في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
تلجأ شريحة كبيرة من الشباب في سوريا إلى العمل من بُعد أو فيما يسمى بـ"اقتصاد التعهيد"، وذلك لأسباب عديدة تتصدرها مرونة هذا النوع من الأعمال وإمكانية تقاضي دخل أعلى مقارنة بالوظائف.
يعد اقتصاد التعهيد بديلا ناجعا للوظائف بشكل عام والحكومية، التي أضحت منذ مدة طويلة عاجزة عن تلبية أدنى المتطلبات الحياتية للموظف، نظرا للرواتب الضعيفة جدا مقارنة بالإيجارات المرتفعة والأسعار الباهظة وانخفاض قيمة الليرة أمام العملات الأخرى، فضلا عن القيود التي تفرضها على المستفيد مما يعيق مساعيه لتطوير دخله الشهري.
يُعرف اقتصاد التعهيد (outsourcing) بشكل عام بكونه نموذجا اقتصاديا يعتمد على التعاقد مع أطراف خارجية سواء شركات أو أفراد لتنفيذ مهام أو عمليات قد تقوم بها الشركات داخليا بهدف خفض التكلفة وزيادة الكفاءة والتركيز على الأنشطة الأساسية.
وفي سوريا، تمثل منصات العمل الحر مثل "خمسات" و"مستقل" "سيريان لانسر" إضافة إلى منصات عالمية مثل "فيفر" و"أب وورك" الوجهة الأولى للكثير من الشباب الساعين للعمل الحر.
وتبدأ فرص العمل التي تقدمها هذه المنصات من البرمجة وتكنولوجيا المعلومات إلى التصميم وصناعة المحتوى والتحرير، وصولا إلى الترجمة والتسويق الرقمي وخدمة العملاء والمساعد الافتراضي وحتى التدريس عبر الإنترنت.
ويوجد -إضافة إلى هذه المنصات- بعض المجموعات على صفحات التواصل الاجتماعي ك الفيسبوك لربط الشباب بفرص العمل وتقديم النصائح، بالتوازي مع قيام عدد قليل من الشركات الخارجية باستئجار الكفاءات عن طريق عقود محددة المدة والعائد المادي.
بسؤال العديد من الشباب من الفئات العمرية التي تتراوح بين 20 و40 عاما، تبيّن الميل الواضح للعمل الحر واستبعاد فكرة الوظائف الحكومية على الرغم من الزيادات التي طرأت على رواتب وظائف القطاع العام مؤخرا.
تقول زينب خليل التي تعمل في مجال التعليق الصوتي "العمل الحر بالنسبة لي أفضل بكثير من الوظائف، فأنا أتمتع بمساحة أكبر للعمل والإبداع". ولفتت إلى أن العمل الحر غير مقيد بوقت ولا دوام ثابت، وبالتالي يوفر وقتا أكبر للراحة وقدرة أكثر على التفكير، إضافة إلى العائد المادي المرتفع.
بدوره، يرى المهندس حسن الذي يعمل كمبرمج وقائد فريق للعديد من المشاريع المعلوماتية في العديد من المنصات أن العمل الحر هو المفضل بالنسبة له وللعديد من المهندسين حديثي التخرج أو حتى من جرّب منهم وظائف القطاع العام، فالوقت مفتوح ولا حاجة للدوام والمردود أفضل بكثير إضافة إلى انعدام الحاجة للمواصلات.
وهو أفضل بكثير خاصة لمن يرغبون بتطوير أنفسهم والحصول على سيرة ذاتية ثرية بالأعمال وهو ما يعزز فرصهم في السفر بغرض العمل، كما أن المردود المادي بالنسبة لمن لديهم عائلة أفضل بكثير، وفقا لحسن.
في المقابل، ترى منال وهي موظفة في القطاع العام أن العمل الحر لا يناسبها كونها أما والأولوية لدراسة الأطفال التي تجعل من الصعب جدا التركيز في عمل تقني أو إبداعي، أما وظيفة الدولة فهي أفضل لجهة الوقت المحدد.
وتنامت أعداد الشباب العامل في مجال العمل الحر بعد موجة الفصل من الوظائف التي طالت الآلاف من موظفي القطاع العام في سوريا إثر خطة الحكومة القاضية بإعادة هيكلة الوظائف العامة وتعيين الكوادر المؤهلة وتحييد "الموظف الشبح" وهو الموظف المسجل على قوائم الرواتب بدون تأدية أي عمل فعلي أو حضور إلى مكان العمل.
يشير تقرير للمعهد الوطني للإدارة العامة بدمشق في 2024 إلى أن نسبة تسرب العاملين من القطاع العام منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011 بسبب الأوضاع الأمنية وخروج العديد من المناطق عن سيطرة النظام، إضافة إلى الأوضاع الاقتصادية المتردية وحتى عام 2022 بلغت ما يقارب الـ50% من موظفي 6 وزارات.
كما قدر نضال الشعار، وزير الاقتصاد والصناعة السوري، نسبة البطالة في سوريا بمعدل يتجاوز 60%، في حين تحدث برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عن أن واحدا من كل 4 أشخاص في سوريا عاطل عن العمل.
ويرى عبد الرحمن التيشوري، الخبير في التدريب والتطوير، أن رغبة الشباب السوري بداية بالعمل الحكومي بُنيت على أساس وجود ضمان صحي وتقاعد، وبالفعل كانت نسب العاملين في الدولة من أعلى النسب في العالم مقارنة بعدد السكان وتصل إلى 6% بحسب إحصائيات المعهد الوطني للإدارة العامة في دمشق.
لكن غياب سياسة التوظيف والتشغيل في السنوات الأخيرة من عهد النظام السابق، ثم عملية الفصل التي طالت نسبة كبيرة من الموظفين، إضافة إلى حل الجيش والمؤسسات الأمنية والشرطية، أدت إلى ازدياد نسبة البطالة، وبالتالي ازدادت الحاجة إلى البحث عن سبيل عيش آخر، سواء في المهن والمشروعات الصغيرة أو التعاقد من بُعد.
وفي المقارنة بينهما، يؤكد التيشوري أنه لا يمكن الاستغناء عن وظائف الدولة والعمل الحر، فالاقتصاد السوري منهك ولن يقوم على ساق واحدة، فهو بحاجة للعام والخاص والحر والتعاوني للسير في طريق التنمية الاقتصادية.
تتصدر قضية الطاقة قائمة الصعوبات التي تقف في وجه العمل الحر في سوريا، وذلك نتيجة لانهيار البنية التحتية إثر سنوات الحرب الطويلة والتي أثرت بشكل كبير على كفاءة شبكات الإنترنت والكهرباء والاتصالات وهي عوامل أساسية في نظام التعهيد.
إضافة إلى ضعف البيئة التشريعية والقانونية التي تنتظر عملية تحديث بعدما ورثت الفساد وانعدام الثقة، وبالتالي انعدام البيئة الموثوقة لحماية الملكية الفكرية وحقوق الاستثمار وهو أمر هام لاستمرار التعهيد.
في حين لعبت العقوبات الاقتصادية دورا كبيرا في إعاقة التعاملات المالية الدولية، فأصبحت وسائل الدفع غير متاحة للسوريين مثل بطاقات الائتمان وباي بال، وهو سبب كاف يمنع المستقلين من قبول مشاريع من منصات عالمية.
وفي بحث عن الحلول، يقول مهندس الكمبيوتر، حسن خرطبيل، "اعتمدنا أنظمة الطاقة الشمسية كبديل عن الكهرباء وتحولنا إلى نظام باقات الإنترنت مسبقة الدفع بدلا من الـ"آي دي إس إل" شديد البطء".
وبالنسبة للتحويلات المادية والتي يعوقها نظام السويفت (الذي لا يتم التعامل به في سوريا بعد بانتظار إتمام إجراءات رفع العقوبات)، فإن التحويل يتم من الشركات أو المواقع إلى حسابات بنكية خارجية لأصدقاء أو أفراد العائلة الذين يقومون بدورهم بتحويلها إلى الموكل عن طريق أشخاص يقومون بالتسليم الفوري.
ومع رفع العقوبات الأميركية عن سوريا، لا سيما تلك المتعلقة بالنظام البنكي والتعامل المالي الدولي، ومساعي الحكومة السورية لتطوير البنية التحتية المالية، من المنتظر أن تشهد البلاد تحولا في نظام المدفوعات يزيح عن كاهل المستقلين عبئا كبيرا.
وبعد بحث واستقصاء مطولين، تبين أنه لا يوجد في سوريا قطاع تعهيد معترف به رسميا أو جهات حكومية تنشر بيانات مفصلة حول أعداد الشباب الذين يعملون في هذا المجال.