آخر الأخبار

الصوت يُعيد القصيدة

شارك

لم يقف أحد تقريبا عند ملاحظة أن جُل حاضري فعاليات سوق الشِعر في باريس هذا العام كانوا من فئة كبار السن، باستثناء قلة من الضيوف الشعراء، الذين التفتوا إلى مسألة غياب الشباب عن الفعالية، لينذروا بتراجع عالمي في مقروئية الشعر أمام أجناس الأدب الأخرى.

جاءت تلك الملاحظة خلال الحديث مع أصدقاء شعراء بعيد انتهاء فعاليات "سوق الشعر" في يونيو/حزيران الماضي، إذ أكدوا أيضا غيابا عربيا شبه كامل بين الحضور "الطاعن بالسن"، رغم وجود جاليات عربية في باريس، وحلول فلسطين "ضيف شرف" في الفعالية التي خاض لأجلها الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي معركة وحراكا ثقافيا لكي لا تشطب "فلسطين" من الفعالية.

أين الشعر والشعراء اليوم مما يحدث في فلسطين والمنطقة العربية؟ هل غادر الشعراء من متردم؟ أم ما عاد للشعر من مكان سوى أمسيات خفتت مع مر الوقت والزمن؟! تشعل هذه الملاحظة أسئلة عن مدى نجاعة قراءة الكُتاب السابقين ومحاولات طرحهم الحلول "إن وجدت أصلا" لمسألة تراجع جمهور الشعر، في عصر "الإبادة" والأسئلة الوجودية، الذي لم يتصدر فيه الشعر ما كان يتصدره سابقا حين كان ضرورة الفرد والشعوب.

على مدار سنوات انحسار مقروئية الشعر، قدم جمهور من الشعراء والكتاب محاولات شتى لفهم أسباب هذا الانحسار، في مقارنة شبه محصورة بثنائية القصيدة والرواية، ومسألة دعم دور النشر والإعلام، والنخبوية والذائقة العامة. نستعرض في ما يلي آراء عدد من الشعراء والكتاب ممن قدموا في وقت سابق محاولات في الإجابة على سؤال التراجع:

من وجهة نظر الشاعر الفلسطيني محمود درويش، فإن تراجع مقروئية الشعر يعود إلى أن الزمن الآن زمن "الرواية"، لأنها تسع الآخر، في إشارة إلى أن الشعر مكثف ويخص الشاعر ذاته، أما الرواية فتسمح بسرد تعددي، وبهذا تجذب القارئ المعاصر الباحث عن فهم الآخر والواقع المعقد. ويتفق مع درويش الشاعر العراقي سعدي يوسف برأي قريب بعض الشيء، قائلا: "إن الشعر أصبح مترفا أو غامضا، لا علاقة له بالأرض والناس"، وهو ما أشار إليه سابقا الروائي والناقد الإيطالي أمبرتو إيكو في إشارته إلى "أن الرواية تحاكي النظام الاجتماعي والثقافي المعاصر، بينما الشعر غالبا ما ينشغل بالذات".

إعلان

ويرجح الشاعر والناقد السوري أدونيس سبب تراجع المقروئية إلى أن الشعر يفتقر إلى التجدد في الشكل والمضمون، ويعاني من التكرار والجمود، في حين رأى الروائي والناقد اللبناني إلياس خوري أن التحول نحو الرواية يعود إلى انفجار الحكاية في "عصر تلاشي الأيديولوجيات"، وعلى ضفة أخرى تفسر هذه الظاهرة الشاعرة الكويتية سعاد الصباح بأن القارئ لم يهجر الشعر، بل هجره التسويق والدعم الإعلامي، وهو ما تؤكده الشاعرة والناقدة الفلسطينية سلمى خضراء الجيوسي، قائلة: "إن ضعف الترويج والنقد الأدبي يسلب الشعر حضوره العام مقارنة بالرواية"، وكلا الرأيين يتقاطع مع رأي الكاتبة والشاعرة الكندية مارغريت أتوود، التي قالت إن الشعر يبدو كأنه فقد مكانه في سوق النشر بسبب سرعة العصر.

تتفق الأمثلة السابقة الذكر مع أن مسألة "الترويج، وشكل وموضوعات القصيدة، وتصدر الرواية، واختلاف مزاج القراء" أفضت إلى انحسار مقروئية الشعر، والصحيح أن كل محاولات القراءة السابقة لم تتجاوز ثنائية "الشعر والرواية"، وأنزلت الشعر في المقارنة منزلة الرواية بوصفها سلعة ورقية يُحكم على انتشارها بمؤشر "البيع والشراء"، بيد أن تاريخ القصيدة العربية كان شفوي الانتشار، أي عبر الأداء الصوتي والاتصال الإنساني المباشر بين الشاعر والمستمع.

مصدر الصورة مع دخول عصر الرقمنة وهيمنة "السوشال ميديا"، غاب أغلب الشعراء عن المشهد، ووجدوا أنفسهم أسارى بين دفات الكتب (شترستوك)

انتشار الشعر وانحساره

تشير بعض المراجع إلى أنه بعد بدء التدوين في العصر الأموي والعباسي، ظل الأداء الشفهي للشعر (الإلقاء، الإنشاد، الغناء) وسيلة أساسية لانتشاره، خاصة أن الشعر كان مرتبطا بالموسيقى والإنشاد في المجالس. وامتدادا لمحاولة تأصيل الفكرة المطروحة، يمكن ملاحظة أن رواج إنتاج الشعراء في القرن الأخير ومن بينهم بعض الأسماء آنفة الذكر، تعود لعدة عوامل مشتركة وأخرى خاصة:


* أولا: الإجادة في الإلقاء بأداء صوتي مميز وخاص، والحضور الوجاهي أمام جمهور في أمسيات شعرية أو فقرة ضمن مهرجان ثقافي أو وطني، في وقت لم تكن فيه وسائل الترفيه الحديثة من هواتف نقالة وتطبيقات التواصل والتفاعل الاجتماعي، فكان السماع بوجود فعالية في المدينة أمرا محفزا للخروج من المنزل بشكل عائلي أحيانا.
* ثانيا: عقد تعاون بين الشعراء والمغنين لتحويل قصائد لهم إلى أعمال فنية مغناة، منهم: محمود درويش، ونزار قباني، وأحمد فؤاد نجم، وصلاح جاهين… والقائمة تطول.
* ثالثا: نشاط الشاعر سياسيا وعدم اكتفائه بتسجيل موقف ثقافي وحسب، وعادة ما كانت تجربة الكاتب في النشاط السياسي تنعكس على كتاباته فتكون التعبيرات الشعرية أصيلة وأكثر اتصالا بالناس وهمومهم. أمثلة على ذلك: معين بسيسو، وعبدالله البردوني، ومظفر النواب، وعبد اللطيف اللعبي.. والقائمة كذلك تطول.
* رابعا: حضور الإيقاع والوزن في البناء الشعري، الأمر الذي يسهل من عملية حفظ الجملة الشعرية وتداولها، مع الإشارة في الوقت نفسه إلى أن اللغة العربية المستعملة في تغير مستمر، فلم يعد السجع من سجية اللغة الدارجة في التعبير، وما عاد الوزن من لوازم القصيدة الحديثة.
* خامسا: التحول السياسي الذي رافق فترة خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وانعكاس ذلك في مسألة التمرد على شكل القصيدة، وصعود حركة الشعر الحر، الذي تزامن بتطلع وفضول الناس للاستماع إلى قصيدة بشكل ولون مختلف.
* سادسا: ظرف الشاعر الاجتماعي في حال كان أحد أفراد أسرته سابقا في الحضور الأدبي، علما أن هذا الجانب يبقى جالبا للانتباه والاهتمام الأولي فقط، وذكره يبقى من باب الإحاطة بالعوامل المساهمة في الانتشار.
إعلان

مع تغير شكل القصيدة واختلاف الظروف السياسية، وانحسار مساحات المشاركة الشعرية في الفعاليات العامة، وتجاهل المناهج التعليمية تمرير الشعر الحديث إلى ذائقة الجيل الجديد، وانحياز دور النشر لصالح "الرواية" الجالبة للجوائز والبيع والطلب، انكفأ الشعراء على أنفسهم وعلى أسئلتهم. ومع دخول عصر الرقمنة وهيمنة "السوشال ميديا" (مواقع التواصل الاجتماعي)، غاب أغلب الشعراء عن المشهد، ووجدوا أنفسهم أسارى بين دفات الكتب.

مصدر الصورة الإعلان عن أمسية شعرية أصبح أمرا غير مغر لجمهور امتلك أدوات الترفيه في شاشة صغيرة (مولدة بالذكاء الاصطناعي-الجزيرة)

تحولات الجمهور

نشر القصائد في ديوان مطبوع أمر مهم وأساسي، من أجل الإعلان والتوثيق وإتاحة مادة ورقية للاقتناء والتداول بين جمهور القراء، وتوفير مادة حية للنقد والدراسة، ولأسباب أخرى لا تقل أهمية، ولكن، هل كان لأعمال محمود درويش أن تكون بهذا الانتشار، على أهميتها، لو اقتصر ظهوره وإنتاجه على النشر الورقي فحسب؟ أيهما أسبق في التلقي: قراءة القصيدة أم الاستماع إليها؟ هل كان ظهور الشاعر في مقطع مسجل يستعرض فيه أداءه الصوتي المتقن للغة، دافعا للرغبة باقتناء نسخة مطبوعة من أعماله، أم وجود نص بديع نشر في ديوان مطبوع؟

رغم أن الإجابة عن هذه الأسئلة تحتاج إلى بحث علمي، وقد تكون دافعا لإجرائه فعلا، فإن استنتاجا منطقيا يرجح فكرة أن انتشار القصيدة أساسه الصوت، والصورة إذا توفرت، لذلك لا تزال مقاطع فيديو لأشعار درويش -كمثال- قيد التداول بين فئات الشباب من الجيل الجديد، وبإعادة تسجيل مقاطع شعرية لأمل دنقل من طرف مؤدين محترفين في القراءة وبجودة صوتية أعلى من الأصلية، تعود قصائد مثل "لا تصالح" و"كلمات سبارتكوس الأخيرة" للحياة مرة أخرى، وهذا ما قادني شخصيا في فترة عمرية سابقة، لاقتناء أعمال دنقل الكاملة وقراءتها.

في عصر الميديا، تبدلت المساحات ومواقع وجود الجمهور كذلك، وصار الإعلان عن أمسية شعرية أمرا غير مغر لجمهور امتلك كل أدوات الترفيه في شاشة صغيرة متنقلة، إلا في حال رواج الشاعر أو إنتاجه في مواقع التواصل الاجتماعي، بمواد معالجة صوتيا وبصريا، وهذا ما يفسر سبب انتشار أعمال تميم البرغوثي هذه الأيام وتهافت الحضور في أمسياته، بغض النظر عن اختلاف الشعراء على نوع الشعر الذي يقدمه تميم كونه أصيلا أم "مبتذلا".

بالعودة إلى ثنائية "القصيدة والرواية"، فإن للشعر ميزاته المهملة، وفرصه للعودة والحضور بشكل أطغى من الرواية حاليا، إذ توفر القصيدة مساحة حضور وقول ومواكبة، ومجالا زمنيا مكثفا ومثاليا لإنتاج مقطع صوتي قابل للانتشار في وسائل التواصل الاجتماعي، كذلك مساحة من الترميز والتعبير الفني الملهم في الجانب البصري لخلق وتوليد صور ومقاطع فيديو مرافقة، وهذا الشكل من الإنتاج يزيد من نسبة الوصول والمشاهدة، وبالتالي ازدياد نسبة الإقبال على اقتناء الدواوين المطبوعة، بل وإتاحة فرصة في العودة بالنفع المادي من عدد المشاهدات المرتفع.

يمكن أن تعود القصيدة إذا ما قرر الشعراء مواكبة ما يجري من أحداث مصيرية والتفاعل معها بالظهور والاشتباك الشعري مع الواقع، وعبر تحويل الإنتاج الشعري إلى ما هو مسموع ومرئي، إما بصوت الشاعر نفسه أو بصوت مؤد محترف يتحرى العناصر الفنية والجمالية، وترجمتها بصريا بما تتطلبه المادة وخصائص المنصة المنشور عليها، إما بمبادرات فردية مقتدرة أو باتخاذ دور النشر خطوة تتعاون فيها مع شركة إنتاج توفر جسرا بين الديوان والجمهور المستمع، لربما يستعيد الشعر بعدها مقروئيته، والأمسيات حفاوتها، وتعود القصيدة إلى سيرتها الأولى.

* شاعر ومنتج إعلامي، نُشرت له نصوص شعرية عبر صحف ورقية، وأنتج إعلاميا عددا من الأعمال الأدبية، من بينها "أنشودة الوجع المبكر" للشاعر علي صلاح بلداوي.

إعلان
الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار