آخر الأخبار

ماهو مستقبل أطفال غزة الجرحى بعد فقدان ذويهم؟

شارك
مصدر الصورة

قبل عامين، لم يكن قد مضى على حرب غزة سوى بضعة أسابيع، بدأ المسعفون والعاملون بالقطاع الصحي هناك بتداول مصطلح جديد: "طفل جريج لا أسرة له على قيد الحياة"، كانت هذه العبارة ببساطتها وقسوتها تشير لنوع معين من ضحايا الحرب: أطفال كتب لهم النجاة من قصف أودى بحياة ذويهم، ويعيشون بجراح دائمة.

بدأت بالبحث عن بعض هؤلاء الأطفال. منهم من تم إسعافهم للمستشفيات وحيدين، تعرف عليهم أقرباؤهم عن طريق صورهم على الانترنت، أو بعد البحث والسؤال في المستشفيات القريبة من مواقع القصف. والبعض منهم بقي وحيداً.

بحسب اليونيسف فإنه حتى أوائل سبتمبر/أيلول هذا العام، ووفقاً لبيانات وزارة الصحة في غزة، أفادت التقارير بفقدان أكثر من 56 ألف طفل أحد والديهم أو كليهما خلال الحرب. من بين هؤلاء الأطفال، فقد مايزيد على ألفين وخمسمائة طفل كلا والديهم.

وفي حين ليس من الواضح كم من هؤلاء أصيب بجراح دائمة، أو طويلة الأمد، تسببت الحرب بإصابة أكثر من 40 ألف طفل، وفقاً لوزارة الصحة في غزة. وتتراوح حالات الأطفال المصابين بين بتر الأطراف والحروق الشديدة وإصابات العمود الفقري والألم المزمن، بحسب اليونيسف. وتنفي اسرائيل بشكل متكرر استهداف المدنيين والأطفال وتلقي باللوم على حركة حماس بقولها إنها تستخدم المناطق السكنية للاحتماء بين المدنيين.

بالنسبة لريكاردو بيرس، مدير التواصل في منظمة يونيسيف، فإن "الخسائر النفسية هائلة". ويضيف في حديث مع بي بي سي نيوز عربي أن "كل طفل في غزة تعرض للعنف والخوف والخسارة الفادحة. فقد الكثيرون آباءهم أو أشقاءهم أو أصدقاءهم. إنهم يحملون جروحاً خفية."

مصدر الصورة

أحمد، ومنى، وميليسا ودنيا أربعة أطفال جرحى بلا عائلة ترعاهم. التقتهم بي بي سي منذ عامين بعد تعرضهم لإصابات بالغة نتيجة القصف الإسرائيلي. كانت تجمعهم حينها أسرّة المستشفيات، وقصص الصدمة والفقد والمعاناة الجسدية. بجانب سرير كل منهم، جلس أحد الأقرباء وحدثنا بمرارة عما كانوا يمرون به. كلهم كان لديهم أمنية واحدة: أن يتمكنوا من مغادرة غزة لعلاج الأطفال الجرحى.

بقيت على تواصل معهم بشكل متقطع في العامين الماضيين، واليوم، بعد مرور أكثر من شهر على وقف إطلاق النار أشارك معكم قصص هؤلاء الصغار، ورحلة البعض مع التعافي وترميم الذاكرة وأمنيات المستقبل.

مصدر الصورة

"توقف عن السؤال عن أهله، وبات يسأل عن ساقيه"

أحمد الشبت، 5 سنوات، لايزال يذكر اليوم الذي تغيرت فيه حياته للأبد، منذ عامين.

كان في الثالثة من عمره، عندما كتبتُ عنه لأول مرة. ممدٌ على سرير معدني في مستشفى شهداء الأقصى، ينظر إلى عدسة الكاميرا بخوف وأسى. تعرض منزل عائلته في بيت حانون لقصفٍ إسرائيلي فقد فيه أبويه وشقيقه الأكبر. نجا حينها أحمد مع أخيه الأصغر، ونزح برفقة خاله مرتين، نجا خلالهما من قصف ثان. لكن في مقر نزوحهم الجديد في مخيم النصيرات، طالهم قصف آخر، فقد فيه ساقيه، وفقد أيضاً حلمه بأن يصبح "لاعب كرة قدم مشهور".

اليوم يعيش أحمد في منزل صغير في بولونيا بإيطاليا مع أخيه الصغير وعائلة خاله بعد رحلة شاقة ليستعيد قدرته على المشي.

"كنت أشتري له ألعاباً دون ساقين ليركّبهما بنفسه للدمى ويعتاد على الفكرة،" يخبرني خاله ابراهيم أبو عمشة الذي رافقه منذ لحظة إصابته قبل عامين. " كان ابراهيم أول من انتشل ابن اخته من أمام مقر نزوحهم بعد أن تعرض لقصف إسرائيلي. وصف لي حينها كيف رأى أحمد على الأرض وقدماه مبتورتان، "كان يزحف في اتجاهي فاتحاً ذراعيه، يستنجد بي".

منذ تلك اللحظة تغيرت حياة الاثنين معاً. بعد نزوح متكرر تمكن ابراهيم من أخذ أحمد إلى مصر لتلقي العلاج. حدثني إبراهيم في أكثر من مكالمة هاتفية من مصر عن تلك "الأيام العصيبة". فأحمد أمضى معظم وقته في قسم العناية المشددة، خضع هناك لعمل جراحي، وقاسى الكثير من الألم. في مرحلة ما حينها "توقف أحمد عن السؤال عن أهله وبات يسأل عن ساقيه،" يتابع إبراهيم.

قبل أشهر رأيت صورة نشرها ابراهيم لابن أخته على حسابه على انستغرام بمناسبة يوم ميلاده. بدا أحمد سعيداً وهو يستند واقفاً بطرفين صناعيين على جهاز مساعد على المشي. اليوم عمره خمسة أعوام، يذهب للمدرسة في إيطاليا، ويتحدث عن أصدقاء جدد. يمضي الخال والطفل وقتهما في قيادة دراجته الجديدة، ومشاهدة مباريات الكرة في ملعب الحي.

"لازال يحب كرة القدم،" أجابني إبراهيم عندما سألته إن كان لازال يذكر حلمه القديم. يضيف "أحيانا نلعب كرة السلة معاً، نخترع قوانين جديدة للعبة لتناسب وضعه".

"كل ما رأت رجلاً تناديه بابا"

كحال أحمد، فقدت ميليسيا جودة عائلتها في قصف أصاب مكان إقامتهم في دير البلح، وسط قطاع غزة. كان عمرها عام ونصف فقط، وكانت الناجية الوحيدة، لكن بإعاقة دائمة.

"أنا أبوها وأمها وكل شيء، لا تعرف شيئاً عن أهلها،" تقول لي عمتها ياسمين جودة على الهاتف من مكان إقامتهما في قطر. العمة والطفلة لم تفترقا مذ انتشلت ميليسيا من تحت الأنقاض قبل عامين، كانت تعاني من حروق بالغة بينما استقرت ثلاث شظايا في ظهرها وواحدة في الدماغ. كان لياسمين أمنية وحيدة حينها: أن تحظى ميليسيا بفرصة العلاج في دولة أوروبية.

لكن ذلك لم يكن ممكناً "بسبب عدم وجود أحد الوالدين" لمرافقة الطفل، الأمر الذي اشترطته بعض المنظمات لإرسال الأطفال للعلاج في أوروبا، بحسب ما تخبر ياسمين. كانت حينها تنتظر في مصر بعد أن ضاقت بهما السبل. في كل مكالمة هاتفية أثناء تواجدها في مدينة العريش كان صوت ياسمين يخبو ويبدو أكثر يأساً.

فالأطباء في معهد ناصر بمصر بذلوا ما في وسعهم لعلاج حروق الطفلة، لكن الشظايا الثلاث بقيت في نخاعها الشوكي، ووُصف شللها النصفي بـ"القضاء والقدر". لكنها لم تتوقف عن المحاولة، وفي ذات الوقت تبكي بُعدها عن عائلتها التي تركتها خلفها في غزة.

