آخر الأخبار

اليوم حرب وغدا خوف.. ما الذي يعنيه أن تُقصف تل أبيب؟

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

في وسط تل أبيب، كان الانفجار شديدًا لدرجة أنه أحدث اهتزازًا في بيوت قرًى فلسطينية تبعد عشرات الكيلومترات عن موقع سقوط الصاروخ، لكن ماذا فعل الانفجار بتل أبيب نفسها لا على مستوى دمار المباني فحسب، بل على مستوى معناه وآثاره بالنسبة للإسرائيليين؟

في تقرير مصوَّر لــ"ABC NEWS"، ظهر بين الحطام والغبار على مدخل صالون تجميل علم ورقيٌّ لإسرائيل مكتوب عليه بالعبرية: "متحدين ننتصر"، دون أن يمسه أي ضرر إثر استهداف الصواريخ الإيرانية التي ضربت قلب تل أبيب في صباحٍ باكرٍ من صباحات يونيو/حزيران 2025.

مصدر الصورة صورة العلم الإسرائيلي مكتوب عليه "متحدين ننتصر" (أيه بي سي)

من زاوية نظر إنتاجية، فلا يبدو أن الصورة جاءت بمحض الصدفة، فالعلم الورقي الذي يفترض أنه كان داخل المكان ساعة وقوع القصف لا تظهر عليه علامات خدشٍ مثلًا أو آثار ما يحصل عادةً للورق إذا تعرض لأي قوّة ضاغطة، فكيف بانفجار قوي قريب؟!

يحيل هذا إلى زاوية نظر رمزية يبدو أنه أُريدَ لها أن تصل، لكنها تثير تساؤلًا حول مدى واقعية هذا الشعار في العلاقة بين المجتمع الإسرائيلي وحكومته، حيث يكررون استخدامه منذ بداية المواجهة مع إيران، في الوقت الذي تظهر فيه من جديد حالة مستجدة بالنسبة لإسرائيل منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023: الإسرائيليون النازحون.

حين ينزح المحتل

لم تعرف إسرائيل في تاريخها ظاهرة النزوح بهذه الأعداد ولمدة زمنية توشك على عامين، قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وإن بدا أن الحكومة وأجهزتها تمتلك خططًا للتعامل مع هذه الظاهرة، لكن هذا لا يعني أنها تمتلك خططًا للتعامل مع التحديات التي تفرزها هذه الظاهرة داخل المجتمع الإسرائيلي الذي كان قُبيلَ الحرب مع إيران يشهد غضبًا في الشارع والجيش اعتراضًا على استمرار الحرب، وعدم الإيمان بجدواها.

وخلافًا لتغطية قضية الإسرائيليين النازحين من البلدات على الحدود مع لبنان وغلاف غزة، فإن الإعلام الإسرائيلي لا يسلط الضوء كثيرًا على قضية الإسرائيليين الذين نزحوا من بيوتهم في تل أبيب بسبب الهجمات الإيرانية خلال حزيران الماضي، ويكتفي بالإشارة إلى أن الحكومة نظمت إيواءهم في مجموعة من الفنادق، فضلًا عن تكرار إنتاج صورة المجتمع المتماسك والمتحد خلف موقف قيادته في هذا الهجوم كما يظهر مثلًا فيما نشرته "تايمز أوف إسرائيل" حول حياة النازحين من تل أبيب إلى أحد فنادق القدس.

إعلان

لكن ثمة العديد من الوقائع التي تفتح باب الأسئلة على مصارعيه، فيما إذا كانت هذه هي الحقيقة على الأرض أم أنها حقيقة تُرْسَم عبر وسائل الإعلام كجزءٍ من الحرب.

في تل أبيب، وليس بعيدًا كثيرًا عن صالون التجميل السابق الذكر، يقع مجمع الكرياه الذي يضم مقر الجيش ووزارة الدفاع إضافة إلى مكتب الرقابة العسكرية المسؤول عن قصقصة المشاهد والأخبار حول الحرب، وما ينتج عنها من آثار ليتناغم مع إرادة القيادة السياسية.

وحسبما يظهر في الصور التي هندستها الرقابة العسكرية لأحياء في تل أبيب، تبدو آثار القصف في أحياء قديمة نسبيًّا يسكنها في الغالب يهودٌ منحدرون من شرق أوروبا، دون السماح بنشر صورٍ من مواقع أكثر تقدمًا من الناحية الحضرية وحساسية من الناحية الأمنية داخل تل أبيب، يسكنها في الغالب يهودٌ غربيون من الطبقات النخبوية في إسرائيل.

كانت صور الدمار الأكثر انتشارًا واتساعًا في حجم تغطيتها لآثار القصف والخسائر في منطقة تل أبيب تتركز في المدن الشرقية كبني براك والجنوبية كبيت يام ورامات غان، وأما باتجاه الشمال كرامات أفيف، والشمال الغربي كهرتسيليا فكانت الصور قليلة جدًّا ومدروسة بعناية، ويرجع هذا في أحد أبعاده إلى طبيعة البنى الطبقية والأهمية الاقتصادية المرتبطة بمناطق شمال وشمال غرب تل أبيب فضلًا عن المركز مقارنةً بالشرق والجنوب.

تشكل منطقة بني براك شبه حزامٍ شرقيٍّ لتل أبيب، حيث يتركز فيها اليهود الحريديم المتشددون ، بتعداد يزيد على 150 ألف نسمة، وهم ممن يرفضون التجنيد في الجيش، ويعيشون في مستوًى طبقيٍّ واقتصادي أقل من المناطق الواقعة في شمال وغرب تل أبيب مثل هرتسيليا ورامات أفيف.

إلى الجنوب، تمتد بيت يام التي يسكنها يهود من شرق أوروبا معظمهم قادمون من أوكرانيا، ويبلغ تعدادها السكاني قرابة 127 ألف نسمة. أما رامات غان جنوبي تل أبيب فهي امتداد لما يعرف في التخطيط الحضري الإسرائيلي بمدن التطوير التي يسكنها اليهود المنحدرون من أصول شرقية بتعداد سكاني يبلغ قرابة 150 ألف نسمة.

وتتسم هذه المناطق عامةً بانخفاض مستوى الدخل وارتفاع مستوى الخصوبة مقارنة مع شمال وشمال غرب تل أبيب حيث تسكن النخب الاقتصادية والعاملون في قطاع التكنولوجيا وذَوُو الدخل المرتفع، الذين ينحدرون من أصول غربية أوروبية وأميركية.

تظهر الفجوات في طبيعة التخطيط الحضري بين شمال تل أبيب وجنوبها في التناسب بين المباني والمساحات الخضراء، إذ يتخذ التخطيط الحضري شمالًا منحًى تخطيطيًّا يتيح مزيدًا من المساحات الخضراء بين الوحدات السكنية، خلافًا لما عليه الحال في الجنوب حيث تكتظ مدن جنوب تل أبيب بالأبنية المتراصة مع محدودية واضحة في المساحات الخضراء.

وهو ما يعني أن سقوط الصواريخ في مناطق الشرق والجنوب سيكون تدميريًّا بشكل أكبر بسبب اكتظاظ المباني، مقارنةً بالشمال والشمال الغربي.

في رامات أفيف، شمال تل أبيب، تظهر صور قليلة جدًّا لآثار القصف وغالبًا ما يكون مركزها صورًا لرجال الأمن والإنقاذ لا للدمار، خلافًا لما يظهر في بني براك ورامات غان مثلًا لا حصرًا.

إعلان

أما في المركز الذي تسكنه نخبةٌ من ذوي الدخل المرتفع الصغار السن، فالأمر أكثر حساسية حيث يكتفي الإعلام الإسرائيلي بالقول إن المركز التجاري "Azrieli Mall" قد تضرر هو وبرج سكني مكون من 32 طابقًا بجواره، ولكن دون نشر صورٍ لهذين المكانين، مع التأكيد على معلومة أن مبنى وزارة الدفاع والجيش القريبين من المركز التجاري والواقعين ضمن ما يعرف بالكارياه لم يتضررا، بحسب رواية الإعلام الإسرائيلي، وهي الرواية الوحيدة المتاحة حتى الآن.

يتتبع هذا المقال معنى قصف تل أبيب ونزوح الإسرائيليين منها، وما يعنيه مثل هذا الحدث في المدينة التي تعتبر العصب الاقتصادي والثقافي للمشروع الصهيوني، والمدينة الناتجة بسبب النظام الحداثي المهيمن على العالم.

يا أهل تل أبيب "لا مُقام لكم"

تصوِّر صحيفة "The Jewish News"، وهي الصحيفة اليهودية الأوسع انتشارًا في بريطانيا تل أبيب بالنسبة لإسرائيل على أنها التوأم المقابل لفيلادليفا بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، واصفةً المدينتين بأنهما مدينتا الإعلان عن الاستقلال، وهذا بالتأكيد ليس إلا أحد وجوه التشابه التي تجمع الحليفتين الاستعماريتين.

فالمدينة المستحدثة على أراضي قرًى فلسطينية مهجرة تتبع مدينة يافا ، تحمل طابعًا اقتصاديًّا معولمًا يتوسع ويستقطب الاستثمارات بناءً على هذا الأساس الذي بدأ التبلور في تسعينيات القرن الماضي.

"تل أبيب – مدينة لا تتوقف" (TEL AVIV – NON STOP CITY) تحمل بلدية تل أبيب هذا الشعار كرؤية إستراتيجية في بناء وتطوير المدينة، لتكون حاضنة للأعمال والابتكار والتبادل الثقافي، مع وعودٍ كبرى بالأمان للاستثمار، تمامًا كما تفعل المدن الكبرى التي تجاريها تل أبيب كلندن ونيويورك وباريس وغيرها.

مصدر الصورة حذاء على دمية ذات أنف طويل لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، خلال احتجاج مناهض للحكومة في تل أبيب يدعو إلى اتخاذ إجراءات لتأمين إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين (الفرنسية)

في لحظةٍ من لحظات الحرب مع إيران ظهرت المدينة التي لا تتوقف وقد خلت شوارعها تمامًا، ومئات الآلاف من سكانها بين مختبئ في الملاجئ، ونازحٍ في الفنادق، كما ظهر في صورة نشرتها مجلة "بيزنس إنسايدر".

تشير الإحصاءات إلى أن عدد النازحين من تل أبيب قد بلغ قرابة 15 ألف نازح، وزعت الحكومة 11 ألفًا منهم على الفنادق، ونزح 4 آلاف آخرون إلى بيوت أصدقاء وأقارب.

يضاف هؤلاء النازحون إلى أكثر من مئة وخمسين ألف نازح ممن نزحوا عقب ضربة السابع من أكتوبر من المستوطنات الشمالية المحاذية للحدود مع لبنان، ومستوطنات غلاف غزة، أكثر من 20% منهم خسروا عملهم خلال الحرب، مُشكلين أزمة إضافية تضاف إلى سلسلة الأزمات التي يعيشها المجتمع الإسرائيلي وحكومته منذ بداية الحرب التي لا يزال كثير من الإسرائيليين غير مؤمنين بجدوى استمرارها فضلًا عن فتح جبهات جديدة فيها.

"أعتقد أنه لا هدف من هذه الحرب ولا فائدة منها" تقول أوسانت ستينبيرغر المنحدرة من أصول بولندية، التي خسرت كل ما تملك بداخل منزلها في أحد أحياء تل أبيب، في مقابلة مع وكالة رويترز.

منذ بداية الحرب مع إيران، ظلَّ رئيس الوزراء الإسرائيلي يحاول ضخ المعاني في هذه المواجهة لئلا تعلو أصوات تشابه صوت ستينبيرغر، فوصف أسبوعين من الحرب بأنهما نصر عظيم. وها هو كما يبدو يدفع باتجاه انهيار وقف إطلاق النار مع إيران كما تشير إليه العديد من الصحف العالمية التي تشبه نتنياهو بفلاديمير بوتين في اختيار الحرب الأبدية لتحقيق مصالحه السياسية والبقاء في السلطة حسب وصف الغارديان البريطانية.

وبين هذا وذاك، تظهر بوضوح متزايد حقيقة أن المجتمع الإسرائيلي بعد قصف تل أبيب وما ظهر من صور للدمار لم يعتدها، سيواجه أزمةً أخرى تضاف إلى أزمات الحرب المتلاحقة، بوصفه مجتمع مهاجرين، يعيش نظامًا اقتصاديًّا رأسماليًّا تشكل تل أبيب عصبه الأساسي، ويبحث فيها عن الأمن والرفاهية.

"يبدو هذا كيومٍ طويلٍ، إنه لا يتوقف. يجب عليك الذهاب إلى الملجأ ثلاث أو أربع مرات في اليوم. نحن نريد العودة إلى الحياة الطبيعية، للاستمتاع من جديد".

بهذه الكلمات تصف إسرائيلية تسكن رامات أفيف في شمال تل أبيب ما تريده بعيدًا عن أحلام نتنياهو بتحقيق النصر العظيم، بعد أن تحولت تل أبيب من مدينة يلجأ إليها الهاربون من الحروب إلى مدينة تواجه مع الوقت احتمالات عالية للتعرض لمزيدٍ من الهجمات الصاروخية خصوصًا في ظلِّ ما يرشح حول هشاشة اتفاق وقف إطلاق النار واحتمال انهياره في أية لحظة.

إعلان

بكلماتٍ أخرى، أصبح مجتمع مستوطني تل أبيب الليبراليين المرفهين، مضطرًّا إلى التعامل وجهًا لوجه مع الخوف وهشاشة الأمن واحتمال نشوب الحرب مع إيران مرة أخرى وآثار ذلك كلِّه.

فالهاربون من حرب أوكرانيا وروسيا إلى إسرائيل، أتوا متيقِّنين أنهم سيكونون أكثر راحة وأمنًا، ثقةً منهم بالدفاع الجوي الإسرائيلي الذي تُنْفَقُ عليه قرابة نصف موازنة الجيش، لكنهم لم يعودوا متأكدين من هذا بعد الآن حسب ما تورد أسوشيتد برس الأميركية.

"أشعر بالرعب في الداخل وفي الخارج، بالرعب من اليأس" تقول الأوكرانية تيتيانا كوراكوفا، التي هاجرت إلى إسرائيل عام 2022 هربًا من الحرب في أوكرانيا وسكنت في بيت يام، ثم تضيف: "لأجل هذا السبب غادرت أوكرانيا، ولا أستوعب الآن أنه ممكن الحدوث هنا أيضًا".

تل أبيب، المدينة العبرية الأولى، التي تستلهم وعودها باليوتوبيا من صورة المدينة التي رسمها هرتزل في روايته "بلد قديم جديد"، التي تحمل بوضوح طابع ونظام ووعود المدن الحديثة، لم تعد آمنةً في نظر من يسكنونها أو يلتجئون إليها من نيران حروب أخرى.

وأضيفت إلى ذاكرة سكانها والمعجبين بها صور للدمار والأنقاض بدلًا عن صور الشوارع الواسعة والبنايات الحديثة والحياة المرفهة.

مصدر الصورة يقف شخص بالقرب من مبنى سكني متضرر بعد هجوم صاروخي باليستي في تل أبيب، 14 يونيو/حزيران 2025 (الأوروبية)

ظلَّت إسرائيل طوال عقودٍ تروِّج في المنطقة لأمنها وقدرتها على الردع وهي اليوم غير قادرة على منح سكانها الشعور بالأمان، فتدفع قيادتها السياسية نحو مزيد من الحرب، أي مزيدٍ من الخوف بدعوى ملاحقة الأمان.

يُذكِّر هذا بكلام وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد قبل إرسال القوات العسكرية إلى العراق قبل أكثر من عشرين عامًا حين قال: "إننا سنكسب الحرب عندما يشعر الأميركيون بالأمان من جديد"، وأخذ جورج بوش يردد ذات الكلمات، لكن ما حصل كان العكس تمامًا، فإرسال القوات العسكرية إلى العراق زاد من معدلات الخوف من عدم الأمن في الولايات المتحدة وغيرها زيادةً غير مسبوقة.

ويبدو أن تل أبيب ذاهبة نحو هذا المصير، ولكن كيف؟

لا يحمل مجتمع تل أبيب مزاجًا قتاليًّا، فهو مجتمع ليبرالي ظلَّ طوال أشهر الحرب صاحب الصوت الأعلى في المطالبة بصفقة تبادل يعود فيها الرهائن وتنتهي الحرب، وقبل ذلك كان يقود الاحتجاجات على خطة الإصلاحات القضائية. وما إن توقفت الحرب مع إيران ورفعت الجبهة الداخلية القيود على التجمهر، حتى عاد الإسرائيليون في تل أبيب إلى الشوارع للتظاهر ضد نتنياهو والحرب التي يقودها.

في المقابل تندفع القيادة السياسية نحو المزاج القتالي بتأثير الصهيونية الدينية المشحونة بالنبوءات والمصالح من جهة، ومساعي نتنياهو للنجاة بنفسه من جهة أخرى.

وبالتالي فإن هذا المجتمع الليبرالي -الذي يعيش في داخل فقاعة المدينة الحديثة التي تقدم وعودًا لا نهاية لها بالأمن والسلام وسيادة المتعة- يبحث فقط عن النجاة من الموت، ولا يرى معنًى للموت في هذه الحرب التي تبدو من وجهة نظر نخبته غير مُجدية، وليست في سبيل شيء إلا المصلحة السياسية لنتنياهو وحلفائه.

بالنسبة للنازحين بداية الحرب من الشمال والجنوب، فهم في الغالب من إثنيات تعرضت تاريخيًّا للتهميش كاليهود الشرقيين واستخدمتها القيادة السياسية -منذ تأسيس إسرائيل- أحزمةً ديموغرافية لحماية الإثنيات الغربية النخبوية، وذلك بتلقي الضربة الأولى من جبهة جنوب لبنان وجبهة غزَّة.

لكن الأمر في تل أبيب مختلف، فالضربة هذه المرة قطعت آلاف الكيلومترات، لتصيب بهذه القوَّة مركز الاقتصاد وتؤثر في حياة النخبة الليبرالية، لتضاف إلى أسباب أخرى تدفع هذه النخبة نحو مزيد من الحنق على حكومة نتنياهو.

وهو ما يجعل قصف تل أبيب، وحركة نزوح عشرات الآلاف من سكانها، تحديًا يمس أحد الجوانب الأكثر حساسية في المجتمع الإسرائيلي وهو في التقسيم الإثني الذي يؤثر بدوره في شكل التوزيع الديموغرافي للمستوطنين.

بحسب الموقع الرسمي للحكومة الإسرائيلية فقد تم تلقي 41,651 طلب تعويض في مراكز صندوق التعويضات منذ بداية الحرب، أكثر من 26 ألف طلبٍ منها قادمة من تل أبيب.

ولتركيز الحكومة الإسرائيلية على مخططات التوسع في جبهات الحرب، فهي لم تقدم حلًّا جذريًّا لمشكلة النازحين منذ أكتوبر 2023، الرافضين في معظمهم لفكرة العودة إلى مدن التطوير وبلدات الغلاف، رغم ما يحملونه من أيديولوجية يمينية يمنح من خلالها الدين معنًى لما يواجهونه باعتبار أن أنصار اليمين واليمين الديني مشحونون بمزاج قتالي وبنى عقدية تغذيه. فكيف ستتصرف الحكومة مع الليبراليين الذين لا وزن بالنسبة لهم لأيديولوجيا الدين وما تضخه من المعاني؟

مصدر الصورة مظاهرة لمجتمع الشواذ في تل أبيب من أجل إطلاق سراح الأسرى في غزة (رويترز)

وعلاوةً على ذلك، فإن الطبقة الجديدة من النازحين الليبراليين تمتلك رفاهية تسمح لها باتخاذ قرار الهجرة العكسية نحو الولايات المتحدة أو أوروبا، مما يعني أن تصاعد التهديد الأمني في تل أبيب يدلّ على أن الحكومة مقبلة على تحدٍّ ديموغرافي إن قرر أبناء الحداثة في تل أبيب تغيير قيمهم اتجاه المشروع الصهيوني بحثًا عن مكان أكثر رفاهيةً وأمانًا، انطلاقًا من أيديولوجيتهم الحداثية القائمة حسب تعريف عبد الوهاب المسيري على أنه لا ثبات لأي شيء، لا الواقع ولا القيم ولا الخيارات. وحيثما يسود هذا التبدل في القيم تبعًا للمصلحة الفردية المتمثلة هنا بالنجاة من الموت فلا سبيل للحسم بغير القوَّة كما يرى المسيري، فهل ستغلق إسرائيل مطارها في وجه مواطنيها خشية أن يهربوا في حال وقوع أي مواجهة قادمة مع إيران؟

إعلان

خصوصًا أن الأيام الأولى للمواجهة مع إيران قد شهدت فرار العديد من الإسرائيليين في يخوت خاصة عبر موانئ عسقلان وحيفا وهرتسيليا، رغم قرار الوزيرة اليمينة التي تتولى حقيبة المواصلات ميري ريغيف بمنع الإسرائيليين من المغادرة كما أوردت صحيفة هآرتس.

وإن كان نزوح الإسرائيليين ذوي الأصول الشرقية بداية الحرب، يحمل معه احتمالات كثيرة في التأثير في الاستحقاقات الانتخابية القادمة، فإن نزوح الإسرائيليين ذوي الأصول الغربية يحمل معه إنذار خطرٍ يواجه الواجهة الاقتصادية الكبرى في إسرائيل، ويهدد قدرتها على الاستمرار، فضلًا عن بداية فصل جديد من التحدي الديموغرافي الذي تواجهه إسرائيل من داخلها في حربها الأطول منذ تأسيسها.

هل ثمة مهرب؟

قامت إسرائيل على وعد الوطن الآمن المزدهر والمتطور، أي "أرض اللبن والعسل"، وبهذا العنوان اجتذب المشروع الصهيوني الكتل الديموغرافية من يهود العالم ويذهب عبد الوهاب المسيري إلى أن الحركة الصهيونية السياسية هي مشروع حداثي، يقوم على نفس قيم الحداثة، التي تعد مجتمعها الداخلي بالسلام والرفاهية والأمان، وتشرعن لنفسها القتل والإبادة كما يظهر في رسالة لودفيج جومبلوفيتش، عالم الاجتماع النمساوي اليهودي إلى هرتزل حين سأله مستنكرًا: هل تريد أن تؤسس دولة بدون أن تسفك دماء، بدون عنف ومكر؟

مصدر الصورة ثيودور هرتزل (الأوروبية)

وعلى أن إسرائيل هي امتداد للمشروع الحداثي الغربي في الهيمنة على العالم، فإن الإبادة وما نتج عنها من اتساع رقعة المواجهة العسكرية هي نتاج ذات المشروع، تمامًا كما كانت الهولوكوست جزءًا طبيعيًّا من صيرورة الحداثة لا انقطاعًا فيها كما يرى عالم الاجتماع زيغمونت باومن .

على هذا الأساس الذي يكون القتل فيه الوجه الخشن للحداثة، بُنيت "بيتاح تكفا" ثاني أكبر مدينة صناعية في إسرائيل شرق تل أبيب على أراضي قرية ملبس الفلسطينية، واسمها العبري يعني بالعربية "فاتحة الأمل" وقد سُمّيت به لكونها النواة الأولى للاستيطان الصهيوني في فلسطين. ويبلغ تعداد سكانها اليوم أكثر من ربع مليون نسمة.

وكما يرى باومن فإن المدن التي قد تم تأسيسها في الأصل لتوفير الأمن لسكانها أصبحت ترتبط في هذا الزمن بالخطر أكثر من ارتباطها بالأمان، وحين يحدث هذا يتحول القلق بشأن المستقبل وهشاشة الوضع الاجتماعي واللا أمان الوجودي إلى اهتمام بالسلامة الشخصية وهو ما يعيد تشكيل السياسات العقارية ويؤثر في مستويات التصنيف الائتمانية.

وإن كانت المدن في عصر ما قبل الحداثة تحمي نفسها بابتكارات عمرانية كالخنادق المائية وأبراج الهجوم ومنافذ السهام والقذائف في أسوار المدن، فإن المدن الحديثة اليوم تواجه عجزًا في حماية نفسها من الحمم الساقطة من السماء، فضلًا عن أن تحمي نفسها من خوف سكانها منها، ونزوعهم نحو الهرب، وهي وإن كانت المكان الطبيعي لدورة الحياة وتشاركها ومنحها المعاني، فإنها تصبح في خضم تصاعد احتمالات الحرب، مساحة للبحث عن أمل في تسوية يمكن احتمالها لمن لا يمكنه الهرب، أما من يمكنه ذلك، فقد رمى قرار ريغيف في البحر وهو يلوح مودعًا الموانئ.

وهكذا يرتد الشرُّ على نفسه، فما بدا أنه آمنٌ ومثالي للاستثمار والصناعة والاستقرار، وهو يُنكر مقطعًا من تاريخه حين قام على جماجم بشر آخرين، أصبح يذكّر بالخوف أعمق والتفكير فيما يدور الصراع حوله: الحياة والموت.

إن إيران حين قصفت بيتاح تكفا، بما تحمله من رمزية صناعية، وتل أبيب بما تحمله من رمزية سياسية وثقافية لم تكن فقط تريد تدمير الوجود المادي لهذه المدن، بل كانت تهدف أيضًا إلى تحقيق ضربةٍ في الوعي الإسرائيلي الذي ظلَّ معتدًّا بذاته وقدرته الحديدية، وإلى تعرية هشاشته أمامه، بعد أن كان السابع من أكتوبر فاتحة الطريق لما بعده في مواجهة مشروع الهيمنة على الأرض والوعي.

لا يثق الإسرائيليون بإمكانية أن يصمد اتفاق وقف إطلاق النار طويلًا، ولا يزالون يصفون حياتهم بأنها ذاهبة نحو المزيد من الارتياب، ولا تزال تل أبيب ضعيفة في ظل اتفاق وقف إطلاق النار الهش كما تصفها صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، وهكذا يضاف صدعٌ جديد إلى الوعي الإسرائيلي الذي تذهب به قيادته نحو حربٍ لا يريدها.

وإلى أن يستطيع الهرب في المواجهة القادمة عبر البحر أو الجو، يبقى السؤال قائمًا: إلى أين سيهرب من ذاته المصابة بالهلع؟

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا