لطالما شكّلت المعادن الثمينة، وعلى رأسها الذهب والفضة، عبر التاريخ، موردًا إستراتيجيًا رئيسيًا وأداة فاعلة في تعزيز سيادة الدول ونفوذها على الصعيدين السياسي والاقتصادي. فقد لعبت هذه المعادن دورًا أساسيًا في بناء الحضارات وتطوير النظم التجارية، فضلا عن استخدامها كمؤشرات للتحكم في ميزان القوى العالمية.
ولم تقتصر أهميّتها على الجانب الاقتصادي فحسب، بل كانت أيضًا ركيزة للسيطرة والهيمنة الإقليمية، وسببًا مباشرًا في اندلاع الحروب والصراعات، خصوصًا في المناطق الغنية بالثروات المعدنية.
وشكّلت الدول الأفريقية مثالا بارزا على ذلك، إذ استغلها الاستعمار عقودا طويلة، فنهب مواردها وسلب شعوبها، مما أثّر على مسارات تطوّرها إلى يومنا هذا.
في ظل تصاعد التوترات الدولية في مناطق عدة من العالم، لم تعد المعادن الثمينة مجرد مخازن للقيمة أو خامات اقتصادية أو أدوات استثمارية فحسب، بل تحوّلت إلى ضمانات أمنية حيوية تعزّز من استقرار الدول المالي والسيادي، وتمنحها نفوذًا واسعًا في المشهد الجيوسياسي الراهن.
وتطرح هذه التحولات تساؤلات محورية: هل مهّدت المعادن الثمينة الطريق لظهور قوى عظمى جديدة؟ وكيف تعتمد الدول الكبرى على احتياطيات الذهب ومختلف المعادن في تأمين مصالحها الاقتصادية والسياسية في ظل تعدد الأزمات وتذبذب قيمة العملات؟
أصدر موقع "قيراط تريد" قائمة بأبرز 5 دول تمتلك احتياطيات من الذهب في العالم، بلغ مجموعها نحو 20 ألف طن متري من الذهب.
كما نشر موقع الشركة السويسرية الهندية لصناعة سبائك الذهب بتاريخ 26 أغسطس/آب 2025 تقريرًا يشمل قائمة أبرز 10 دول تمتلك احتياطيات من الذهب حول العالم.
وجاء الترتيب كالتالي:
أما على الصعيد العربي فجاء الترتيب كالتالي:
مع التحول العالمي نحو الطاقة المتجددة والصناعات الكهربائية، تتزايد أهمية المعادن النادرة مثل النيكل والكوبالت والليثيوم، المنتشرة في مناطق من أفريقيا وآسيا، باعتبارها عناصر أساسية لتأمين سلاسل الإمداد وتقليل الاعتماد على المصادر التقليدية للطاقة.
ووفقًا لما نشره موقع "أور غولد رو" الروسي، تتصدر قائمة المعادن النادرة عالميًا 8 عناصر رئيسية:
ويرى خبراء الاقتصاد أن المعادن الثمينة أصبحت تمثّل ملاذًا إستراتيجيًا آمنًا للدول الساعية إلى تعزيز استقرارها المالي والسيادي، لا سيما في ظل تقلبات الأسواق العالمية وتراجع قيمة العملات. وتتجاوز أهمية هذه المعادن كونها مجرد أصول مالية لتصبح أعمدة لحماية الاحتياطيات الوطنية.
ويقول الخبير الاقتصادي الدولي فارس هبّاش لموقع "الجزيرة نت": "من المؤكد أن تُعامل الدول، وخاصة القوى الكبرى، المعادن الثمينة كأصول للأمن القومي على المدى القريب والبعيد، ولكن بأدوار مختلفة. فمنذ عام 2022 تتجه البنوك المركزية، وعلى رأسها الصين وبولندا وتركيا، إلى شراء الذهب الصافي بأحجام تاريخية، مدفوعة بأخطار تجميد الأصول الدولارية.
ويضيف "في ظل الحرب الأوكرانية الروسية ورغبة تنويع الاحتياطات بعيدًا عن الدولار، يبقى الذهب ملاذًا سياديًا يعدّل ميزان المخاطر ويعزز الثقة المحلية بالعملة".
ويتابع الخبير أن "المعادن الحرجة تُستخدم أيضًا كأداة قوة جيوسياسية. فالصين، على سبيل المثال، تفرض قيودًا على تصدير الغاليوم والجرمانيوم والغرافيت منذ عام 2023، وشدّدت في عام 2025 القيود على العناصر النادرة كورقة ضغط في التكنولوجيا والدفاع".
ويوضح أن "القوى الكبرى تعوّل على المعادن كضمانات أمنية مالية، إذ تخفف هذه السياسات من صدمة العقوبات والمصادرة. فالدول التي تحتفظ بالذهب داخل حدودها أقل عرضة لمخاطر التجميد الخارجي، ولهذا نشهد اليوم إعادة توطين احتياطيات الذهب. كما يقلل ذلك من خطر توقف الصناعات الحيوية مثل الأسلحة والطاقة النظيفة".
ويختم قائلا: "على المدى البعيد، سيؤدي التحول الطاقي إلى مضاعفة الطلب على معادن الطاقات النظيفة حتى عام 2030 وما بعدها، غير أن تطوير منجم جديد يستغرق في المتوسط نحو 15.5 سنة، وهي فجوة زمنية كبيرة تبرر سياسات التخزين والاستباق اليوم".
لا يمكن إنكار أن الحرب الأوكرانية والعقوبات المفروضة على روسيا منذ أكثر من 3 سنوات، إلى جانب الحرب الاقتصادية والتجارية بين الولايات المتحدة والصين، أسهمت في الارتفاع القياسي لأسعار الذهب والفضة والمعادن الثمينة الأخرى.
وفي أبريل/نيسان 2025، فرضت الصين قيودًا على تصدير 7 عناصر أرضية نادرة ومنتجاتها ذات الصلة، تتطلب الحصول على تراخيص مسبقة، في خطوة اعتبرها محللون سياسةإستراتيجية وورقة ضغط بيد بكين لتعزيز سيطرتها على سلاسل التوريد العالمية، مما أثّر في الصناعات المعتمدة على هذه المعادن في مجالات التقنية والدفاع والطاقة النظيفة والبنية التحتية الرقمية.
وأكد البروفيسور هبّاش أن "المعادن الثمينة والحرجة تحولت خلال السنتين الأخيرتين من مجرد مدخلات صناعية إلى أدوات قوة جيواقتصادية تعيد توجيه سياسات الدول في مجالي السيطرة والأمن، عبر سياسات وإجراءات عملية واضحة".
ويقول: "الصين شددت قيودها على صادرات المعادن الإستراتيجية، ووسعت نطاقها لتشمل العناصر الأرضية النادرة ومعدات معالجتها، مما جعل الوصول إلى هذه المدخلات الحساسة مرتبطًا بحسابات الأمن القومي، وانعكس مباشرة على التدفقات التجارية والأسعار".
تواجه الدول اليوم تحديات متزايدة في إدارة مواردها الطبيعية ضمن إطار التنمية المستدامة، وسط تضارب المصالح بين تحقيق النمو الاقتصادي وحماية البيئة وحقوق الإنسان.
وفي ظل هذه التحولات الجيوسياسية، تتخذ الدول من احتياطيات المعادن الثمينة كالذهب والفضة والبلاتين خطوط دفاع إستراتيجية لضمان أمنها الاقتصادي واستقرارها النقدي.
ويشير الخبير الاقتصادي هباش إلى أن من أبرز التحديات في هذا المجال مخاطر الحجز والتجميد والوصاية القانونية على المعادن والممتلكات. فامتلاك الذهب في مراكز غربية قد يعرّضه لاحقًا للتجميد أو لاستخدام عوائده لأغراض سياسية، كما حدث في تجميد أصول روسيا البالغة نحو 300 مليار دولار، وهو ما يدفع نحو إعادة توطين الذهب محليًا لتقليل المخاطر القانونية.
ويضيف أن "هناك تحديات تتعلق بتدفقات الذهب غير المعلنة، وملفات التهريب، وضرورة التزام البنوك المركزية بمعايير التتبع الرقمية، إضافة إلى مشكلة الذهب المزوّر وسلامة الأصل نفسه، فضلا عن القيود التي قد تواجهها السيولة في أوقات الأزمات".