها الإستراتيجي نحو الصين.
أما التحول الثاني فيكمن في ازدراء إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للمؤسسات متعددة الأطراف، إذ ترى القيادة الأميركية في قواعد هذه المنظمات عائقا أمام تحقيق مصالح الولايات المتحدة.
وفي هذا الصدد أكدت لوريل راب، الباحثة المسؤولة عن ملف أميركا الشمالية في تشاتام هاوس، للصحيفة أن العلاقة السابقة القائمة على "الديمقراطية وحقوق الإنسان" تحتضر.
وأوضحت أنه على أوروبا الآن التفاوض على اتفاق جديد تماما مع الولايات المتحدة قائم على "التجارة والصفقات".
بجانب توجه الإدارة الأميركية الحالية، أشارت وول ستريت جورنال إلى أن جزءا كبيرا من التوتر الحالي يعود إلى خلاف جوهري حول تعريف "الغرب" والقيم الأساسية التي قام عليها التحالف الغربي منذ الحرب العالمية الثانية.
وأضافت أن هناك مسؤولين في إدارة ترامب يرون أن أوروبا تقوّض الحضارة الغربية من خلال سياسات الهجرة المنفتحة، ويعتبرون أن النخب الأوروبية تفرض أجندات تنوع ثقافي على حساب حرية التعبير و"الهوية الغربية التقليدية".
شهد مفهوم "الغرب" تحولات عميقة عبر التاريخ، وظل موضع جدل وإعادة تعريف مستمرة أوصلته إلى شكله الحالي
في المقابل -تتابع الصحيفة- يرد قادة أوروبيون على هذه الانتقادات بأن القيم الديمقراطية لا تُقاس بالعرق أو الدين، ويشيرون إلى أن دولهم تحقق اليوم نتائج أعلى من الولايات المتحدة في مؤشرات الديمقراطية.
وحسب ما نقلته وول ستريت جورنال عن جورجيوس فاروكساكيس، مؤلف كتاب "الغرب: تاريخ فكرة"، فإن مفهوم "الغرب" غير ثابت، وشهد تحولات عميقة عبر التاريخ، وظل موضع جدل وإعادة تعريف مستمرة أوصلته إلى شكله الحالي.
ويرى الباحث أن التحولات الاجتماعية المتراكمة في الولايات المتحدة وأوروبا جعلت من غير الممكن اليوم حصر الهوية الغربية في إطار عرقي أو ديني، وقال: "لقد فات الأوان للقول إن الغربي يجب أن يكون أبيض ومسيحيا".
وحذرت الصحيفة من أن عواصم أوروبا تنظر اليوم بقلق بالغ إلى سعي واشنطن لعقد تفاهمات سياسية مع موسكو، والضغط على أوكرانيا للقبول بتنازلات إقليمية تمس بأراضيها.
وفي هذا السياق، قال السياسي الفرنسي كلود مالوريه أمام مجلس الشيوخ الفرنسي: "اليوم، أوروبا -في أفضل الأحوال- وحيدة، وفي أسوأها تواجه عدوين: روسيا والترامبية".
العداء الأميركي للاتحاد الأوروبي يصب عمليا في مصلحة موسكو، التي سعت تاريخيا إلى إقصاء واشنطن عن أوروبا وتفكيك وحدتها السياسية
ويدعم هذه التصريحات -طبقا للصحيفة- السؤال الذي يُطرح همسا في العواصم الأوروبية: هل تلتزم الولايات المتحدة ب المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي ( الناتو)، وتدافع عن دول البلطيق إذا تعرضت لعدوان روسي؟
وقد نقل التقرير إجابة مسؤول بريطاني -أدلى بها في عشاء مع دبلوماسي أميركي سابق- بأنه "لم يعد يثق تماما بأن الإجابة هي نعم"، وعلى أوروبا الاستعداد للدفاع عن نفسها.
ورغم ذلك، تؤكد وول ستريت جورنال أن التحالف الغربي لا يزال يحظى بداعمين داخل الولايات المتحدة.
ويرى مراقبون أن حدوث تغيير في القيادة الأميركية كفيل بتخفيف حدة التوتر، حتى لو لم تعد الأولويات السياسية متطابقة كما في العقود السابقة. لكن بعضهم، مثل المؤرخ آش، يرون أنه لا يمكن استعادة ثقة أوروبا بأن "الولايات المتحدة تقف دائما إلى جانبنا".
وخلص التقرير إلى أن العداء الأميركي للاتحاد الأوروبي يصب عمليا في مصلحة موسكو، التي سعت تاريخيا إلى إقصاء واشنطن عن أوروبا وتفكيك وحدتها السياسية.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة