آخر الأخبار

نجيب الحصادي… أفَلَ العقل المُنيف ومضى مَن أوقد البصيرة في ليل الفلسفة العربية

شارك

مطلع يوليو/تموز، ترجل المفكر والفيلسوف الليبي نجيب الحصادي عن صهوة العمر، مخلفا وراءه إرثا فكريا لم يصبغ يوما بالتكرار، إرث لا يوازيه في بهائه إلا صمته الأبدي الذي خيم على الأوساط الثقافية في ليبيا والعالم العربي.

ترك الحصادي -صاحب الذهن الوقاد المتأبي على الضحالة- إرثا معرفيا ينوء بثقله الحرف، ويشخص أمامه القارئ مبهوتا من سعة الإحاطة وبهاء الصنعة، ما يربو على 20 مؤلفا، كتب تنوس بين المنطق والتحليل، وبين مساءلة المقدس ومطارحة المسلم. لعل أبرزها: أرسان الروح (سيرة ذاتية)، جدلية الأنا والآخر، الريبة في قدسية العلم، الدليل الفلسفي، وغيرها كثير مما قرئ في دول مصر والمغرب ولبنان والخليج، كما أن مؤلفاته تدرس في أكثر من جامعة عربية.

ولم يقتصر عطاء الحصادي على الإنشاء، بل كان في الترجمة طودًا لا يتزحزح، إذ نقل إلى لغة الضاد نصوصًا فلسفية مشتبكة وعتيدة دون أن تفقد بهاءها، ومن أبرزها: “الوضعية المنطقية” لألفريد جولز آير، و”ريادي فلسفة العلم” لبرنارد برودي، و”دليل أكسفورد للفلسفة”.

مصدر الصورة كرّس نجيب الحصادي حياته للكتابة المعرفية العميقة، منتجا مؤلفات تجمع بين الدقة الفلسفية وسلاسة الطرح، مثريا بها المكتبة العربية في قضايا العقل والهوية والعلم (الجزيرة)

السيرة العلمية

ولد الفيلسوف نجيب الحصادي في مدينة درنة شرقي ليبيا عام 1952، وتخرج من الجامعة الليبية، قسم الفلسفة، في العام 1973، ثم شد رحاله إلى الجامعات الأميركية، متنقلا بين جورج تاون وويسكونسن – ماديسون، ونال الدكتوراه عام 1983 بأطروحة في العقلانية العلمية ونقد تصور توماس كون.

أيضا، حمل رتبة الأستاذية منذ العام 1996، ودرس الفلسفة والمنطق وفلسفة العلم في الجامعات الليبية، ولازمه جيل من التلاميذ الذين تتلمذوا على يديه عقلا وأدبا.

وإزاء هذا الرحيل المهيب، التمست الجزيرة نت، أثره في ذاكرة من خبروه عقلا ومجالسة.

إعلان

استقلال الفكر

القاضي بمحكمة البيضاء الابتدائية، مفتاح العلواني، وهو شاعر وصديق مقرب من نجيب الحصادي رحمه الله، يرى أن ما جعل الحصادي عصيا على الاصطفاف، قراره بأن يقف على ضفة الأسئلة متأملا ضفة الإجابات بارتياب متواصل، مسخرا جل وقته في تقويض المسلمات.

وبحسب حديث العلواني للجزيرة نت، كان نجيب "عقلا تشككيا نقديا، وظل بعيدا عن الجموع التي تطلب الولاءات من أي نوع: أيديولوجية أو دينية أو سياسية أو حتى فكرية.. فخرجت الأسئلة منه كأفكار متمردة على الروتين والتعود واليقين"، وفق تعبيره.

ويرى الشاعر وصديق الحصادي، أحمد يوسف عقيلة، أن رجلا في علم الحصادي ووعيه وعفته، من الطبيعي أن يكون عصيا على الاصطفاف، مشيرا إلى أن المرء حين يكون صادقا وعفيفا، فسيكون حتما عصيا على أي اصطفاف. واستطرد: مَن لا يطمع لا يصطف، حسب قوله.

فكيف كان يختار مشاريعه البحثية أو الترجمات أو كتبه؟ يقول العلواني للجزيرة نت، إن بحوث الحصادي وترجماته كانت منتقاة بعقل فيلسوف، إذ كانت تتجه نحو ما هو مفصلي، لكنه مخزون أو مهمل، فلم ينجرف مع تيار المباهاة الفكرية، بل كان يصطاد التساؤلات المهمشة على الرف، المتغافل عنها غيره لصعوبة دراستها أو وضعها فوق مصطبة الدراسة والنقد، وفق تصريحه.

مصدر الصورة الحصادي كان حريصا على تبسيط علمه وترجماته، وفي محاضراته التي يحضرها غير المتخصصين، كان أحيانا يذكر المصطلح ثم يعيد شرحه بلغة سهلة تناسب مستمعيه (مواقع التواصل)

خارج المتن

وعمّا لم تنقله مؤلفات نجيب عنه من صفات، يجيب الشاعر عقيلة عن سؤال الجزيرة نت: "الحصادي الإنسان؛ كان عطوفا، محبا للخير، كثير العطاء للمحتاجين، وهذه صفات لا يعرفها إلا المقربون منه، كما أنه كان يحب الاستماع والحديث عن الأدب الشعبي، ويسألنا كثيرا عن بعض الأمثال الشعبية، وحتى عن بعض الأعراف السائدة، خاصة في حل الخصومات"، وفق تعبيره.

ويجيب العلواني: "إنصاته بحذر وانتباه، بصمت متأمل.. فما لا تجده في الكتب عن نجيب هو ما لا يمكن توثيقه، بل معايشته، والمتمثل في مروءة الفيلسوف وإنسانيته وأخلاقياته.. فلم يكن يدهم الأحاديث والمناقشات، بل يتسلل إليها بثبات حكيم، ويوجه أسئلته لا لهزيمة من أمامه، بل للوقوف وإياه على أرض مستوية"، حسب تعبير العلواني.

ويقول المصور المستقل محمد منينه، الذي يمتلك مركزا للفنون البصرية في مدينة درنة شرقي ليبيا -مسقط رأس الحصادي- إن نجيب، رحمه الله، لم يكن متعاليا في لغته، ولا متكلفا في فكره، فلم تنقل كتبه نبرته الهادئة وطريقته في طرح السؤال لا الجواب، إذ لم تنقل مؤلفاته صفات الحصادي الإنسان، الذي كان يفرح بميلاد المبدعين في أي مجال. كان هادئا في حضوره، لا يتحدث إلا بما ينفع، كريما معطاء، وكان دعمه لمن يحب فعلا لا قولا.

أبوة فكرية

وعن علاقته بطلابه ومن يحضرون محاضراته، يقول رفيقه الشاعر أحمد يوسف عقيلة، إن الحصادي كان حريصا على تبسيط علمه وترجماته، وفي محاضراته التي يحضرها غير المتخصصين، كان أحيانا يذكر المصطلح ثم يعيد شرحه بلغة سهلة تناسب مستمعيه. هذا إضافة إلى أنه اهتم بقضايا مجتمعه الراهنة، فألقى محاضرات عن الدستور والمصالحة الوطنية والهوية وغيرها.

إعلان

الناقد السينمائي محمد بن عمران -أحد تلاميذ الحصادي- يقص للجزيرة نت بامتنان تفاصيل حادثة تعود إلى العام 2014، إبان اضطراره وأسرته للنزوح من منزلهم بسبب الحرب إلى حي كان يجاورهم فيه الدكتور نجيب، وفي خضم ذلك الانتقال القسري، لم يسعفه الوقت لجمع مقتنياته الشخصية، وكان مما فقده جهاز حاسوب، اعتاد أن يكتب عليه بكثافة عن شؤون السينما ونقد الأفلام -وهي اهتمامات لطالما استرعت انتباه نجيب وأثارت تقديره- فما إن بلغ الحصادي الخبر عن طريق والد بن عمران، حتى استدعاه وسلمه أربعة أجهزة حاسوب مستعملة، نظيفة ومهيأة للاستعمال، قائلا له: "اختر واحدا منها لنفسك، وتبرع بالبقية لإحدى الجهات الخيرية، لكن لا تنس أن تستخرج مستندا رسميا يؤكد التبرع"، حسب بن عمران.

وأكد بن عمران -الذي يرى أن ما ميز مشروع الحصادي الفكري عمن سواه هو حسه النقدي- أنه تعلم من نجيب عدم وجود حقيقة مطلقة، "وأن معظم استدلالاتنا خاطئة، وأن طلب العلم رحلة طويلة، لا كمال فيها ولا نهاية، وأن المفكر الحقيقي لا يجب أن يتربع على عرش لا قيمة له، بل عليه أن يكون أقرب إلى الناس وقلوبهم، ويلتمس بساطة أرواحهم"، حسب تعبير بن عمران.

أما عن الفكرة التي طاردها عمرا ولم يغلق قوسها، يقول العلواني للجزيرة نت، إن أهم فكرة طاردها نجيب -والتي لو كان حيا، لظل يطاردها طوال حياته ولن يصل إليها- هي فكرة "اليقين"، التي جعلت نجيبا محتشدا بالتساؤلات والشكوك والريبة من كل إجابة جاهزة أو غير جاهزة، "إذ لطالما كان الشك دافعا لمواصلة ركضه خلف اليقين، وهو يعلم أنه لن يطاله.. وربما كان عدم الوصول هذا، في حد ذاته، مصدر استمتاعه بالفلسفة"، وفق وصفه.

كيف يرى الحصادي الرحيل؟

في تدوينة للحصادي رحمه الله عبر حسابه على منصة فيسبوك تعود لعام 2019، قال: "سألني صديق، سؤالا محرجا بعض الشيء، عما إذا كنت أستعجل إتمام ما أنجز من تراجم ودراسات خشية المنية.. فاستشهدت في ردي عليه بقول أرنت حنة: إذا مت غدا فقد أنجزت ما يكفي.. وإذا لم أمت غدا فأمامي كثير لإنجازه" حسب تدوينته.

ويرثي العلواني رفيقه: "لقد خسرنا برحيل نجيب رجلا تمكن من تعبيد المسافة بين العلم والعمل، وبين المشهد الأدبي والمشهد الأكاديمي.. فنجيب لم يكن فيلسوفا عابرا، بل حاول تطويع الفلسفة لتشارك حتى في رأب الصدوع الوطنية والاجتماعية والسياسية وغيرها.. فكان رجل عدالة انتقالية ومصالحة وطنية وارتقاء أكاديميا، وكانت ندواته وورش عمله ومؤتمراته وأبحاثه ومشاريعه العلمية وكتبه وترجماته، كلها تصب في نبع واحد، وهو الحاجة الملحة لها على كل صعيد: فردي ووطني وعربي وعالمي"، حسب حديثه للجزيرة نت.

ودعا العلواني إلى ترجمة أعمال نجيب -كتبه وأبحاثه- إلى لغات أخرى، وإقامة جائزة سنوية للفلسفة باسمه، إلى جانب البحث عن مشاريع كان يسعى للبدء فيها أو إعادة ترميمها أو استكمالها، والتكفل بها وإنهائها كما كان يأمل.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار