مع اقتراب رأس السنة الميلادية، تدخل السوق الاستهلاكية في تونس مرحلة حسّاسة تتّسم بارتفاع غير مسبوق في الطلب على المواد الغذائية، خاصة المرطبات، الحلويات، المشروبات، والمنتجات ذات الاستهلاك السريع. هذا الضغط الموسمي على السوق لا يمرّ دون تداعيات، إذ يتحوّل في كثير من الأحيان إلى بيئة خصبة لممارسات تجارية غير قانونية، يسعى من خلالها بعض التجار إلى تعظيم أرباحهم بأقصى سرعة، حتى وإن كان ذلك على حساب سلامة الغذاء وصحة المواطنين. وفي ظلّ هذا الواقع، تبرز المراقبة الاقتصادية والصحية كضرورة قصوى لا تقبل التأجيل، باعتبارها خط الدفاع الأول أمام الانزلاقات الخطيرة التي قد تترتّب عنها كوارث صحية صامتة.
مواسم الاستهلاك… حين تتحوّل المناسبات إلى فرص للمخاطرة
تُظهر التجربة السنوية أنّ المناسبات الكبرى، وعلى رأسها رأس السنة الميلادية، غالبًا ما تشهد تضاعفًا في حجم التجاوزات المتعلقة بجودة الأغذية وطرق حفظها ومصادرها. فارتفاع الطلب يدفع بعض التجار إلى تخزين كميات كبيرة من المواد الغذائية في ظروف غير ملائمة، أو إعادة تسويق منتجات منتهية الصلوحية، أو استعمال مواد أولية رخيصة وغير مطابقة للمواصفات لتقليص الكلفة وزيادة هامش الربح. هذه الممارسات، التي قد تبدو للبعض «تفاصيل تقنية»، تحمل في الواقع مخاطر صحية جسيمة، خصوصًا على الأطفال وكبار السن وذوي الأمراض المزمنة.
حملات رقابية تكشف حجم الخلل العميق
في هذا الإطار، نفّذت الهيئة الوطنية للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية، بالتنسيق مع المصالح الأمنية، خلال شهر ديسمبر 2025، حملات رقابية مكثفة شملت مختلف ولايات الجمهورية، في محاولة للحدّ من هذه التجاوزات قبل بلوغ ذروة الاستهلاك. وقد أسفرت هذه الحملات عن حجز وإتلاف أكثر من 46 طنًا من الأغذية الفاسدة، إلى جانب 370 لترًا من المشروبات و381 وحدة من المرطبات غير المطابقة لمعايير السلامة الصحية، مع اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة ضد المخالفين وإغلاق 10 محلات مختصة في صنع وبيع المرطبات. هذه الأرقام لا تعكس فقط نجاعة الرقابة، بل تكشف أيضًا عن عمق الاختلالات التي تعاني منها بعض حلقات التوزيع والإنتاج.
مواد خطرة وأساليب تحايل تهدد الصحة العامة
وتنوّعت المحجوزات لتشمل فواكه مجمدة غير صالحة للاستهلاك، وتمورًا منتهية الصلوحية، ومواد أولية لصناعة المرطبات تحتوي على ملونات محظورة لما لها من آثار سلبية على صحة الإنسان، فضلًا عن حلويات ومواد غذائية ملوثة أو محفوظة في ظروف تفتقر إلى أدنى شروط السلامة. كما تم حجز لحوم دواجن وكبد حيوانات غير صالحة للاستهلاك، بعضها كان معدًا للتهريب، ما يطرح تساؤلات جدية حول شبكات التزويد الموازية التي تنشط خارج الرقابة الرسمية، وتستغل هشاشة الطلب الموسمي لتصريف منتجات خطرة.
ولم تقتصر هذه المخالفات على جهة دون أخرى، إذ شملت الحملات ولايات زغوان، الكاف، بنزرت، جندوبة، نابل، القيروان والمنستير، حيث تم التعامل مع المحجوزات وفق الإجراءات القانونية الجاري بها العمل. ويؤكّد هذا الامتداد الجغرافي أنّ المسألة ليست حالات معزولة، بل ظاهرة وطنية تتكرّر كلما ارتفع منسوب الاستهلاك، ما يفرض مقاربة شاملة لا تكتفي بالحلول الظرفية.
المراقبة الاقتصادية والصحية… بين الردع والاستباق
تكشف هذه المعطيات أنّ المراقبة ليست مجرّد إجراء ردعي بعد وقوع المخالفة، بل يجب أن تكون آلية استباقية قائمة على المتابعة الدورية لسلاسل الإنتاج والتوزيع والتخزين. فنجاعة التدخل لا تقاس فقط بعدد المحجوزات، بل بقدرة الدولة على منع وصول هذه المواد إلى موائد المواطنين من الأساس. وفي هذا السياق، يصبح التنسيق بين الهياكل الرقابية والمصالح الأمنية عنصرًا محوريًا في كسر حلقة الاستغلال الموسمي للمناسبات.
المستهلك شريك لا غنى عنه في منظومة الحماية
من جهتها، شددت الهيئة الوطنية للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية على التزامها بحماية صحة المواطنين والتصدي لكل الممارسات التي تهدد سلامة الأغذية، داعية المستهلكين إلى التزوّد من المسالك المنظمة والخاضعة للمراقبة، وعدم الانسياق وراء الأسعار المغرية التي غالبًا ما تخفي وراءها مخاطر غير مرئية. كما يبقى التبليغ عن الإخلالات سلاحًا فعّالًا لدعم جهود الدولة، وتحويل المستهلك من حلقة ضعيفة إلى فاعل أساسي في منظومة الرقابة.
تُظهر التجاوزات المسجّلة خلال شهر ديسمبر 2025 أنّ المراقبة الاقتصادية والصحية ليست ترفًا إداريًا ولا إجراءً موسميًا مرتبطًا بالأعياد، بل ضرورة دائمة تفرضها حماية الصحة العامة وضمان الأمن الغذائي. فبين جشع بعض التجار، وتعقّد مسالك التوزيع، وارتفاع وتيرة الاستهلاك، يبقى الرهان الحقيقي على يقظة الدولة، وصرامة القانون، ووعي المواطن، حتى لا تتحوّل لحظات الاحتفال إلى مصدر تهديد صامت لصحة التونسيين.
لمتابعة كلّ المستجدّات في مختلف المجالات في تونس
تابعوا الصفحة الرّسمية لتونس الرّقمية في اليوتيوب
المصدر:
الرقمية