في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
ما بين رحيل موجع في العام (2019) استشعر قربه، فرثى نفسه بنص محزن على طريقة الشاعر مالك بن الريب في بكائيته، وإطلالته من شرفة بيت بالمفرق شرق الأردن عام (1955)، عاش الشاعر والروائي الأردني أمجد ناصر (يحيى النميري النعيمات) حياته مبدعًا ومرتحلًا في الأمكنة وبين الأجناس الإبداعية؛ شاعرًا وروائيًا وكاتبًا في أدب الرحلات وصحفيًا.
6 سنوات مرت على إغفاءة ناصر الأخيرة بعد مرض فاجأه ولم يمهله كثيرًا، تاركًا خلفه إرثًا غنيًّا ما زال نقاد ومبدعون يتأملونه ويدرسونه. وفي تظاهرة تليق بإبداعه، نظمت مؤسسة عبد الحميد شومان في العاصمة الأردنية عمان ندوة شارك فيها أكثر من 14 باحثًا تناولوا تجربته الأدبية وجوانب من حياته الإنسانية، وتناوب على تقديم جلساتها القاصة بسمة النسور، وبثينة البلخي، والأديب مفلح العدوان، ووفاء جعبور.
الشاعر والمترجم موفق ملكاوي، مدير منتدى شومان، في كلمة ألقاها نيابة عن الرئيسة التنفيذية للمؤسسة، رأى أن "الندوة تأتي انطلاقًا من فرادة التجربة الأدبية للشاعر والأديب الأردني الراحل، وتتطلع إلى كشف جوانب ثرية تلقي الضوء على إبداعه ومكانته وتجربته، إلى جانب استكشاف امتداده في أبناء جيله العربي وتأثيره في الأجيال اللاحقة".
وأضاف أن "أمجد ناصر يرتبط أثره بدوره في تطوير قصيدة النثر العربية على مدى 4 عقود، وقد مثّلت دواوينه الشعرية تجربة فريدة في إطار هذه القصيدة".
يصف الشاعر الفلسطيني غسان زقطان، وهو الذي جمعته صداقة مبكرة مع صاحب ديوان "حياة كسرد متقطع"، التقاءهما في عمان كمحطة للصداقة بينهما: "وصلنا معًا ودون اتفاق، جاء من المفرق من بيت ضابط مدرعات صارم وعاطفي، وجئت من مخيم لاجئين من بيت موظف في وكالة الأمم المتحدة وناشط سياسي".
في العاصمة، كان ناصر في الـ20، بحسب زقطان، "وكان يمكن سماع نبرته الحادة ولهجته البدوية ومعجمه المتمرد على تلك الشرفة الحجرية في شارع إبراهيم طوقان في جبل اللويبدة غرب عمان، من الصالات الداخلية لرابطة الكتاب الأردنيين حيث يواصل المؤسسون تكديس أفكار نقدية مدرسية، وتعاليم سياسية صارمة، وإرشادات لإعادة إنتاج شروط متفق عليها للكتابة".
بيروت كانت المحطة الثانية في رحلات صاحب "رعاة العزلة"، وفيها عاش حصارها في العام (1982)، وهي المحطة التي جمعته بالشاعر السوري نوري الجراح في علاقة صداقة طويلة وممتدة. وبحسب الجراح، فإن "أمجد الفلسطيني هو أول ما يستدعيه الفلسطيني". مضيفًا: "ففلسطين بدايةً تكمن في العمق من انتمائنا الشامي، ولطالما كان وكنت لاجئين؛ أردني وسوري في خيمة فلسطينية في بيروت".
ولدى الجراح، "كان أمجد على الدوام صديق الأيام والسنوات، بحلوها ومرّها، حنونًا، وطيبًا، ومنصفًا، وشديد الذكاء في علاقته بالأشياء، لكن قسوة الحياة التي مر بها في غير طور من أطوارها لعبت دورًا في تكوين مزاجه الحاد".
في مداخلته، اعتبر الناقد السوري صبحي حديدي أن "ناصر يُعد أحد الأصوات الأبرز في جيل من الشاعرات والشعراء عريض وتعددي وغنيّ"، لافتًا إلى أنه "صعد منذ أواسط سبعينيات القرن المنصرم وتسيّد المشهد لاعتبارات شتى، قد يكون في طليعتها دأبُ التجريب وجسارته ومحاسنه وعثراته".
ورأى أن صاحب "مديح لمقهى آخر" حمل "هاجس العبور الشائك من النثر الشعري كما أطلقه وأشاعه، ثمّ خلّفه، جيل محمد الماغوط وأنسي الحاج وأدونيس ويوسف الخال وشوقي أبو شقرا وتوفيق صايغ؛ إلى شكل قصيدة النثر".
عن اللمعات النقدية في شعر صاحب ديوان "مرتقى الأنفاس"، خلص أستاذ النقد في الجامعة الهاشمية في الأردن، جمال مقابلة، إلى أن "شعر أمجد ناصر يظهر نزوعًا ميتا-شعريًا يعكس وعيًا نقديًا عميقًا بمفهوم الشعر وحدوده؛ لأنه يكتب قصيدة يصف فيها العالم، وهو يتأمل فعل الكتابة المدهش في ذاته، وهو الفعل الذي يمكّنه من القدرة على وصف هذا العالم كما يراه".
بحسب الدكتور زياد الزعبي، فإن نصوص أمجد ناصر الشعرية والنثرية تمثل ظاهرة تتأمل الماضي، وتمعن في التحديق في الطفولة. ولفت إلى أن أعماله الإبداعية "ملتبسة في تجنيسها، متمردة في لغتها، ممتدة في أطرها الجغرافية المتباعدة مكانيًا وحضاريًا ولغويًا. فالبدوي الذي وعى على نفسه في مرحلة مبكرة من العمر، ضاقت به دياره، فبحث عن أرض أو أمكنة تتسع لحضوره المتمرد".
وقد قضى حياته كلها مشظّى بين الصحراء والقبيلة من جانب، والثورة والضباب الذي لا يعترف بالقبائل، ولا يرى في الصحراء سوى مكان للهروب، أو لهجرة روحية من مكان مثقل بالوحدة والاغتراب القاتل.
لدى الشاعرة والأكاديمية مها العتوم، فإن أمجد ناصر قدم خلال تجربته الطويلة والممتدة على مدى يقارب الـ40 عامًا (1979-2019) قصيدة نثر متكاملة الأركان والملامح.
لافتة إلى أن التحولات التي مرت بها قصيدته تشي بنموٍّ يتصاعد تدريجيًا وصولًا إلى مرحلة النضج، معتبرة أنها قصيدة النثر الخاصة به التي جعلت منه اسمًا متفرِّدًا وصاحب قصيدة تحمل بصمته الخاصة ورؤيته المتميزة لقصيدة النثر العربية الجديدة.
لاحظ الناقد فخري صالح أن أمجد ناصر، وهو يعلم قرب النهاية، ودبيب أقدام الموت يزحف نحوه، قد طوَّع أسلوب عمله ليحقق الانشقاق الشعري عن شعره هو نفسه، وشعر أقرانه من كتاب قصيدة النثر، وكذلك عن المنحى العام الذي اتخذته الحداثة الشعرية العربية، بتياراتها واختباراتها المتنوعة.
ولفت إلى أن "القيامة السورية، وكذلك مرض الشاعر، كأنهما يغذي أحدهما الآخر. كما يظلل اليأس المطلق، والعدم، ونعي النوع البشري، وإلحاق الإنسان بعالم الوحوش الكاسرة، هذا النصَّ المخيف، الذي لا بارقةَ أملٍ فيه".
وحسب صالح، فإن أمجد ناصر "قد وضع اللمسات الأخيرة على عمله في "مملكة آدم" بعد أن دهمه مرض السرطان، تمامًا كما فعل إدوارد سعيد في تنظيراته حول الأسلوب الأخير، واهتمامه الكبير بأعمال النهايات (تلك التي تتحقق عندما يدرك الكاتب، أو الفنان، أن الموت ينتظره)".
من جانبها، اعتبرت الأكاديمية ليديا راشد أن أمجد لم يكن شاعرًا فحسب، إنما كان سرّادًا ذكيًّا تتسلل جماليات أسلوبه الوثاب إلى التمرد في شعره وسرده معًا.
ولفتت إلى أنه في جميع أعماله الأدبية كان يستدعي الشخصي واليومي والتاريخي والأسطوري والقومي والإنساني والوجودي والسياسي، فتشتبك رؤاه وأفكاره بكل ما يسبب المكابدات والآلام التي تفرز الانهزام والانكسار الإنساني المرير.
وتابعت أن أمجد ناصر في أعماله يحاول أن ينتصر دومًا لسؤال الحياة والوجود الذي أضاع إجابته في زحمة القلق الدنيوي وفي الطريق إلى ميناء الخلاص.
عن شعرية الرحلة والآخر الثقافي، رأت فاطمة محيسن أن صاحب "رحلة في بلاد ماركيز" أبدع في أدب الرحلة، حيث امتازت كتاباته في هذا الجنس الأدبيّ بأنها تحفل بالمرجعيات؛ فكتب الرحلة كمن يكتب بحثًا. وأبدع في خطّ رحلاته التي نجد في كل واحدة منها إحالات عديدة وغنيّة تذكّرنا بقوّة بمذكرات كازانتزاكي المليئة بالرموز والتأملات.
وحول الأبعاد الثقافية في شعر صاحب "سر من رآك"، اعتبر ليث الرواجفة أن قصائد أمجد ناصر تمثل تقاطعًا لافتًا بين البنية الشعرية والأسئلة الثقافية الكبرى، وكشفت عن قدرة لغوية خاصة على إنتاج المعنى.
ولدى الرواجفة، فإن الذاكرة الجماعية والتاريخ المُستعاد في شعر أمجد ناصر يتجليان من خلال مساءلة السردية الرسمية للتاريخ، وتفكيك رموزه البطولية ومركزيته الفتوحاتية، مقابل استدعاء سرديات الهامش والمنسيّ والمجرّب وجوديًا.
وعن جمالية المقال الصحفي، اعتبر الشاعر والقاص حسين جلعاد أن ناصر في تحوّله إلى كتابة المقال لم يكن مجرّد توجّه مهني أو ظرفي، بل كان امتدادًا طبيعيًا لصوته الشعري. ولفت صاحب " شرفة آدم " إلى أن ناصر تعامل مع المقال كفضاء حرّ للتأمل والتسجيل والموقف، فخرجت كتاباته عن القالب الخبري المعتاد لتتخذ شكلًا أدبيًا مخصوصًا، يتشابك فيه السياسي بالثقافي، وتتقاطع فيه التجربة الشخصية مع القضايا العامة.
وأضاف أنه لا يمكن قراءة المقال الصحفي عند أمجد ناصر دون النظر إلى خلفيته الفكرية والسياسية، وإلى الوعي الذي حمله من تجربته كشاعر من جيل السبعينيات العربي، المثقل بأسئلة الهوية والمنفى والمقاومة. وتابع أن ناصر كان يكتب المقال باعتباره مساحة تدخل في التاريخ، لكن من موقع شخصي وجمالي، لا من موقع البيانات الأيديولوجية أو الصحافة الخبرية.
أما الروائي يحيى القيسي فاعتبر أن أمجد، كما أسماؤه الكثيرة ومواهبه المتعددة، يمكن أن تراه في كلّ مقال مبدعًا في تنوع موضوعاته، وأساليب كتابته ولغته، دون أن يُسبّب هذا الغنى المعرفي والأسلوبي تضحيةً للموضوع المطروق، أو طغيان جانب على آخر.
وحسب الناقد محمد عبيد الله، فإن نثر أمجد ناصر لا يقل قيمة وأهمية عن شعره، وهو حري بالقراءة والتحليل والتأمل، لقيمته المعرفية والفنية.
وأضاف أن هوية أمجد ناصر الشعرية غلبت على ما عداها من مجالات إبداعه وعطائه، وهو أمر طبيعي في ضوء أعماله الشعرية المبكّرة منذ نهاية سبعينيات القرن الـ20، وقد فرضت له تلك الأعمال موقعًا متقدمًا بين شعراء جيله. مضيفًا أن شعرية النثر عند صاحب "فرصة ثانية" تتأسس على منظوره الشعري للعالم، ذلك أنه ناثر جاء من خلفية شعرية آسرة.
في رواية "هنا الوردة"، رأت الأكاديمية والقاصة أماني سليمان أن أمجد ناصر امتلك حساسية في استخدام الأنساق الجمالية التي يستبطنها الشعر، مبدعًا نسيجًا لغويًا شفافًا وموحيًا. ولفتت إلى أن أكثر ما يلفت النظر في روايته هو لغتها التي تجاوزت غاية الإبلاغ السردي وتعالت عليه لتتماس مع غيوم الشعر.
وحول أدب الرحلة لدى صاحب "خبط الأجنحة"، رأى الناقد عماد الضمور أن الأديب الأردني أمجد ناصر أفرد لأدب الرحلات مساحة واسعة من إبداعه الأدبي، فكتب رحلته الأولى "خبط الأجنحة: سيرة المدن والمقاهي والرحيل" عام 1996م، التي رصد من خلالها غربة طويلة متجاوزًا مساحات الجغرافيا إلى منعرجات الروح. وتابع أنه كتب رحلته "تحت أكثر من سماء" عام 2002م، سرد من خلالها زياراته لمجموعة من الدول العربية وكندا، وأصدر بعد ذلك رحلته "طريق الشعر والسفر" عام 2008م، ثم كتب رحلته "الخروج من ليوا يليه في ديار الشحوح" عام 2010م، ثم جاءت رحلته "رحلة في بلاد ماركيز" عام 2012م، التي يسرد فيها رحلتين: الأولى في مدينة (مالفي) الإيطالية، والثانية في كولومبيا حيث التنوع والاختلاف وتعدد الهويات.
واعتبر أن الرحلة في أدب أمجد ناصر تجاوزت سياقاتها التاريخية والجغرافية إلى رحلة في أعماق الذات، حيث الشعور بالتيه والضياع، والرغبة في الخروج من حالة الصمت إلى محاولة اكتشاف الآخر بلغة نثريّة تتيح له حرية الحركة والوصف.
لاحظت الأكاديمية ليندا عبيد أن أمجد ناصر قدم رواية "حيث لا تسقط الأمطار" بما يوهم أنها سيرة ذاتية للروائي، بينما نجد بعد القراءة أنه يستخدم ما سُمي بـ"القناع الروائي"، مستفيدًا من بعض أحداث حياته مع استخدام خلّاق للخيال. وتابعت أنه يستخدم في عمله الروائي الأول كل مخزونه اللغوي والتعبيري في الحديث عن الواقعين السياسي والاجتماعي وتحولاتهما في الأردن والواقع العربي والمنفى أيضًا، في كتابة سردية شديدة الإحكام، صانعًا عالمًا روائيًا مختلفًا.
وخلصت إلى أن اللغة في رواية "حيث لا تسقط الأمطار" لم تغرق بشعرية فائضة رغم تداخل الشعري بالمقالة بالرواية.
واعتبرت الناقدة نداء مشعل أنه حين نتوقف أمام رواية "هنا الوردة" لأمجد ناصر، فإننا لا نقرأ مجرد نص سردي آخر يضاف إلى مكتبة الرواية العربية، بل نقف على مشروع جمالي وفكري يستحضر سؤال اللغة، وسؤال الغياب، وسؤال المصير العربي في لحظة حرجة من التاريخ. وأضافت أن أول ما يواجهنا في الرواية هو لغة أمجد ناصر، وهي لغة شاعر يكتب الرواية دون أن يتخلى عن تراثه الشعري. ولفتت إلى أن الجملة في "هنا الوردة" تتأرجح بين التكثيف الشعري والتفصيل السردي، بحيث تتحول اللغة إلى كيان جمالي مستقل. هذا الاختيار لم يكن محايدًا، فالشعرية هنا ليست مجرد زينة، بل هي أداة لإنتاج استعارة الغياب نفسها.
ذاهبٌ لأصغي إلى عجائبِ أبي
عاريًا في دهشتِك، لا سياجَ ولا معرفةَ ولا كتفَ.
فقط الوقتُ بتمارينِه وحيَلِهِ، الوقتُ الذي يبعثُك كلَّ مرّةٍ في المرآةِ مثلَ قافيةٍ تتكرّرُ
مثلَ مزرابٍ ينقّطُ في العتمةِ، حينَ كلُّ شيءٍ يكمُنُ في الإيقاعِ الذي يبعثُهُ المزرابُ من عتمتِهِ.
أنت المُصغي بدأبٍ للإيقاع تلمسُ في إصغائِك الطائرَ والغيمةَ، القرميدَ والريحَ، الحصى والحفرةَ، فطنةَ النهر وهواجسَ المجرى.
الإيقاع، الإيقاع… الإيقاع
حجّةُ الأشياء العظيمة وشغفُ الأقنعة.
كأن تجدَ نفسَك واقفًا بسجاياك كاملةً في مخيّلةِ شاعرٍ لا يعرفُك
في صوتِ امرأةٍ لا تراها عبرَت إلى جانبك
امرأةٍ بسيطةٍ، لكنّها على نحوٍ لم تقصده، هيّجَت الضبابَ وتيّاراتِ النهرِ المتوارية.
ستذهبُ عكسَ الريحِ أيّها النسّاجُ الماهرُ
عكسَ السنواتِ التي أكملَت عملَها وجلسَت في الظلِّ
عكسَ النهر
وعكسَ الفتيانِ الذين يحلمونَ بالنضوجِ دون شمسٍ ودون رحلة.
سيسألُك جارُك الذي ماتَ في الخريفِ الماضي:
إلى أين؟
ذاهبٌ لأصغيَ إلى عجائبِ أبي.
وتسألُك الفتاةُ التي أحبّتك في شتاءٍ لم يحدثْ:
إلى أين؟
نسيتُ ضحكةَ أمّي على الشرفةِ.
ويسألك شاعرٌ يشبهُكَ – أو هو أنتَ، إذا أردت الدقّةَ – وصل لتوّه في مركبٍ بخاريٍّ:
إلى أينَ؟
ذاهبٌ لأوقظَ حبيبي.
وتسألُك امرأةٌ ساهمةٌ وهي ترتُقُ جوربَك تحتَ ضَوءٍ خفيفٍ:
أين كنتَ؟
أتبعُ الغيمَ.
أما زالت تُمطرُ هناك؟
تمطرُ منذ عقودٍ طويلةٍ هناك.
إنّه يأتي، المطرُ، من البَغتةِ ومن الإيماءاتِ القاتمة لـ"هيرودس".
عمل غير مكتمل
"ركض أمجد إلى شقته بعد أن شهد حدثًا في مقهى.
ليس الأمر كما يبدو. لم يكن هذا الحدث مما يهدد الحياة.
على العكس تمامًا. أعاد إليه الروح المتوقدة في داخله.
كان ملهمًا لإبداعه.
كان تفاعلًا بين شابين يتبادلان مجاملات لطيفة.
كان بسيطًا، غير معقد، ويشع بمودة هادئة.
ركض طويلًا في شوارع لندن الصاخبة. لم يكترث للخطر المحتمل الذي تشكله الأرصفة المبللة الزلقة. "لندن ليست لندن من دون مطر"، فكر في نفسه وهو يدعو في سره ألا تنزلق قدمه ويسقط، فينكسر شيء مما يحمله.
شعر أنه ركض لدهر كامل قبل أن يصل إلى المبنى الذي يسكنه. لم يضع وقتًا، فقد تعجل في فتح مدخله، ودلف داخلًا.
ضغط على زر المصعد بسرعة، وبدأ ينقر بقدمه على الأرض بفارغ الصبر، كما لو أنه يستعجل المصعد بالقدوم.
أخيرًا، استقل المصعد، وضغط على زر الطابق الثاني.
وصل أخيرًا إلى شقته.
كانت بسيطة. غير منتظمة عند حوافها، لكن سحرها غير عادي.
تتوشى ببقع طلاء رمادي على جدار أبيض.
لم يكن متأكدًا من مصدر تلك البقع، لكنه لم يكن يكترث بذلك.
كان هناك شمع جاف على الأرضيات والطاولات. وكتب مبعثرة في كل مكان. وأوراق في كل زاوية من غرفة المعيشة الصغيرة.
بالنسبة لأمجد، لم تكن هذه المساحة تعني شيئًا، ما يهم أكثر هي المساحة التي في رأسه والتي يخرج منها إبداعه.
لكنه لم يكن يعلم أن مساحة المعيشة هي انعكاس لعقله.
الأكواب المستعملة، زجاجات المياه الفارغة، والمخطوطات غير المكتملة، كانت دليلًا على براعته الفنية.
كان من النوع الذي لا يمكن حبسه في صندوق. من النوع العصي على التقاليد والتنميط.
فقد جعل مهمته أن يفرغ قلبه على الورق.
الورق لم يفلح دائمًا في اجتياز الاختبار نحو النهاية، ولكن حتى تلك الأوراق غير المكتملة تركت انطباعًا ما.
خصوصًا عند أخيه.
للحظة، فكر في مراسلة أخيه. أمسك هاتفه وبدأ بكتابة رسالة نصية. لم يكن متأكدًا مما يريد قوله بالتحديد. ظل يشطب الكلمات ويعيد كتابتها. يعدل الجمل، ثم يمحوها تمامًا. ضاق إحباطه بالغرفة، فأطلق تنهيدة عالية وطويلة، ووضع هاتفه جانبًا، وأقنع نفسه بأنه سيكتب الرسالة لاحقًا.
أمسك قلمًا؛ قلمه المفضل: قلم حبر جاف أسود، وبدأ بالكتابة. شعر بموجة من الصور والأفكار تجتاحه فجأة. بدأ يكتب بطلاقة وتدفق، فذُهل مما اكتشف أنه كان قادرًا على فعله. عادت أفكاره إلى الرسالة النصية، وتساءل: "كيف أجد صعوبة في كتابة نص بسيط بينما أستطيع ملء ورقة بكلمات وجمل بهذه المهارة؟"
الساعة على الحائط تعلن عن دقاتها بصوت عالٍ جدًّا، وكأنها تطلب منه أن يضع قلمه جانبًا ويستسلم للنوم. لكنه كان منغمسًا بعمق في كتابته، فتجاهل دقات الساعة التي تقترب من إعلان منتصف الليل.
هو يكره الساعة بشدة. يعتقد أنها أداة ازدراء. تذكير بالمصير المحتوم.
وأخيرًا, وصل أمجد إلى نهاية قصته.
لكن يده توقفت عن تحريك القلم على الورقة.
كان في حيرة شديدة.
لم يكن يعرف كيف ينهي القصة.
حك ذقنه بيده، فيما نظرته تستجوب الورقة كما لو كانت تطلب الإجابة.
وأخيرًا, رفع رأسه عن الورقة، فاستقبلته دقات الساعة غير الرفيقة به.
إنه منتصف الليل.
أراد الاحتجاج. أن يتوسل إلى الساعة لتعيده للوراء، وأن تمنحه مزيدًا من الوقت لإكمال ما بدأه.
لكن الساعات ليست من النوع الذي يطيع الأوامر، أو يتعاطف مع التوسلات.
خاطبها برجاء: "أحتاج إلى إنهاء قصتي".
ولكن ما من أحد هناك ليجيب توسلاته.
على مضض، وضع قلمه جانبًا، ومضى نحو غرفته.
قصته لم تكتمل، ونصه ما يزال مسودة في ذهنه."