في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في مشهد يعكس تحولا سياسيا حذرا بعد أكثر من نصف قرن من الحكم الشمولي، أغلقت صناديق الاقتراع أبوابها في سوريا لتعلن ميلاد أول مجلس شعب منذ سقوط نظام بشار الأسد .
لكن هذا الاستحقاق رغم زخمه الرمزي، يثير أسئلة أعمق حول طبيعة الشرعية التي يستند إليها البرلمان الجديد، ومدى تمثيله الفعلي لمكونات المجتمع السوري في مرحلة انتقالية لم تتضح ملامحها بعد.
فالآلية التي جرت بها الانتخابات، كما يرى الباحث في مركز الجزيرة للدراسات لقاء مكي خلال مشاركته في برنامج "ما وراء الخبر" أقرب إلى "انتخاب غير مباشر" يمنح الرئيس سلطة تعيين ثلث أعضاء المجلس البالغ عددهم 210، بينما يُنتخب الباقون عبر هيئات فرعية.
هذا الترتيب، وإن بدا توافقيا مع واقع بلد لم يستقر بعد على نظام حزبي أو سياسي واضح، فإنه يكشف -بحسب قراءة مكي- عن خطوة أولى قصيرة في مسار طويل نحو ديمقراطية حقيقية، تحتاج إلى بيئة سياسية حرة ومؤسسات مستقلة كي تنضج.
ورغم إقرار الخبراء بخصوصية المرحلة، فإن الانتقادات لم تغب عن المشهد، فالدكتورة رهف الدغلي من جامعة لانكستر تصف العملية بأنها "هجينة وانتقائية وهرمية"، مشيرة إلى أن النظام الانتخابي الحالي أعاد إنتاج مركزية السلطة التنفيذية بدل تعزيز مبدأ فصل السلطات.
وتذهب إلى أن المجلس الجديد كان يمكن أن يكون مساحة لبناء توافقات وطنية أوسع، لو اتخذت خطوات رمزية -على الأقل- لدعوة المكونات الغائبة مثل شمال شرق سوريا والجنوب، حتى وإن لم تُترجم هذه الدعوات عمليا.
ويستند هذا الطرح إلى قناعة بأن الشرعية السياسية لا تُستمد فقط من صناديق الاقتراع، بل من شمول العملية لمختلف الأطياف.
فإقصاء محافظات رئيسية مثل الحسكة والرقة والسويداء يضع علامة استفهام على مصداقية التمثيل الوطني، خاصة في بلد ما زالت خريطته الميدانية والسياسية موزعة بين قوى متعددة، حسب رهف الدغلي.
من هنا، يرى مكي أن تجاوز هذه الفجوة يتطلب تعيين شخصيات من تلك المناطق ضمن الحصة الرئاسية، تمثل المكونات الكردية والدرزية على الأقل رمزيا، إلى حين عودة الاستقرار الكامل.
أما من دمشق ، فيقدم الباحث مؤيد قبلاوي قراءة مغايرة تماما، معتبرا أن النظام الانتخابي غير المباشر ليس استثناء في سوريا، بل هو ممارسة معمول بها في مراحل انتقالية بعد الحروب والانقسامات.
ويؤكد أن اعتماد هذه الصيغة جاء اضطرارا لتفادي تعقيدات النزوح الداخلي والخارجي وصعوبة الإحصاء السكاني، في بلد فقد وحدته الجغرافية والإدارية لعقد كامل.
ووفق رؤيته، فإن منح الرئيس صلاحية تعيين 70 عضوا ليس "محاصصة ولاء"، بل وسيلة لتصحيح الخلل التمثيلي وضمان حضور فئات مهنية ونسائية ومناطقية لم تنجح صناديق الاقتراع في إيصالها.
لكن هذه المقاربة لا تبدد المخاوف من هيمنة لون سياسي واحد على البرلمان، إذ تحذر رهف الدغلي من تضارب المصالح في تركيبة الهيئات الناخبة التي يختارها الرئيس وتُجيز لأعضائها الترشح والتصويت في الوقت نفسه.
وتصف ذلك بأنه نموذج "للدوران داخل دائرة مغلقة" يصعب معه التمييز بين السلطة المنتخبة والسلطة المانحة للانتخاب، مما يضعف فكرة المحاسبة ويقوّض الرقابة البرلمانية المفترضة.
في المقابل، يقرأ مكي المشهد من زاوية مختلفة، معتبرا أن الرئيس السوري أحمد الشرع يسعى فعليا لتجنب احتكار السلطات، وأن تشكيل المجلس بهذه الصيغة يعكس رغبة مبدئية في بناء توازن رقابي، ولو محدودا.
ويرى أن نجاح التجربة مرهون بمدى استعداد الأعضاء لممارسة دورهم النقدي تجاه السلطة التنفيذية بدل الارتهان لها، لأن أي خضوع مطلق سيعيد البلاد إلى دوامة التماثل السياسي التي أطاحت بالنظام السابق.
وتزداد حساسية المرحلة مع غياب قانون للأحزاب، وهو ما تراه رهف الدغلي تأخرا جوهريا في مسار التحول الديمقراطي، فبغياب الحياة الحزبية، تغيب المنافسة والبرامج السياسية، ويتحول البرلمان إلى هيئة شكلية تمثل السلطة أكثر مما تمثل الشعب.
وتضيف أن منظمات المجتمع المدني، التي ولدت بعد عام 2011، كان يمكن أن تؤدي دورا محوريا في توسيع دائرة المشاركة، لكنها ظلت مهمشة في العملية الانتخابية، ما يفاقم أزمة الثقة بين الدولة والمجتمع.
في المقابل، يصف قبلاوي ما جرى بأنه "نقلة نوعية" من شرعية القوة إلى شرعية الصندوق، ويرى أن ولادة ما سماه "الأغلبية الوطنية" داخل البرلمان تمثل بداية لاصطفاف سياسي جديد يتجاوز الولاءات المناطقية والطائفية.
ويربط بين هذه الخطوة ورغبة السلطة في نقل مركز الثقل السياسي من الميدان العسكري إلى المؤسسات المدنية، بعد أن رأت نفسها في موقع "التحرير والانتصار"، وفق تعبيره.
وبين هذه القراءات المتباينة، يبقى البرلمان السوري الجديد أمام امتحان مزدوج: فإما أن يتحول إلى منصة لتأسيس توازنات سياسية جديدة قادرة على إنتاج عقد اجتماعي جامع، أو أن ينزلق إلى دور شكلي يمنح السلطة التنفيذية غطاء قانونيا لمواصلة التحكم بالمشهد.
فمرحلة ما بعد الأسد، كما تقول رهف الدغلي، ليست مرحلة انتقالية بالمعنى الإجرائي فقط، بل اختبار لإرادة بناء الدولة من جديد على أسس الشفافية والمساءلة والشمول.