أيام طويلة عاشها أهل السويداء هذا الأسبوع وسط اقتتال عنيف بين عشائر البدو والقوات الحكومية من جهة وفصائل درزية مسلحة أسفرت عن مقتل أكثر من 600 شخص ونزوح نحو 2000 عائلة "جراء أعمال العنف"، بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا).
وتستعد القوات الحكومية لإعادة انتشارها في مدينة السويداء مجدداً، وفقاً لما ذكره المتحدث باسم وزارة الداخلية السورية يوم الجمعة. وذلك بعد أن أعلنت انسحابها خارج المدينة فجر الخميس، عقب التوصل لاتفاق مع إسرائيل وقف إطلاق النار بوساطات دولية. وكان الجيش الإسرائيلي قد شن غارات بالطيران الحربي على مبنى قيادة الأركان السورية في دمشق ومحيط القصر الرئاسي وفي مدينتي درعا والسويداء، فيما قال إنه رفض لتدخل قوات الحكومة في السويداء ومطالبة بانسحابها فوراً.
وزادت الانقطاعات في الاتصالات وخدمات الانترنت من صعوبة التواصل مع السكان المحليين وتحديد ما يجري بدقة. لكن بمجرد وقف القتال يوم الخميس بدأ أهالي المدينة بمشاركة قصص الرعب التي عاشوها على مدار أكثر من 48 ساعة، بعضهم آثروا إخفاء هويتهم الحقيقية خوفاً على سلامتهم.
تسكن مها (اسم مستعار)، في منطقة قريبة من الجهة التي دخلت منها من وصفتهم بالقوات الحكومية، وتقول لـ "بي بي سي" إن القوات كانت تقصف من الخارج بقذائف الهاون والصواريخ، قبل أن يدخلوا المدينة "بشكل همجي ووحشي".
وتتابع مها، وهي طالبة جامعية درزية مقيمة في السويداء "سمعنا أصواتهم وهم داخلين، كانوا يصرخون بصوتٍ عالٍ رافعين الأسلحة، ويضربون الأبواب بعنف ويكسرونها." كانت مها مع أمها في المنزل، تصف لحظات الرعب أثناء دخول من قالت إنهم قوات تابعة لوزارتي الداخلية والدفاع الذين كانوا مقسمين على مجموعات، بحسب وصفها.
وتتابع "أول مجموعة دخلت لم تقتل أحداً، لكنهم سرقوا الهواتف والسيارات والمصاغ والنقود، كانوا يوجهون أسلحتهم باتجاهنا بينما يقومون بالتفتيش، ويسألون إن كان هناك شبان مسلحون."
لكنها تتابع أن مجموعة أخرى دخلت البناء المقابل في الحي الذي تسكن فيه، "وأطلقوا الرصاص على البيوت، أنزلوا الشباب وأعدموهم أمام منازلهم، مع صيحات الله أكبر. كان هناك ترهيب وتخويف للأهالي." تقول مها إنها شاهدتهم "يدخلون إلى منزل جيراننا، يفجرون قذائف هاون ببناء مجاور، كما قتلوا شاباً حاول الوقوف بوجههم، دون أن يتمكن أحد من الوصول إلى جثمانه ليوم ونصف." وتضيف "لم نشعر بأي لحظة أمان، كانوا يدخلون بهدف أخذ كل ما هو ثمين، وبهدف القتل."
وكانت الاشتباكات اندلعت الأحد في السويداء بين مسلحين دروز وآخرين من البدو السنّة، على خلفية عملية خطف طالت تاجر خضار درزياً وأعقبتها عمليات خطف متبادلة. ومع احتدام المواجهات، تدخّلت القوات الحكومية الاثنين بهدف "فضّ الاشتباكات" بحسب التصريحات الرسمية. لكن بحسب المرصد السوري لحقوق الانسان وشهود وفصائل درزية، تدخلت هذه القوات إلى جانب البدو، وتخللت الاشتباكات انتهاكات وعمليات إعدام ميدانية لـ83 مدنياً درزياً، بحسب المصدر ذاته.
كانت لبنى، الطالبة الجامعية من الطائفة الدرزية، في منزل عائلتها بالسويداء عندما دخلت فرقة، قالت إنها من الأمن العام، إلى الحي ورمت المنزل بالرصاص فتكسر زجاج الشبابيك والأبواب، على حد وصفها. تتابع أنها هربت مع عائلتها لبيت عمها، لكن شبان آخرين "دخلوا إلى بيت عمي، أطلقوا النار بين أقدام المتواجدين وهددوهم وضربوهم. فتشوا المنزل ولم يتركوا شيئاً دون أذى، أخذوا منا كل شيء، النقود والمصاغ والهواتف." وتتابع لبنى أن أولاد عمها كانوا يلبسون الزي الشعبي الدرزي، "حبسوهم بغرفة وضربوهم بشدة وحلقوا شواربهم ورموا الرصاص على الحيطان."
تصف لبنى تفاصيل تلك اللحظات الثقيلة، وتقول إن المعتدين "تعمدوا إهانة الرموز الدينية، أنزلوا علم الطائفة الدرزية من على الحائط، ومزقوا صور الشيوخ وداسوها بأقدامهم ومسحوا أحذيتهم بها." بعد ذلك "صوبوا الأسلحة علينا وهددونا ووصفونا بالخنازير وسرقوا سياراتنا، لا نستطيع الهروب إلى مكان آخر بدون سيارات، وليس معنا نقود، أو أي شيء."
وانتشرت فيديوهات عديدة على وسائل التواصل الاجتماعي تظهر مقاتلين صوروا أنفسهم بينما يقومون بانتهاكات فاضحة أثناء تواجدهم في السويداء بحق مدنيين و شيوخ متقدمين في العمر. وتخللت الفيديوهات مشاهد للاستهزاء من رموز دينية وحلق شوارب لشيوخ متقدمين بالعمر. ولم تتحقق بي بي سي من صحة هذه المقاطع المصورة، غير أنها تم تداولها بشكل كثيف.
وأدانت الرئاسة السورية في بيان الأربعاء الانتهاكات التي وقعت في محافظة السويداء في جنوب البلاد، متعهدة بمحاسبة مرتكبيها. وجاء في البيان "إن هذه الأفعال، التي تندرج ضمن السلوكيات الإجرامية وغير القانونية، لا يمكن قبولها تحت أي ظرف من الظروف، وتتنافى تماما مع المبادئ التي تقوم عليها الدولة السورية». وأضاف البيان أن الحكومة السورية تدين بشدة «هذه الأعمال المشينة»، وتؤكد التزامها التام بالتحقيق في جميع الحوادث المتعلقة بها ومحاسبة كل من ثبت تورطه فيها.
تبكي لبنى وهي تصف كيف قتلوا أولاد عمها، أحدهم "كان لديه بنية جسدية رياضية قاموا بتمزيق عضلاته وقطعوا أصابعه، بينما خلع أحدهم ملابسه وهدد باغتصاب ابنة عمي أمام أطفالها." تتابع لبنى أن الأمر لم ينته هنا، فبعد ذلك بوقت قصير جاءت فرقة ثانية إلى منزل عمها الآخر "قتلوا ابنه العشريني وسحلوه وهم يرددون: هذا خنزير درزي صغير قتلناه قبل أن يكبر." دفن عمها ابنه بحديقة جانب البيت، فيما فقدوا الاتصال بعمها الآخر وابنه المصاب بعد أن أخذوهما، على حد قولها.
"لا أستطيع وصف حالتنا النفسية،" تتابع لبنى بصوت مرتجف. "لم يدخلوا لأجل حمايتنا، أخذوا كل شيئ، حرقوا منازل ومحلات، شهدنا فظاعة غير منطقية."
حسب من تحدثنا إليهم، فإن العديد من تفاصيل الأحداث الأخيرة تُشبه إلى حد كبير الانتهاكات التي وُثقت بحق أبناء الطائفة العلوية خلال أحداث الساحل في مطلع شهر آذار/مارس. وفي حين تسعى الحكومة السورية الجديدة، التي شُكِّلت في 29 مارس/آذار 2025، إلى نزع سلاح الميليشيات الفصائلية وكسب ثقة مختلف الطوائف العرقية والدينية. إلا أن العديد من الأقليات - بما في ذلك الدروز- يشككون في نوايا الحكومة، رغم تعهداتها بحمايتها. وحتى الآن، ظلت محافظة السويداء الجنوبية خاضعة إلى حد كبير لسيطرة الفصائل الدرزية التي قاومت دعوات الانضمام إلى قوات الأمن.
وكان رئيس السلطة الانتقالية أحمد الشرع قد أعلن في كلمة مسجلة للسوريين، فجر الخميس، تكليف "فصائل محليّة" ورجال دين دروز "مسؤولية حفظ الأمن في السويداء"، موضحاً أن "هذا القرار نابع من إدراكنا العميق بخطورة الموقف على وحدتنا الوطنية وتجنّب انزلاق البلاد إلى حرب واسعة جديدة".
وتصف نور (اسم مستعار)، الشابة الدرزية المقيمة في ريف السويداء الوضع بـ"المأساوي" وتتابع "نحن نعيش تكراراً لما حصل في الساحل، ذات المجازر وذات الانتهاكات والتصرفات."
وتشير نور إلى أن عائلات عدة نزحت من مناطق الاقتتال إلى قريتها بعد أن فقدت بيوتها وأرزاقها وأوراقها الثبوتية، مع وجود "نقص حاد بالمستلزمات الأساسية والغذاء وحليب وحفاضات الأطفال." كما أن المنطقة تعاني من ضعف شديد بالاتصالات والانترنت وانقطاع للكهرباء والمياه.
كانت هاديا فيصل المقيمة في أوروبا منذ 15 سنة تعيش لحظات طويلة من القلق والتوتر إزاء ما يجري في مدينتها خاصة مع صعوبة التواصل مع عائلتها في كثير من الأحيان.
شاركتنا هاديا، التي تنتمي أيضاً للطائفة الدرزية، مشاهدات أهلها وأقاربها من السويداء التي دخلتها جماعات مسلحة تقول "إن بعضهم كان مظهرهم يوحي أنهم من مقاتلين تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والبعض الآخر غير معروفين، لكنهم جميعاً دخلوا تحت صفة الأمن العام،" على حد تعبيرها.
وتتابع هاديا أنهم بدؤوا منذ منتصف ليل الاثنين "بضرب قذائف هاون وأسلحة ثقيلة ومتوسطة، وفي الصباح دخلوا إلى المدينة وبدؤوا ينفذون إعدامات ميدانية وعمليات سرقة لبيوت المدنيين وسياراتهم." فقدت هاديا صديقتها منال، التي اختطفت مع زوجها وابنها، قبل أن يتم العثور عليهم مقتولين برصاص في الرأس في منطقة قريبة من مكان اختطافهم.
أما مايا (اسم مستعار) من مدينة شهبا، فقالت إن زوجة أخيها وأطفالها كانوا في زيارة لأهلها في السويداء عند حصول الهجوم. وأمضت الليلتين الماضيتين مختبئة بغرفة في منزل بعد أن دخلت من تقول أنهم قوات حكومية إلى بيت عم الزوجة، وهناك "أخذوا كامل العائلة مع حفيدتهم الصغيرة وصادروا هواتف الجميع، ولا يزال مصيرهم مجهولاً."
توضح مايا أن انقطاع الكهرباء والإنترنت والاتصالات الأرضية جعل التواصل في غاية الصعوبة، مشيرةً إلى أن معظم ما نُقل عبر القنوات الإعلامية السورية عن الوضع الميداني كان غير دقيق. وتضيف أنه "بعد انسحاب القوات الحكومية بدأ أهل المنطقة بتنظيف الشوارع والتعرف على الجثث، وتفقد الشهداء."
وكانت السلطات السورية سحبت قواتها العسكرية من مدينة السويداء وكافة أنحاء المحافظة مساء أمس، وفق ما أفاد المرصد السوري لحقوق الانسان وشهود عيان لوكالة الأنباء الفرنسيّة.
وأفاد رئيس تحرير شبكة (السويداء 24) ريان معروف، بُعيد جولة في مدينة السويداء، بأنها "بدت خالية من القوات الحكومية، لكن الوضع كارثي مع وجود جثث في الشوارع".