وسط تحديات سياسية وأمنية ضاغطة، تحتاج الخطة التي رسمتها الحكومة السورية الجديدة للاقتصاد إلى موارد واستثمارات تقدر قيمتها الأولية، وفق حسابات المدير الإقليمي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي عبد الله الدردري، بنحو 36 مليار دولار.
فقد خلّف الصراع الذي امتد نحو 14 عاما أضرارا بالغة شملت معظم قطاعات الإنتاج، كما أخرج موارد مهمة من سلطة الدولة، كان من المفترض أن يدعم مردودها قطار التعافي الراهن، ويقلص زمن وصوله إلى التنمية المستدامة كمحطة أخيرة.
"تعرض كل شيء للدمار"، هكذا يختصر وزير الاقتصاد والصناعة السوري نضال الشعار المشهد عن قرب. وفي السياق أيضا، تسجل لائحة الخسائر انكماش إجمالي الناتج المحلي بشكل تراكمي إلى أكثر من 50%، وانخفاض نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي في عام 2024 إلى 830 دولارا (وهو أقل بكثير من الحد الدولي للبلدان المنخفضة الدخل) وفق تصنيف البنك الدولي .
لكن في المقابل، يرجح خبراء في الاقتصاد أن تؤدي الإجراءات الإصلاحية التي باشرت بها الحكومة منذ الإطاحة بنظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول العام الماضي، وشملت سياسات الاقتصاد الكلي والمالية العامة، والسياسات النقدية، مع تركيزها على الحوكمة الرشيدة للمال العام وسلامة الإدارة المالية والإدارة النقدية، إلى تعزيز خطوات التعافي، والتأسيس لاقتصاد منفتح يرسم خارطة جديدة للنمو والمساواة والرخاء.
ويتوقع البنك الدولي بهذا الصدد أن يتخلص الاقتصاد السوري من انكماشه، ويستعيد تطوره الإيجابي هذا العام، حيث تعكس المؤشرات إمكانية نمو إجمالي الناتج المحلي بنسبة 1% بعد انكماشه بنسبة 1.5% في عام 2024.
وكان وزير المالية السوري محمد يسر برنية قد أعرب عن تفاؤله "بأن اقتصاد البلاد سيحقق قريبا نموا أعلى وسيستأنف مسار التنمية المستدامة " رغم التحديات الهائلة التي تواجهها سوريا على مختلف الصعد.
ولفت في تصريحات صحفية إلى أن الحكومة تعمل على إعادة تأهيل البنية التحتية، بدءا من شبكات الكهرباء والمياه، وصولا إلى الطرق والمؤسسات العامة، بالتوازي مع إصلاح النظام القضائي وتحديث الإطار التشريعي للاستثمار.
خلال فترة الصراع التي استمرت 14 عاما، شهدت القطاعات الإنتاجية والخدمية تدهورا أدى إلى تحولات عميقة في حياة السوريين، كان أكثرها تأثيرا تراجع نمط الحياة، حيث هبط مؤشر التنمية البشرية -الذي يقيس التنمية بناء على الصحة والتعليم ومستوى الدخل- بحسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، من 0.661 عام 2010 إلى 0.557 حاليا.
وبينما يعيش ربع السكان في فقر مدقع، وفق بيانات مسح برنامج تقييم الاحتياجات الإنسانية للأسر عام 2022، يستهلك 24% أيضا (5.7 ملايين فرد) أقل من خط الفقر الدولي للبلدان المنخفضة الدخل البالغ 2.15 دولارا للفرد يوميا، كما يعيش 67% تحت خط الفقر للشريحة الدنيا للدخل المتوسط البالغ 3.65 دولارات للفرد يوميا.
وكشف تحليل الإضاءة الليلية، لصور أقمار اصطناعية التقطها مشروع بلاك ماربل التابع للإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء الأميركية لأجزاء من سوريا، تراجع النشاط الاقتصادي إلى سلبي للغاية، وانكماشه في جميع المحافظات، بعد أن ضعفت الحركة المتبادلة بنسبة 83% بين عامي 2010 و2024 وهو الأمر الذي أدى إلى خلل في الروابط الاقتصادية بين المدن، وتسبب بصدمات مؤثرة.
ينظر الخبير الاقتصادي أحمد سيريس إلى التركة التي خلفها نظام الأسد على أنها تحدّ حقيقي تفوق مواجهته إمكانات الحكومة الراهنة. ويرى أن رغبة الحكومة في عدم الاقتراض من المؤسسات الدولية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، للتغلب على ما يواجهها من مصاعب مالية دفعها إلى التركيز على الموارد الرئيسية، والاستثمارات الخارجية.
غير أن وجود قسم مهم من هذه الموارد تحت سيطرة قوى مناهضة للحكم الجديد، وتهالك قطاع التعدين، بحسب حديث سيريس للجزيرة نت، أفقد البلاد إيرادات كان من الممكن لها لو استثمرت إلى جانب استثمارات وطنية وأجنبية أخرى، كالتي جرى الإعلان عنها خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، أن تضيف إلى خزينة الدولة موارد تساعد الحكومة على تغطية جانب من فاتورة التعافي.
تشكل الموارد الطبيعية والزراعية، برأي الخبير الاقتصادي والمصرفي الدكتور إبراهيم نافع قوشجي، مصدرا مهما على صعيد الدخل الوطني. ويرى أن سوريا تمتلك موارد يمكن أن تشكل قاعدة للنهوض الاقتصادي إذا أُعيد استثمارها بشكل فعال.
لكن استثمارها على النحو الأمثل -وفق رأيه- يواجه مصاعب عديدة، منها:
أما بخصوص الموارد الزراعية، يضيف الباحث، فقد انخفض إسهام القطاع الزراعي الذي يشمل إنتاجه "القمح، والقطن، والذرة، والزيتون، والحمضيات" في الناتج المحلي الإجمالي من 28% عام 2010 إلى 10% في الوقت الراهن، نتيجة الجفاف ونقص التمويل ودمار البنية التحتية.
ويؤكد قوشجي أن الكميات المتاحة من الموارد الاقتصادية، رغم تنوعها ووفرتها النسبية، لا تكفي لتلبية الاحتياجات الوطنية الأساسية. فعلى سبيل المثال، يبلغ إجمالي إنتاج النفط السوري يوميا قرابة 65-70 ألف برميل، في حين يُقدّر الاحتياج الوطني بنحو 90 ألف برميل يوميا، وذلك يعني وجود فجوة تراوح بين 20-30 ألف برميل يوميا.
أما قطاع الغاز، فلا يغطي الإنتاج فيه سوى أقل من ثلث الاحتياج المحلي السنوي المقدر بنحو 5 مليارات متر مكعب، مما يشكل ضغطا مستمرا على قطاع الطاقة يمس استقرار أغلب الخدمات الحيوية.
ولفت قوشجي إلى وجود محدودية واضحة في العوائد الحالية من الفوسفات والموارد الزراعية تعود ليس فقط إلى ضعف الإنتاج، بل أيضا إلى محدودية الاستثمار، وخروج مساحات واسعة من الموارد عن السيطرة الحكومية، إضافة إلى تدهور البنية التحتية الصناعية والزراعية.
تقف قطر و السعودية وتركيا في مقدمة الدول التي دعمت الاقتصاد السوري في مرحلة ما بعد الأسد، إذ قدمت مساعدات واستثمارات ضخمة في قطاعات حيوية، كقطاعات الطاقة، والبنية التحتية، والاتصالات، والخدمات الرقمية، والمواصلات.
وتقدر مصادر صحفية محلية حجم الاستثمارات والمساعدات العربية والدولية بنحو 30 مليار دولار، أبرزها:
ويذهب الخبير الاقتصادي سيريس إلى أن الزخم الذي يشهده قطاع الاستثمار الأجنبي، بحسب المعطيات الحالية، تجاوز الفجوة التي أحدثها الصراع على صعيد الاستثمار الأجنبي، بتراجع نسبته في الناتج المحلي الإجمالي من 2.8% في عام 2008 إلى نقطة الصفر خلال عامي 2022 و2023. وأكد ضرورة أن يشهد السوريون نتائج ملموسة على الأرض، تعزز خطط الحكومة للتعافي، وتنهض بواقع الحياة العامة.
يعتمد الإنفاق الحكومي في مجمله على الوعاء الضريبي. وعلى الرغم من انخفاض الإيرادات غير الضريبية، التي كانت تشكل غالبية إيرادات المالية العامة، في مرحلة ما قبل الحرب، فإن موازنة عام 2025 سجلت تحسنا بطيئا في إجمالي الإيرادات (ضرائب، ورسوم، وصادرات) إذ بلغ حجمها نحو 52.6 تريليون ليرة سورية (4 مليارات دولار).
أما سجل الإنفاق فسجل نحو 37 تريليون ليرة سورية (2.8 مليار دولار). وتغطي الإيرادات الضريبية (بما فيها الضرائب المباشرة وغير المباشرة والرسوم) نحو 79% من الإنفاق الحكومي، مما يعني أن إجمالي الإيرادات الضريبية يقدر بنحو 29,2 تريليون ليرة (2.2 مليار دولار تقريبا).
وتعكف الحكومة على إعداد ميزانية تكميلية للعام المالي الجاري إلى جانب موازنة جديدة لعام 2026. تركز فيهما -بحسب تصريح وزير المالية محمد يسر برنية على هامش مشاركته في اجتماعات مجموعة البنك الإسلامي للتنمية التي انعقدت في الجزائر في مايو/أيار الماضي- على تعزيز الخدمات الأساسية.
ورغم عدم إفصاحه عن الأرقام المحددة للموازنة المرتقبة بسبب "عدم توافر البيانات بشكل نهائي" على حد قوله، فإن المؤشرات تظهر توجها جديدا نحو إعادة ترتيب أولويات الإنفاق الحكومي بما يواكب متطلبات الإصلاح، واعتماد الإيرادات الضريبية، كمورد ثابت خلال المرحلة المقبلة.