كيف نقيس البؤس؟ بالنسبة للصحفيين، الطريقة المعتادة هي رؤيته، الشعور به، وشم رائحته.
يفعل ذلك زملاؤنا الصحفيون الفلسطينيون المحاصرون في غزة، الذين لا يزالون يقدمون تقارير إخبارية قيّمة، معرضين أنفسهم لخطر كبير. في حين قُتل أكثر من 200 منهم أثناء تأدية عملهم.
ولا تسمح إسرائيل للصحفيين الدوليين بدخول غزة.
وفي ظل حرماننا من فرصة تواجدنا لنقل الخبر مباشرة من الميدان، - كإحدى أفضل أدوات العمل -، فيبقى أمامنا دراسة تقييمات منظمات الإغاثة العاملة في غزة عن بُعد.
وصرح نائب مدير العمليات في اللجنة الدولية للصليب الأحمر، باسكال هوندت، الأسبوع الماضي بأن المدنيين في غزة يواجهون "صراعاً يومياً شاقا للبقاء على قيد الحياة في مواجهة مخاطر الأعمال العدائية، والتعامل مع النزوح المستمر، وتحمل عواقب حرمانهم من المساعدات الإنسانية العاجلة".
وأضاف "لا يجب - ولا يمكن - السماح بتصعيد هذا الوضع أكثر من ذلك". لكن قد يحدث ذلك في حال واصلت إسرائيل انزلاقها إلى حرب أعمق، بعد أن استأنفت عملياتها في 18 مارس/ آذار خارقة وقف إطلاق النار، الذي استمر شهرين، بسلسلة غارات جوية مكثفة.
يشار إلى أن إسرائيل كانت قد أغلقت بالفعل أبواب غزة. ومنذ بداية مارس/ آذار، منعت جميع شحنات المساعدات الإنسانية، بما في ذلك المواد الغذائية والإمدادات الطبية.
في حين قضت العودة إلى الحرب على أي فرصة للانتقال إلى المرحلة الثانية المقترحة من وقف إطلاق النار، التي اتفقت إسرائيل وحماس على أن تنتهي بإطلاق سراح جميع الرهائن المتبقين مقابل انسحاب إسرائيلي كامل من غزة.
كان ذلك غير مقبول لرئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، والمتطرفين الدينيين القوميين المتشددين الذين يبقونه على رأس السلطة، الذين يريدون استبدال فلسطينيي غزة بالمستوطنين اليهود. كما هددوا بإسقاط حكومة نتنياهو إذا لم يعد إلى الحرب.
بينما يعني انتهاء مسيرة نتنياهو السياسية، جلب يوم الحساب لدوره في فشل إسرائيل في منع هجمات حماس القاتلة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023. وقد يجلب ذلك له أيضاً صدور حكم في المحاكمة القضائية الطويلة الموجهة ضده بتهم فساد.
يُعِدّ نتنياهو حالياً لشن هجوم "مكثف" جديد على غزة في الأيام التي تلي انتهاء جولة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في منطقة ممالك النفط العربية الثرية في الخليج في وقت لاحق من هذا الأسبوع.
ويتضمن الهجوم خطة لتهجير أعداد هائلة من المدنيين الفلسطينيين، بالإضافة إلى موجات من القصف المدفعي والغارات الجوية والموت. "التهجير" فعل ينم عن البرود. لأنه يعني أن العائلات ليس لديها سوى بضع دقائق للفرار والنجاة، من منطقة قد تُقصف فوراً إلى أخرى قد تُقصف لاحقاً. فعل مئات الآلاف ذلك مراراً وتكراراً منذ بدء الحرب.
كانت غزة من أكثر الأماكن اكتظاظاً بالسكان على وجه الأرض قبل الحرب ولا تزال. وتتمثل خطة إسرائيل في إجبار أكبر عدد ممكن من سكان غزة على التواجد في منطقة صغيرة جنوب القطاع، بالقرب من أنقاض مدينة رفح، التي دُمرت بالكامل تقريباً.
قبل حدوث ذلك، كان مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية يقدر أن 70 في المئة من غزة أصبح فعلياً محظوراً على الفلسطينيين. أما خطة إسرائيل فتتمثل في تركهم في منطقة أصغر. وترفض الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الكبرى المزاعم الإسرائيلية بأن حماس تسرق وتسيطر على الغذاء الذي يدخل غزة. كما رفضوا التعاون مع خطة اقترحتها إسرائيل والولايات المتحدة، باستخدام شركات أمن خاصة، تحميها قوات إسرائيلية، لتوزيع الحصص الغذائية الأساسية.
وبعيداً عن غزة، وفي لندن، تحدثتُ مع فيليب لازاريني، المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). أخبرني أنه لا يجد الكلمات الكافية "لوصف البؤس والمأساة التي يعاني منها سكان غزة. إذ مرّ أكثر من شهرين دون دخول أي مساعدات".
ينتشر الجوع، والناس منهكون، وجائعون... يمكننا أن نتوقع أنه إذا لم تصل أي مساعدات، في الأسابيع المقبلة، لن يموت الناس بسبب القصف، بل سيموتون بسبب نقص الغذاء. هذا هو تسليح المساعدات الإنسانية.
وإذا لم تكن الكلمات كافية، فانظر إلى التقييم الأكثر موثوقية والمستند إلى البيانات للمجاعة وحالات الطوارئ الغذائية في التقارير الدورية الصادرة عن التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC). وهو مشروع مشترك بين وكالات الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة والحكومات لقياس ما إذا كانت هناك مجاعة تحدث.
يشير آخر تحديث للتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي إلى أن غزة على وشك المجاعة. كما أن جميع السكان، أي أكثر من مليوني شخص، ونصفهم تقريباً من الأطفال، يعانون من انعدام أمن غذائي حاد. وبمعنى آخر، هذا يدل أنهم يتضورون جوعاً بسبب الحصار الإسرائيلي.
ويقول التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي إن 470 ألف غزّي، أي 22 في المئة من السكان، يندرجون ضمن تصنيف يُعرف بـ "المرحلة الخامسة - الكارثة". ويُعرّفها التصنيف بأنها حالة "تعاني فيها أسرة واحدة على الأقل من كل خمس أسر من نقص حاد في الغذاء وتواجه المجاعة، ما يؤدي إلى العوز، ومستويات حرجة للغاية من سوء التغذية الحاد، والوفاة".
ومن الناحية العملية، يُقدّر تصنيف المرحلة الخامسة، الأكثر حدة، التي يستخدمها التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، أن "71 ألف طفل وأكثر من 17 ألف أم سيحتاجون إلى علاج عاجل لسوء التغذية الحاد".
ويشار إلى أن آلاف الأطنان من الغذاء والمساعدات الطبية والإمدادات الإنسانية التي يحتاجونها موجودة على بُعد أميال قليلة فقط، على الجانب الآخر من الحدود المصرية.
وسألت السيد لازاريني أيضاً، -خلال اللقاء به في لندن-، عما إذا كان يتفق مع من اتهموا إسرائيل بحرمان المدنيين من الغذاء والمساعدات الإنسانية كسلاح حرب؟
ًفقال "لا أشك إطلاقا في أن هذا ما شهدناه خلال الأشهر التسعة عشر الماضية، وخاصة خلال الشهرين الماضيين. إنها جريمة حرب. التوصيف الدقيق سيكون عبر محكمة العدل الدولية، وليس من خلالي، لكن ما أستطيع قوله، وما نراه ونلاحظه، هو أن المساعدات الغذائية والإنسانية تُستخدم بالفعل لتحقيق هدف سياسي أو عسكري في غزة".
وعندما سألتُه عما إذا كان الحصار، بالإضافة إلى عام ونصف من الحرب والدمار، يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية. وهو الاتهام الذي وجهته جنوب أفريقيا ودول أخرى إلى إسرائيل في محكمة العدل الدولية في لاهاي.
أجاب "اسمع، بكل المقاييس، الدمار هائل. عدد القتلى هائل، وبالتأكيد أكثر مما قُدّر. كما شهدنا أيضاً تدميراً ممنهجاً لمدرسة ومركز صحي. الناس في حالة فوضى دائمة داخل غزة، يتحركون باستمرار. لذا، لا شك أننا نتحدث عن فظائع واسعة النطاق. إبادة جماعية؟ قد ينتهي الأمر بإبادة جماعية. هناك العديد من المؤشرات التي قد تدفع بهذا الاتجاه".
في المقابل لم يُخفِ وزير الدفاع الإسرائيلي، إسرائيل كاتس، تكتيكات إسرائيل. إذ صرح الشهر الماضي، بأن الحصار "أداة ضغط رئيسية" لضمان النصر على حماس وإطلاق سراح جميع الرهائن. ووافقه الرأي وزير الأمن القومي، إيتامار بن غفير. وكتب "إن وقف المساعدات الإنسانية هو أحد أدوات الضغط الرئيسية على حماس. إن إعادة المساعدات إلى غزة قبل أن تركع حماس وتطلق سراح جميع رهائننا سيكون خطأ تاريخياً".
وأثارت خطط نتنياهو لشن هجوم جديد، وتصريحات كل من كاتس وبن غفير وآخرين، رعب العائلات الإسرائيلية التي لا يزال أفراد منها رهائن داخل غزة. وقال منتدى الرهائن والمفقودين، الذي يمثل العديد منهم، إن الوزير كاتس يُروج لـ"وهم أن إسرائيل تختار الاستيلاء على الأراضي قبل الرهائن".
كما احتج جنود الاحتياط الإسرائيليون المنشقون، قائلين إنهم يُجبَرون على القتال مجدداً ليس من أجل أمن إسرائيل، بل من أجل البقاء السياسي للحكومة الإسرائيلية. وفي احتياطي سلاح الجو، وقّع 1200 طيار على رسالة مفتوحة قالوا فيها إن إطالة أمد الحرب تخدم بالأساس "مصالح سياسية وشخصية، لا مصالح أمنية". وألقى نتنياهو باللوم على مجموعة صغيرة من "العناصر الفاسدة" في كتابة هذه الرسالة المفتوحة.
ولشهور عديدة، اتهم نتنياهو وحكومته السيد لازاريني بالكذب. وعنونت أحد التقارير الرسمية الإسرائيلية المنشورة على الإنترنت في يناير/ كانون الثاني من هذا العام بعنوان "تفكيك أكاذيب رئيس أونروا لازاريني". وزعم التقرير أنه "أدلى بتصريحات كاذبة باستمرار، مما أضرّ بالنقاش العام حول هذه القضية بشكل كبير". وتقول إسرائيل إن حماس اخترقت أونروا واستغلتها بدرجة غير مسبوقة. وتضيف أن بعض موظفي أونروا شاركوا في هجمات 7 أكتوبر/ تشرين الأول.
وينفي لازاريني الاتهامات الشخصية الموجهة إليه من إسرائيل، والاتهامات الأوسع نطاقاً الموجهة لأونروا. ويقول إن أونروا حققت مع 19 موظفاً ذكرتهم إسرائيل، وخلصت إلى أن تسعة منهم قد يكون لديهم قضية للرد عليها. كما تم إيقاف جميع الموظفين التسعة عشر عن العمل. وقال لازاريني إن أونروا تلقت منذ ذلك الحين "مئات الادعاءات من دولة إسرائيل. وفي كل مرة، وبصفتنا منظمة قائمة على قواعد، نواصل طلب معلومات موثقة". ونفى تلقيهم أي معلومات من إسرائيل من هذا القبيل.
جميع الحروب سياسية، ولا سيما تلك التي بين إسرائيل والفلسطينيين. فالحرب تُشرك وتُثير غضب العالم الخارجي، وكذلك الأطراف المتحاربة.
وتُجادل إسرائيل بأن الدفاع عن النفس يُبرر أفعالها منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، عندما هاجمت حركتا حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما إسرائيل، وأسفر الهجوم غير المسبوق عن مقتل نحو 1200 شخص، معظمهم من المدنيين الإسرائيليين، واحتجاز 251 آخرين رهائن. وتقول إن أي حكومة أخرى كانت ستفعل الشيء نفسه.
في المقابل يقول الفلسطينيون، ومجموعة من الدول التي تشعر بقلق وغضب متزايدين، بما في ذلك بعض حلفاء إسرائيل الأوروبيين الرئيسيين، إن هذا لا يُبرر استمرار الهجوم الأكثر تدميراً على الفلسطينيين منذ حرب عام 1948، حين "نالت إسرائيل استقلالها"، والذي يُطلق عليه الفلسطينيون اسم "النكبة".
حتى الرئيس ترامب يُظهر بوادر نأي بنفسه عن بنيامين نتنياهو، مُصرّحاW بضرورة إطعام سكان غزة.
وأثار الادعاء بأن حرمان المدنيين في غزة بشكل كامل من الطعام يعد دليلاً إضافياً على إبادة جماعية إسرائيلية ضد الفلسطينيين غضب بنيامين نتنياهو وحكومته والعديد من المواطنين الإسرائيليين. وولّد هذا الأمر وحدة سياسية نادرة في إسرائيل. إذ أدان زعيم المعارضة، يائير لابيد، وهو عادة منتقد لاذع لنتنياهو، "الانهيار الأخلاقي والكارثة الأخلاقية" في محكمة العدل الدولية.
وتُعرّف الإبادة الجماعية بأنها تدمير جماعة قومية أو عرقية أو دينية، كلياً أو جزئياً. وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية، وهي هيئة مستقلة، مذكرات توقيف بحق نتنياهو ووزير دفاعه السابق بتهم جرائم حرب، وهي تهم يرفضانها. وقُتل قادة حماس الثلاثة الذين صدرت بحقهم مذكرات توقيف من المحكمة الجنائية الدولية على يد إسرائيل.
وليس من السابق لأوانه التفكير في الأثر طويل المدى لهذه الحرب المدمرة، على الرغم من أن نهايتها لا تلوح في الأفق. وأخبرني السيد لازاريني أننا "في السنوات القادمة سندرك كم كنا مخطئين. وبأننا كنا على الجانب الخطأ من التاريخ. لقد سمحنا، تحت أنظارنا، بوقوع فظاعة هائلة".
وبحسب قوله بدأ الأمر بهجمات حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/ تشرين الأول "أكبر عملية قتل لإسرائيليين ويهود في المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية"، أعقبها رد عسكري "ضخم" من إسرائيل.
وقال أيضاً إن الأمر كان "غير متناسب، وكاد أن يؤدي إلى إبادة شعب بأكمله في وطنه. أعتقد أن هناك مسؤولية جماعية من المجتمع الدولي، بالنظر إلى مستوى السلبية، واللامبالاة التي بُذلت حتى الآن، وغياب العمل السياسي والدبلوماسي والاقتصادي. أعني، أنه أمر فظيع للغاية، خاصة في بلداننا التي قلنا فيها "لن يتكرر ذلك أبداً".
قد تكون أمامنا محاولة لتحقيق الخيال الخطير لدونالد ترامب بأن تكون غزة بمثابة دبي البحر الأبيض المتوسط، ويُعاد إعمارها لتمتلكها أمريكا خالية من الفلسطينيين. وهو الأمر الذي جسّد أحلاماً طالما تمناها المتطرفون الإسرائيليون الذين يهددون بتهجير الفلسطينيين من الأرض الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط.
ومهما كان ما ينتظرنا، فلن يكون ذلك هو السلام.