في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في مدينة غزة (شمالي القطاع) والتي صارت مسرحا لمجازر يومية، لا تبدو الأبراج السكنية هدفا عسكريا بقدر ما تحولت إلى رموز لنهج جديد في هذه الحرب الدامية، قائم على التدمير المنهجي لكل مقومات الحياة.
فإسقاط برج تلو آخر لا يعكس فقط إصرارا إسرائيليا على توسيع نطاق الدمار، بل يكشف عن إستراتيجية أعمق هدفها إفراغ المدينة من سكانها وقطع الطريق على أي تسوية سياسية محتملة.
وفي حديثه لبرنامج "مسار الأحداث" يذهب الأكاديمي والخبير بالشؤون الإسرائيلية مهند مصطفى إلى أن هذا النهج لا يفسَّر بالضرورات العسكرية، بل يرتبط بمشروع أيديولوجي يهدف إلى محو البنية المدنية الفلسطينية.
فيوميا يُهدم ما يقارب 300 مبنى، في عملية تُدار من وحدات خاصة داخل الجيش الإسرائيلي وبالتعاون مع مقاولين مدنيين، في أمر الذي يحيل -حسبه- إلى نموذج " الإبادة الجماعية " عبر استهداف البنية التحتية والثقافية للمجتمع، وليس فقط أرواح المدنيين.
والمثير أن هذا التدمير يُقدَّم بغطاء دعائي يزعم استهداف مواقع للمقاومة، لكن الخبير العسكري اللواء فايز الدويري يرى أن هذه مجرد ذرائع، فالمقاومة -كما يؤكد- لا يمكن أن تغامر بحياة مئات الأسر عبر تحويل أبراج شاهقة إلى مقرات عسكرية مكشوفة.
وحتى الإنذارات التي تُمنح للسكان قبل القصف، لا تعدو كونها عملية إخراج قسري إلى العراء، في مسرحية لا تترك للنازحين إلا خيام العراء والطرقات.
أما الباحث الأول بمركز الجزيرة للدراسات لقاء مكي فيجد في مشهد الأبراج المتهاوية بُعدا سياسيا بقدر ما هو عسكري، إذ يرى أن إسرائيل تسعى لتوجيه رسالة "تلفزيونية" واضحة: أن أبواب التفاوض أُغلقت.
فبعد أن فقدت غزة عمرانها وحياتها المدنية، لم يعد ثمة ما يمكن لحركة حماس أن تفاوض عليه، إذ تحولت المدينة إلى ركام يفرغ أي مسار سياسي من مضمونه.
وتبرز في المقارنة مع حروب التاريخ مفارقة لافتة، ففي الحرب العالمية الثانية ، ورغم تدمير مدن أوروبية ويابانية بالكامل، أعيد إعمارها وعاد إليها أهلها.
وأما في غزة، فيُراد للدمار أن يكون مدخلا للتهجير، على غرار ما جرى عام 1948، حيث استُخدم الرعب لاقتلاع مئات الآلاف من الفلسطينيين. والهدف الآن -كما يوضح مكي- دفع الناس إلى النزوح الجماعي ثم إبقاؤهم بلا أفق عودة أو إعمار.
وتكتسب المقاربة بين النكبتين القديمة والجديدة بعدا أكثر خطورة لدى مصطفى الذي يميز بين التهجير عام 1948 والإبادة الجماعية الراهنة.
ففي الأولى، كان المشروع الصهيوني يركز على إفراغ الأرض لاستيطانها، أما اليوم فإن إسرائيل -بحسب رأيه- تسعى إلى محو الوجود الفلسطيني نفسه، عبر الجمع بين التهجير والقتل الجماعي وتفكيك المخيمات في الضفة الغربية المحتلة، وهي بذلك تتجاوز كل "الخطوط الحمراء" التي التزمت بها سابقا.
ومن واشنطن ، يقدم مسؤول الاتصالات السابق في البيت الأبيض مارك فايفل زاوية مختلفة، إذ يرى أن ما يجري ليس مجرد خيار عسكري بل هو قرار إستراتيجي اتخذه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ، يقوم على إعلاء السيطرة على غزة فوق أي مسار تفاوضي.
وبحسب فايفل، فإن الحكومة الإسرائيلية لا تتجه نحو تسوية أو صفقة بقدر ما تدفع الأمور إلى مرحلة استسلام كامل للمقاومة، حتى وإن أدى ذلك إلى تدمير البنية التحتية المدنية وجرّ المآسي على السكان.
ويضيف أن غياب موقف أميركي حاسم يعزز هذا النهج، فالإدارة الحالية -برأيه- تتعامل مع الحرب في غزة كملف ثانوي مقارنة بأولويات مثل أوكرانيا ، مما يمنح إسرائيل ضوءا أخضر لمواصلة التصعيد.
ووصف فايفل اجتماعات البيت الأبيض التي ناقشت مستقبل القطاع -بمشاركة شخصيات مثل جاريد كوشنر وتوني بلير بأنها بدت منفصلة تماما عن الواقع الميداني، حيث يواجه الفلسطينيون مجاعة وقصفا يوميا بلا انقطاع.
وتكشف تصريحات بعض المسؤولين الإسرائيليين، المنقولة في الإعلام الإسرائيلي، عن إدراك ضمني لغياب أي جدوى عسكرية مباشرة من التدمير الواسع.
غير أن الدويري يفسر ذلك باعتباره جزءا من خطة تهجير ممنهجة، تبدأ بالقصف المكثف ثم دفع السكان تدريجيا نحو مناطق أكثر اكتظاظا، قبل فتح الطريق أمام اجتياح بري أعمق. وفي هذا السياق، يصبح البحث عن الأسرى أو ضرب الأنفاق أهدافا مؤجلة، وليست السبب الحقيقي في هدم الأبراج.
ورغم الموقف المصري الحازم الرافض لأي تهجير عبر أراضيه، يبقى السيناريو الأكثر ترجيحا -بحسب مكي- هو البحث عن منافذ بديلة لاقتلاع الفلسطينيين، سواء عبر الموانئ أو بلدان بعيدة.
غير أن غياب توافق دولي على استقبال المهجرين يعيق تنفيذ الخطة، ويجعل التدمير أداة لإبقاء السكان في دوامة الجوع والنزوح الداخلي بانتظار فرصة لترحيلهم.
وفي هذا المشهد المأزوم، تُختزل المفاوضات إلى طرح إسرائيلي وحيد: وقف الحرب مقابل استسلام كامل لحماس ونزع سلاحها، وهو ما يعادل إلغاء وجودها السياسي والعسكري.
ومع رفض حركة المقاومة الإسلامية لهذه الشروط، يتضح -كما يرى مصطفى- أن نتنياهو لا يريد أي اتفاق شامل، لأن ذلك سيمنح الفلسطينيين فرصة لإعادة بناء ما تهدم، وهو ما يناقض جوهر الإستراتيجية الإسرائيلية الحالية.