في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
أُغلق باب زنزانة صغيرة في سجن "لاسانتي" وسط باريس على أحد أبرز رموز السلطة الفرنسية بعد أن ودّع زوجته وأولاده وكل المتعاطفين الذين تجمعوا حوله.
في 21 أكتوبر/تشرين الثاني الحالي ترجل الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي من سيارته، في مشهد مدروس وثقته كاميرات العالم، واستدعى في أذهان البعض قصة "مونتي كريستو"، ذلك الرجل الذي حكم عليه ظلما وعاد بعد سنين في صورة رجل من علية القوم وانتقم.
ليست هذه الصورة مجرد نسج خيال ولا موقفا شخصيا، بل أشارت إليها الصحفية الفرنسية الاستقصائية إزابيل سابورتا خلال نقاشات عن حقوق كتاب ساركوزي الأخير "زمن المعارك"، إذ تقول إنها التقت ساركوزي عدة مرات للحديث عن السياسة الفرنسية وهمومها، ورغم اختلافها معه سياسيا، عبّرت عن استيائها من أن يُزجّ برئيس سابق مع كبار المجرمين خلف القضبان.
أودع ساركوزي بسجن "لاسانتي" لتنفيذ حكم بالسجن 5 سنوات نافذة بتهمة تكوين جمعية أشرار، وتورطه غير المباشر في فساد عالي الدرجة.
يبيت الرئيس السابق في زنزانة لا تتجاوز 9 أمتار مربعة، وُضع فيها ضمن جناح خاص للمعرضين للخطر، وتحتوي هذه الخلية الفردية على هاتف ثابت يخضع للمراقبة المستمرة، ومكان للاستحمام، وتلفاز ولوح طبخ، وهو استثناء لا يحظى به باقي المحتجزين في كل السجون الفرنسية.
وتمنح هذه المزايا زنزانة ساركوزي حالة استثنائية تكشف عن مفارقات النظام العقابي، وإن كانت جزءًا من منظومة أشمل.
في المقابل، تشهد السجون الفرنسية اكتظاظا كبيرا وتلوثا بالعنف في أبشع صوره، مما يكشف عن واقع مأزوم تعيشه المؤسسات العقابية الفرنسية، رغم التقارير الفرنسية والدولية التي ما انفكّت تنبّه إلى خطر الوضع.
فالعدالة التي حاكمت رئيس جمهورية، تعجز في الوقت نفسه عن تأمين سرير لكل سجين حكمت عليه بالحبس. وفرنسا التي أثبتت أنها تطبق المساواة أمام القانون، فشلت في إدارة السجون.
وقد فصّلت وزارة العدل الفرنسية في نشرة رسمية بتاريخ 17 يوليو/تموز 2025 الصورة الرقمية لهذه الأزمة، وأكدت أن عدد السجناء في فرنسا تجاوز 83 ألفا، كما أحصت 85 ألف سجين في أقاليم كاليدونيا الجديدة وبولينيزيا، وهي أعداد لا تتناسب مع الطاقة الاستيعابية التي لا تتعدى 64 ألفًا في مجمل السجون الفرنسية.
رسخت المقاربة الأوروبية هذا الاستنتاج، حيث أظهر تقرير "سبيس 2024" -وهو جزء من سلسلة سنوية تحمل اسم "الإحصاءات الخاصة بالسكان الخاضعين للعقوبات" ويصدرها مجلس أوروبا بالشراكة مع جامعة لوزان السويسرية- أن كثافة السجناء في فرنسا لا تتناسب طردا مع أماكن الاحتجاز، وأحصى 124 سجينا لكل 100 مكان احتجاز، مما يضع فرنسا ضمن البلدان الثلاثة التي تعاني سجونها اكتظاظا كبيرا مقارنة بغيرها من الدول.
كما نبّهت بيانات المعهد الوطني للصحة والبحوث الطبية إلى أن حالات انتحار تقع خلال الأسبوع الأول من الاعتقال، حيث تبلغ نسبتها 11%.
وقد أشارت عدة تقارير نشرتها منظمات مختصة إلى ضرورة تحليل الجوانب الطبية والاجتماعية للأمراض النفسية، بما في ذلك الانتحار داخل السجون، والاضطرابات الناتجة عن العزل أو الاكتظاظ والتي وصفتها بالكارثية.
أما المرصد الدولي للسجون، فذكر في تقريره السنوي لعام 2023 أن السجون في فرنسا تتحول تدريجيا إلى مقابر جماعية لا تسمح بإعادة الإدماج، وأن ظروف الاحتجاز مقلقة ومتدهورة بسبب عدم كفاية الأماكن ونقص الصيانة والشروط الصحية، كما نبه التقرير إلى أن بعض المؤسسات العقابية تُسجل كثافة احتجاز تفوق 200% من سعة الاحتجاز الفعلية والممكنة.
في 15 مايو/أيار 2012، عُينت كريستيان توبيرا وزيرة للعدل وحافظة للأختام في عهد الرئيس فرانسوا هولاند، قادت حينها إصلاحات مست قلب القانون الجنائي الفرنسي، وأدخلت عليه فكرة العقوبة القضائية البديلة، وألغت مبدأ الحد الأدنى للعقوبات الذي كان يلزم القاضي بألا ينزل عن عقوبة حتى ولو رأى داعيا ومبررا قويا لتخفيفها.
أدخلت الوزيرة توبيرا مبدأ "العدالة لا تقاس بالسنوات، بل بوصفها مسارا نحو الاندماج"، وهي الجملة التي أطلقتها في البرلمان الفرنسي يوم 15 أغسطس/آب 2015 خلال مساءلة أمام البرلمانيين.
حملت الإصلاحات التي قادتها توبيرا بدائل عقابية مثل الخدمة المجتمعية والمراقبة الإلكترونية، غير أن خلافا حادا نشأ بينها وبين الرئيس فرانسوا هولاند ورئيس حكومته مانويل فالس آنذاك بشأن مشروع قانون يسمح بتجريد الفرنسيين من أصول مهاجرة من الجنسية ومن جوازهم الفرنسي، خصوصا إذا تورطوا في "أعمال إرهابية".
في خضم هذا الخلاف، قلبت هجمات باريس في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 المشهد رأسا على عقب، وتراجع الرأي العام الفرنسي عن دعم البدائل، وتغيّر المزاج الإصلاحي للمؤسسة العقابية، وعاد الخطاب الأمني إلى الواجهة، ورأت المعارضة أن سياسة توبيرا أضعفت الردع الأمني، فتحولت فرنسا تدريجيا من فلسفة الإصلاح إلى منطق الردع والصرامة.
تسلّم إيريك دوبون موريتي منصب وزير العدل الفرنسي عام 2020 بعد مسيرة مهنية طويلة بوصفه محاما جنائيا اشتهر خلالها بلقب "الإكيتاتور" أو محامي البراءات، نظرا للعدد الكبير من أحكام البراءة التي حصل عليها لصالح موكليه.
أطلق موريتي حزمة إجراءات شاملة، أراد من خلال تجربته السابقة محاميا إصلاح إدارة السجون الفرنسية من خلال التوفيق بين فلسفة الإصلاح والصرامة القانونية، فوسّع نطاق الاحتجاز المنزلي والمراقبة الإلكترونية، معتبرا أن العدالة ينبغي أن تطبق بذكاء لا بقسوة.
لكن محكمة الحسابات الفرنسية خلصت في مارس/آذار 2025 إلى أن النظام المقترح وإن كان في ظاهره فعالا إلا أنه متعثر عمليا بسبب الأعطال التقنية ونقص الإشراف القضائي.
وفي هذا السياق لا ضير من أن نشير إلى أن الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي جرّب السوار الإلكتروني لمدة 3 أشهر خلال فترة الإفراج المشروط عنه من تاريخ 7 فبراير/شباط 2025، في إطار قضية التمويل الليبي لحملته الانتخابية.
حاول مونتيني كوزير قادم من المحاكم طرح خطة جريئة ضمت 5 محاور رئيسية أهمها: إنشاء مراكز للعبور نحو الإفراج، وذلك من خلال إنشاء الوزارة لوحدات انتقالية تؤهل السجين قبل خروجه، في مسعى لتقليل خطر العودة إلى الجريمة.
أضافت الخطة المقترحة بندا طموحا من خلال توسيع البرنامج العمراني للسجون من خلال بناء 15 ألف مكان جديد بحلول 2029، حماية لكرامة المساجين وظروف احتجازهم.
بيد أن تقريرا صادما أصدرته محكمة الحسابات في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 أكد أن 42% فقط من المنشآت التابعة للمؤسسات العقابية الفرنسية المقررة أُنجزت في الآجال المحددة، وأن الميزانية التي أفردت لذلك لا تكفي لتنفيذ هذه المشاريع.
اقترح الوزير مونتيني تعزيز الأمن داخل المؤسسات الحساسة، وتصنيف بعض المؤسسات إلى "عالية الأمن"، حيث تدرج وزارة العدل الفرنسية 15 سجينا ضمن خانة "سجناء عاليّي الخطورة"، من بينهم مهربون كبار وتجار المخدرات والسلاح ومحكوم عليهم بتهم الإرهاب، بعضهم يجاور زنزانة الرئيس السابق ساركوزي.
استفاقت فرنسا يوم 14 مايو/أيار 2024 على وقع هجوم مسلح استهدف حافلة لنقل السجناء قرب إنكارفيل في منطقة النورماندي شمال باريس، أسفر الهجوم عن مقتل عنصرين من الشرطة، وهروب محمد عمرا الملقب بالذباب، وهو السجين الأخطر والأشهر في تاريخ المنطقة.
كشفت عملية إنكارفيل مرة أخرى عن هشاشة المؤسسة العقابية وأمنها، حيث عمدت وزارة العدل الفرنسية إلى إعلان حالة الطوارئ القضائية، ووقعت في 13 يونيو/حزيران الماضي على بروتوكول خاص يحمل اسم اتفاق إنكارفيل، يضمن تسليح وحدات المراقبة ببنادق "إتش كي جي 36" وصواعق "تايزر إكس 26″، ومنع الاتصالات اللاسلكية والطائرات المسيرة خلال نقل المساجين.
توالت التمردات في السجون الفرنسية، فبعد أقل من 3 أشهر من قضية إنكارفيل أي في 28 سبتمبر/أيلول الماضي، دخل نزلاء سجني فوري "ميرونجيس" و"نانت" في حالة عصيان تام، انتقلت عدواهم إلى سجن مايوت في 7 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، مما أجبر مدير السجن على الاستقالة.
وقد وصف الفرع الفرنسي للمرصد الدولي للسجون، وهي منظمة غير حكومية تراقب الأوضاع داخل السجون وتوثق انتهاكاتها، هذه الأحداث بأنها "قنبلة موقوتة".
كما أشار تقرير لصالح منظمة المفوض العام لمراقبة أماكن الحرمان من الحرية -وهي هيئة مستقلة تابعة للدولة الفرنسية تعمل على مراقبة السجون ومراكز الشرطة ومستشفيات الأمراض النفسية ومراكز احتجاز المهاجرين- إلى "تدهور خطير في البنية وارتفاع معدلات الانتحار في المؤسسات العقابية".
وهذه الملاحظات ما انفكت تتكرر في مثل هذه التقارير الدورية منذ سنوات دون أن تجد حلا.
أثار تعيين جيرالد دارمانان وزيرا للعدل جدلا كبيرا في فرنسا؛ ففي جلسة برلمانية مفتوحة قال النائب الاشتراكي بوريس فاليه "حين يجمع وزير واحد بين الشرطة والعدالة، يصبح السجن أداة سلطة لا مؤسسة إصلاح".
طرح رجل الأمن دارمانان خطة معدلة لتحسين أوضاع المؤسسة العقابية الفرنسية تحت اسم "خطة التحصين العقابي"، التي وصفتها صحيفة لوموند بأنها محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وفي حين اعتبرتها محكمة الحسابات الفرنسية "خطة واقعية مرهونة بالتمويل"، نددت بها نقابة اتحاد العمال، التي تمثل عمال السجون الفرنسية وأطلقت عليها اسم "عسكرة العدالة"، ليبقى واقع المؤسسات العقابية الفرنسية على حاله.
وكانت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان عام 2020 قد أدانت فرنسا في قضية ما يُعرف بـ"جي بي إم وآخرون" -وهي الأحرف الأولى لأسماء سجناء رفعوا دعوى ضد فرنسا- وذلك بسبب الاكتظاظ والمعاملة اللا إنسانية، وطالبت باتخاذ تدابير دائمة لتحسين الوضع.
وأشار البرلمان الأوروبي، الذي يملك حق إصدار التوصيات، إلى أن المفوضية الأوروبية شجّعت الدول الأعضاء على تبني بدائل للاحتجاز تحفظ كرامة المحتجزين، وتُسهل إدماجهم في المجتمع، وتقلص نسب العودة إلى الجريمة.
وقد عكس التقرير القلق المؤسساتي المتنامي حيال السجون الفرنسية، فمن جهتها وثقت هيومن رايتس ووتش أن فرنسا حافظت على مستويات مرتفعة من أعداد المساجين مقابل ضعف الطاقة الاستيعابية، وأشارت إلى ضرورة إعادة النظر في دور الحبس الاحتياطي، والأحكام القصيرة، وتراجع بدائل السجن.
ورصدت تقارير لجنة أوروبا لمنع التعذيب، التابعة لمجلس أوروبا والتي تقوم بزيارات مفاجئة إلى السجون ومراكز الشرطة والمستشفيات ومراكز احتجاز المهاجرين، ظهور نظم هرمية غير رسمية بين السجناء في السجون الفرنسية، تسهم أحيانًا في فرض أنماط من السيطرة والعنف الداخلي، وصنفت النظام العقابي الفرنسي ضمن الحالات المقلقة.
كما أضاءت وكالة اليوروبول على خطر التطرف خلال فترة الاحتجاز بسبب البيئة الأمنية الكلية، مما وضع السجون الفرنسية تحت رقابة أمنية دائمة.
عرض تقرير منظمة الإصلاح العقابي الدولية، الصادر في مايو/أيار الماضي، مقارنة بين الأنظمة العقابية في الدول الأوروبية، خلصت نتائجه إلى أن النرويج وهولندا وأسكتلندا تمكنت من تخفيض معدلات الاكتظاظ في سجونها من خلال تبني العقوبات البديلة.
فقد اعتمدت النرويج بشكل خاص على "مبدأ الحياة الطبيعية" (NORMALITY PRINCIPLE)، الذي يقتضي أن يكون السجن امتدادًا للحياة خارج أسواره، لا قطيعة عنها، الأمر الذي يعزز من فرص اندماج السجين في المجتمع بعد الإفراج عنه ويقلل من احتمالات عودته للجريمة.
ويقوم هذا النموذج العقابي على تمكين السجين من العيش في غرفة خاصة، وليس في زنزانة، مع إتاحة التلفاز والكتب والآلات الموسيقية له، وإمكانية العمل والدراسة داخله، فضلا عن التعامل اليومي مع موظفين مدنيين بدلا من الحراس المسلحين.
ويظل القيد الوحيد والأشد في هذا النظام هو منع السجين من مغادرة غرفته بحرية في أي وقت يشاء. وقد أثبتت هذه التجربة نجاحها، إذ تمكنت هولندا من إغلاق 7 سجون بين عامي 2015 و2022 بفضل تطبيق هذا النموذج.
لكن، يصعب تطبيق النموذج العقابي الذي نجح في الدول الأسكندنافية على واقع السجون الفرنسية. إذ عبر عالم الاجتماع المتخصص في الشأن العقابي فيليب مارشال عن هذا التناقض بقوله "حين تسجن فرنسا رئيسها فهي تثبت نزاهتها، وحين تترك المجهولين خلف الجدران فهي تفقد إنسانيتها.. لقد شيّدت فرنسا السجون وسنّت القوانين، لكنها لم تعثر بعد على الحل الحقيقي".
وتبرز الخطورة في المقارنة بين زنزانة ساركوزي الهادئة وجدران سجن "لاسانتي" المكتظ؛ ففي هذه المقابلة تتجلى المفارقة الأعمق في الجمهورية الفرنسية الخامسة : دولة حاسبت رئيسا باسم العدالة، لكنها عجزت عن صون كرامة المئات ممن يقبعون في عتمة سجونها.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة