في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
أنقرة- أشعلت تصريحات وزير الدفاع اليوناني نيكوس ديندياس -التي وصف فيها ما تعرض له اليونانيون في الأناضول مطلع القرن الـ20 بأنه " إبادة جماعية "- جدلا جديدا بين أنقرة وأثينا.
ونشر ديندياس تدوينة على منصة " إكس " -الأحد الماضي- أشار فيها إلى ما وصفه بـ"إبادة اليونانيين في آسيا الصغرى" لتسارع أنقرة، اليوم التالي، بالرد عبر بيان رسمي من خارجيتها وصفت فيه التصريحات بأنها "باطلة" و"محرفة للحقائق".
وجاءت هذه الأزمة في لحظة تسعى فيها الدولتان الجارتان إلى طي صفحة الخلافات، وفتح مسار تقارب بعد سنوات من التوتر.
وقال ديندياس إن اعتماد البرلمان اليوناني عام 1998 يوما وطنيا لإحياء الذكرى يمثل مناسبة لتكريم الضحايا واستحضار تراث الهيلينيين (اليونانيين القدماء) في الأناضول، مشيدا بصمود من اعتبرهم أبناء تلك المنطقة الذين انتزعوا من ديارهم قبل قرن، لكنهم تمكنوا -كما قال- من النهوض مجددا والإسهام في الحياة الاقتصادية والفكرية والاجتماعية لبلاده.
وفي بيانها وصفت أنقرة المزاعم اليونانية بـ"الباطلة" و"المستفزة" وأكدت أن استدعاء هذه الرواية التاريخية في مناسبة رسمية لا يعدو كونه "محاولة للتلاعب السياسي" مذكرة بأن اليونان كانت في تلك الحقبة طرفا معتديا خلال محاولات غزو واحتلال الأناضول.
وشدد البيان التركي على أن مثل هذه المواقف تتناقض مع الحقائق التاريخية، وتتنافى مع الجهود المبذولة مؤخرا لتعزيز أجواء الصداقة بين البلدين.
ودعت أنقرة أثينا للابتعاد عن "الدوافع السياسية الداخلية" والامتناع عن أي مبادرات من شأنها تأجيج العداء بين الشعبين، مؤكدة رفضها القاطع لما اعتبرته "تحريفا للتاريخ" لأغراض آنية.
وفي السياق، أوضحت الباحثة السياسية إسراء أويار أن هذه المواقف تندرج ضمن المناكفات السياسية المعتادة بين أنقرة وأثينا، وتظهر عادة مع كل ذكرى تاريخية حساسة، ويكون الهدف الأساسي منها مخاطبة الداخل اليوناني أكثر من توجيه رسائل إستراتيجية مباشرة إلى تركيا .
وقالت -للجزيرة نت- إن مثل هذه التصريحات قد تُولِّد أجواء من التوتر وتحرج قنوات الحوار المفتوحة بين الجانبين، لكنها تبقى محدودة الأثر ما لم تتحول لخطوات عملية على الأرض أو إلى تغييرات واضحة في أجندة العلاقات الدبلوماسية القائمة.
وتعود جذور هذا الجدل إلى حقبة حرب الاستقلال التركية (1919-1923) حين شنَّت اليونان بدعم من الحلفاء حملة عسكرية لاحتلال غرب الأناضول، حيث كانت تعيش أقليات يونانية منذ قرون.
غير أن قوات الحركة الوطنية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك تصدت للهجوم، لتنتهي المواجهة عام 1922 بانسحاب القوات اليونانية بعد هزيمتها في إزمير وغربي الأناضول.
وخلال تلك السنوات شهدت المنطقة عمليات قتل وتهجير واسعة طالت اليونانيين الأرثوذكس والأرمن، وبلغت ذروتها في كارثة إزمير عام 1922 التي دُمِّرت خلالها المدينة وقتل وفق الرواية اليونانية مئات الآلاف من المدنيين.
وخُتمت الحرب بتوقيع معاهدة لوزان عام 1923 التي أرست أسس الجمهورية التركية وحددت تبادلا سكانيا شاملا بين البلدين، وغادر بموجبها مئات آلاف اليونانيين إلى اليونان مقابل ترحيل المسلمين من اليونان إلى تركيا.
وتعتبر أثينا ما جرى آنذاك "إبادة جماعية" للإغريق العثمانيين، وتحيي ذكراها سنويا في 14 سبتمبر/أيلول بقرار برلماني صدر عام 1998، مؤكدة أن مئات الآلاف قتلوا أو هجروا قسرا بين عامي 1914 و1923، وتُشبِّه ذلك بما وقع للأرمن أواخر العهد العثماني.
أما أنقرة، فترفض بالمطلق هذه الرواية، وتؤكد أن ما حدث كان في إطار حرب دفاعية ضد احتلال أجنبي، متهمة الجانب اليوناني بـ"تحريف التاريخ" وتوظيفه في الخطاب السياسي والقومي.
وتزامنت الأزمة الجديدة مع مسار تقارب حذر بين تركيا واليونان بعد سنوات من التوترات الحادة. فمنذ مطلع 2023، تبادل البلدان إشارات إيجابية، بدأت بمبادرة إنسانية من أثينا عقب زلزال فبراير/شباط المدمر بتركيا إذ أرسلت فرق إغاثة ومساعدات عاجلة، وقام نيكوس ديندياس -وكان حينها وزير الخارجية- بزيارة المناطق المنكوبة، ليصبح أول مسؤول أوروبي يصل البلاد بعد الكارثة، في خطوة ساهمت في تليين الأجواء وفتح الباب أمام لقاءات سياسية رفيعة المستوى.
وفي يوليو/تموز 2023 التقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس على هامش قمة الناتو في فيلنيوس، حيث اتفقا على تفعيل قنوات التواصل والحفاظ على "مناخ إيجابي" في العلاقات الثنائية.
ثم جاء ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه ليشهد زيارة تاريخية لأردوغان إلى أثينا، هي الأولى منذ سنوات. واتفق خلالها الجانبان على خريطة طريق لإعادة تطبيع العلاقات وبناء مرحلة جديدة من حسن الجوار، تضمنت إجراءات لتعزيز الثقة وتوسيع التعاون الاقتصادي ومعالجة الخلافات عبر الحوار.
وأكد الجانبان آنذاك أنه "لا توجد قضايا مستعصية" بين البلدين إذا توافرت الإرادة السياسية، معربين عن أملهم بتحويل بحر إيجه إلى "بحيرة سلام" تعود بالنفع على الشعبين.
من جهته، يرى المحلل السياسي عمر أفشار أن ملف الذاكرة التاريخية لم يعد مجرد استدعاء لماض مؤلم، بل تحول إلى أداة سياسية حاضرة عند كل موجة توتر بين أنقرة وأثينا.
وأوضح للجزيرة نت أن الخطاب اليوناني يوظف هذه الرواية لتعزيز الشرعية القومية داخليا، وتوفير غطاء لأي تشدد في قضايا مثل ترسيم الحدود البحرية واستغلال ثروات شرق البحر المتوسط، في حين ترد تركيا بتشديد خطابها الوطني والتأكيد على أن ما جرى كان دفاعا مشروعا عن الأرض والسيادة، وهو ما يمنحها ذريعة لرفض الضغوط الخارجية.
وأضاف أفشار أن خطورة هذه السجالات تكمن بتقويضها الثقة الهشة بين الجانبين، إذ إن استدعاء مصطلح "الإبادة" في خطاب رسمي يجعل من الصعب بناء تفاهمات طويلة الأمد، ويترك ملفات أساسية مثل بحر إيجه وشرق المتوسط عالقة تحت سقف الشكوك، واعتبر أن أي أزمة لفظية صغيرة قد تتحول بهذا المناخ إلى عقبة حقيقية أمام التفاوض بين البلدين.