مصدر الصورة

اليوم تخضع ميليسيا للعلاج الطبيعي في قطر. تصف ياسمين رحلة تعافي الطفلة بـ"البطيئة" فهي تواصل تدريبات لمساعدتها على الحركة، ولاتزال غير قادرة على الوقوف أو المشي، أو التحكم بالجزء السفلي من جسدها. الشظية الرابعة التي أصابت الدماغ أثرت أيضاً على نطقها.

لم يتم قبول ميليسيا في الروضة هناك بسبب إعاقتها، على حد تعبير عمتها. تمضي الاثنتان وقتيهما بنشاطات مشتركة كاللعب والرسم ومشاهدة فيديوهات رسوم متحركة وأناشيد أطفال. بالرغم من أن ميليسيا لا تذكر شيئاً عن عائلتها لكنها تدرك أنها من دون أب. "كل ما ترى رجلاً تناديه بابا. أقول لنفسي عندما تكبر ربما ستفهم أكثر".

لم ترَ ياسمين زوجها وأبناءها منذ أكثر من عامين، ولا تعرف متى ستتمكن من العودة لغزة: "غزة ليست مكاناً مناسباً لها، لكنها ستكون معي أينما ذهبت، لا يمكن أن أتخلى عنها".

"بيئة عائلية بديلة"

ياسمين ليست الوحيدة التي تقف بمواجهة خيارات صعبة كهذه. فأطفال أيتام كثر في غزة بقوا برعاية أقاربهم، بالرغم من ضعف الإمكانات المادية واللوجستية لديهم.

وتعطي اليونيسف الأولوية لإبقاء الأطفال المحرومين من رعاية الوالدين مع عائلاتهم البيولوجية، بحسب ما ذكر مدير التواصل رياكاردو بيرس لـ بي بي سي. وأشار إلى أن برامج الحماية والمساعدة النقدية والتغذية والصحة النفسية والاجتماعية تركز "بشكل كبير على تعزيز رعاية الأقارب من خلال توفير الخدمات والدعم للطفل ومقدم الرعاية لتعزيز وحدة الأسرة".

كذلك استثمرت اليونيسف في نماذج رعاية أسرية ومجتمعية، حيث يُوضع الأطفال المعرضون للخطر، بمن فيهم الأطفال المحرومون من رعاية الوالدين، مع أمهات بديلات وإخوة بديلين في بيئة عائلية، يضيف بيرس.

مصدر الصورة

بحسب القوانين الحالية في غزة، يعتبر اليتيم هو يتيم الأب، وعادة ما تمنح الوصاية عليه "لأقرب عصبة تمثله، كالجد، أو الأخ الأكبر الراشد أو العم،" بحسب نضال جرادة مدير معهد الأمل للأيتام في غزة.

ويقول جرادة في اتصال مع بي بي سي إن الحرب أفرزت فئة جديدة تضم عدداً هائلاً من الأطفال الأيتام، تحديداً أولئك الذين فقدوا والديهم معاً. ويشير إلى أنهم يواجهون إشكالية أساسية تتعلق بضمان حقوقهم، إذ يدور جدل حول الجهة المخوّلة بالتمثيل القانوني لهؤلاء الأطفال وما يرتبط بذلك من حقوق واستحقاقات مالية، مقارنة بما كان معمولًا به قبل الحرب. ويضيف أن الحرب أوجدت أيضًا فئة واسعة جديدة تُوصف بـ'اليتيم الحكمي'، وهم الأطفال الذين لا يزال مصير والديهم مجهولًا.

ويتابع جرادة، وهو محامي وعضو لجنة صياغة التشريعات القديمة في غزة، أنه بدأت حالياً دراسة لتطوير القوانين في غزة ومدى ملاءمتها للأوضاع الجديدة. ويضيف أن "هناك حاجة لتوجه وطني كامل لتحديد من هو اليتيم" والأطر القانونية المتعلقة به.

"أهلي في الجنة وعندي ماما هناء"

منى علوان هي واحدة من هؤلاء الأطفال الذين فقدوا الأبوين معاً، فهي تعيش مع زوجة خالها بعد أن فقدت والديها وجدها وشقيقها في قصف إسرائيلي لمنزل مجاور لمنزلهما في جبل الريس، شمالي قطاع غزة قبل عامين. لم تكن تجاوزت العامين ونصف، انتُشلت حينها من تحت الركام، ونجت مع أختيها.

عن طريق الإنترنت تعرفت زوجة خالها هناء الحمامي على الطفلة التي كانت وحيدة في مستشفى ناصر، كانت تعاني من إصابة في عينها اليسرى وكسر في الفكين. ومنذ تلك اللحظة لم تفترقا.

"أنا اليوم أمها وأبوها،" تقول هناء التي عادت منذ سبعة أشهر من الإمارات حيث كانت منى تتلقى العلاج في مدينة شخبوط الطبية بأبو ظبي: "كانت تحتاج للبقاء ثلاثة أشهر إضافية لكن اضطررنا للرجوع لغزة، عائلتي هنا". تقول هناء إنها كانت تتابع أخبار الحرب عن بعد، ويساورها القلق على أبنائها وزوجها الذين تركتهم في القطاع لأكثر من أربعة أشهر.

عادتا معاً إلى غزة، وعاشتا سوية تجارب القصف والنزوح والحياة في الخيم. تحاول هناء وعائلتها تعويض منى عما فقدت. الطفلة ذات الأربع سنوات كانت تذهب للروضة قبل النزوح الأخير، تلعب مع أولاد خالها وتزور أختيها. إحداهما تعيش مع عمها، والثانية مع زوجها. عندما التقينا هناء قبل عامين، كانت منى تبكي باستمرار وتنادي أمها. اليوم، لم تعد منى تسأل عن والديها، وإن كانت تدرك أنهما لم يعودا موجودين.

تقول هناء، "عندما أريها صور أبويها في الهاتف تقول لي: أهلي في الجنة وعندي ماما هناء".

"ثلاثة أحلام لم تتحقق"

في رحلة متابعتنا للأطفال الأربعة خلال شهور الحرب، رحلت دنيا. قتلت في غارة إسرائيلية على مستشفى ناصر الذي كانت تمكث فيه لعلاج بتر في ساقها اليمنى، بحسب ما أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية حينها، في حين لم تعلق اسرائيل على هذه الحادثة. تعرفتُ على صورتها بينما كنت أتابع أخبار غزة، كانت باسمة وإن بدا عليها الحزن، تماماً كما بدت حين التقيناها. كانت دنيا، ذات الثلاثة عشر عاماً، فقدت والديها وأخيها وأختها في قصف سابق طال منزلهم في حي الأمل بخان يونس، جنوبي القطاع.

عندما تحدثت إلي قبل عامين، كانت تشعر بالأسى لكل ما فقدت، لكنها لم تتنازل عن أحلامها الصغيرة.

"لدي ثلاثة أحلام"، قالت يومها مبتسمة "الأول أن أسافر وأن يركبوا لي ساق، والحلم الثاني أن أصبح طبيبة لأعالج الأطفال، والثالث أن تنتهي الحرب ويسلم أطفالنا".

لكنَّ أياً من هذه الأحلام تحقق.

"غزة أصبحت مكاناً اختفت فيه الطفولة تقريباً"، يعلق ريكاردو بيرس، مدير التواصل في منظمة يونيسيف. ويتابع أنه "بتدمير معظم المساحات الآمنة، وتعطيل اللعب، وتوقف التعليم إلى حد كبير لمدة عامين دراسيين، تم تجريد الطفولة من أسسها.

وتشدد اليونيسف على أن أطفال غزة بحاجة إلى استمرار وقف إطلاق النار الحالي، وأن يتحول هذا الوقف إلى "أمان حقيقي"، كما يقول بيرس، مضيفًا: "وقبل كل شيء، يحتاجون إلى الاستقرار والرعاية التي تمكّنهم من الشفاء والتعلم والعودة إلى عيش طفولتهم".

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا