أعاد الرئيس الأميركي دونالد ترامب فتح أخطر الملفات الاقتصادية في واشنطن ، حين وجّه ضغوطًا غير مسبوقة على مجلس الاحتياطي الفدرالي ( البنك المركزي الأميركي) من أجل خفض أسعار الفائدة ، ملوحًا بإعادة صياغة العلاقة بين البنك المركزي ووزارة الخزانة.
وبحسب ما نقلته وكالة بلومبيرغ، فإن هذه الضغوط ترافقها دعوات من وزير الخزانة سكوت بيسنت لـ"إعادة هيكلة الفدرالي" بل وطرح أفكار حول اتفاق جديد يحل محل اتفاق 1951 التاريخي الذي كرّس استقلالية السياسة النقدية عن السلطة التنفيذية.
وترى بلومبيرغ أن محاولات ترامب تمثل مقامرة عالية المخاطر قد تنسف الثقة بأهم مؤسسة مالية في العالم، إذ إن أي إخفاق في هذه المواجهة قد يؤدي إلى انفلات التضخم وفقدان البنك المركزي لمصداقيته على مدى سنوات طويلة، في وقت يعتمد فيه الاقتصاد الأميركي والعالمي على قدرة الفدرالي في تحقيق التوازن بين السيطرة على الأسعار والحفاظ على النمو.
ويسعى الرئيس ترامب لأن يكون أول رئيس "يشتبك مع الفدرالي ويخرج منتصرًا"، بحسب توصيف بلومبيرغ.
البيت الأبيض يضغط لخفض كلفة الاقتراض دعمًا لسياسات " ماغانوميكس "، وهو مصطلح يُستخدم لوصف التوجّه الاقتصادي المرتبط بحركة "لنجعل أميركا عظيمة مجددًا" التي ارتبطت بداياتها بحملة ترامب الانتخابية عام 2016، وتلخص رؤيته الاقتصادية.
وفي حين دعا وزير الخزانة سكوت بيسنت رئيس الفدرالي جيروم باول إلى أن يكون أكثر "ابتكارًا"، بل ذهب حد المطالبة بـ"إعادة هيكلة الفدرالي"، يرى كيفن وورش المرشح البارز لخلافة باول، أن المرحلة تتطلب "اتفاقًا جديدًا" يعيد صياغة العلاقة بين الخزانة والفدرالي.
هذا النفوذ المحتمل يستند إلى فرصة ترامب لتأمين أغلبية في مجلس محافظي الفدرالي المكون من 7 أعضاء، مع إمكانية تعيين الرئيس المقبل للمجلس. ورغم فشل محاولة البيت الأبيض لإقالة ليزا كوك، المعيّنة في عهد الرئيس السابق جو بايدن ، فستشارك في اجتماع تحديد الفائدة الأسبوع المقبل.
هذا، إلى جانب ستيفن ميران، المستشار الاقتصادي بالبيت الأبيض، الذي يستعد لتولي مقعد مؤقت، في إشارة بلومبيرغ إلى أنها "أوثق الروابط بين البيت الأبيض والفدرالي منذ 90 عامًا".
ولطالما اتسمت علاقة الخزانة والفدرالي بالتداخل، فخلال الحرب العالمية الثانية ، التزم الفدرالي بقيادة مارينر إيكلز بربط أسعار الفائدة لتسهيل تمويل الإنفاق العسكري. لكن مع بداية الخمسينيات وتصاعد التضخم، اندلع صدام مع إدارة الرئيس هاري ترومان.
بلومبيرغ توضح أن المواجهة بلغت ذروتها في يناير/كانون الثاني 1951 حين اتهمت الإدارة الفدرالي بالفشل في "واجباته الأخلاقية والوطنية". في المقابل، خشي مسؤولو الفدرالي أن يصبح البنك "مجرد دائرة من دوائر الخزانة".
الحل جاء عبر ما عُرف لاحقًا بـ"اتفاق الخزانة والفدرالي لعام 1951″، والذي منح البنك المركزي حرية تحديد أسعار الفائدة بعيدًا عن اعتبارات تمويل الحكومة، حيث وصفته بلومبيرغ بأنه "يوم استقلال الفدرالي".
واليوم، يشكك ترامب وفريقه في أداء الفدرالي، وكتب بيسنت في مقالة حديثة أن "الفدرالي يدّعي حاجته إلى الاستقلالية، لكن هل هو كذلك فعلا، أم أسير ماضيه وغروره؟". كما اتهم البنك بالتقصير في الاستجابة لأزمة 2008 وبالتأخر في مواجهة موجة التضخم الأخيرة، فضلا عن مسؤوليته عن انهيار مصارف عام 2023.
وأقر "دون كوهين" نائب رئيس الفدرالي السابق بوجود "مساحة للتحسين سواء في شفافية قرارات الفدرالي أو في الرقابة البرلمانية"، لكنه شدد على أن "المساس باستقلالية الفدرالي سيكون خطأ جسيمًا"، وهو موقف يتفق عليه معظم المسؤولين السابقين من مختلف الأطياف السياسية.
ويوضح تقرير بلومبيرغ أن هناك إجماعًا بين الاقتصاديين على أن السماح للسلطة التنفيذية بالتدخل في تحديد أسعار الفائدة سيقوّض مصداقية السياسة النقدية ويضر بالثقة العالمية في الاقتصاد الأميركي.
وتعليقا على ذلك، يقول ريتشارد كلاريدا، المحافظ السابق في الفدرالي "من الصعب أن تجد بنكا مركزيا يستهدف التضخم بشكل موثوق حيث لوزير المالية دور رسمي في صنع السياسة النقدية".
ومع ذلك، لا ينفي بعض مستشاري ترامب رغبتهم في "رقابة تنفيذية أوثق" تشمل هيكلية الفدرالي وطريقة عمل أجهزته، بل وحتى كيفية تعيين رؤساء الفروع في الولايات، وإذا تحقق ذلك، فإن وزارة الخزانة قد تستعيد بعض النفوذ على توجيه الاقتصاد.
وتشير بلومبيرغ إلى أن الكونغرس قد يصبح الحاجز الأخير أمام طموحات ترامب، حيث أكد رئيس لجنة السياسة النقدية في مجلس النواب، الجمهوري فرانك لوكاس أن العلاقة بين الفدرالي والحكومة التنفيذية "يجب أن تكون فاعلة وليست منفصلة تمامًا"، لكنه شدد في الوقت نفسه على ضرورة بقاء البنك المركزي مُركزًا على استقرار الأسعار والتوظيف.
المعضلة أن ترامب صرّح علنًا بأنه يريد سعر الفائدة عند 1% فقط، قائلا إنه يعرف "أسعار الفائدة أفضل بكثير" من قادة الفدرالي. وهو ما يضع استقلالية المؤسسة في مواجهة مباشرة مع السلطة التنفيذية.
ما تصفه بلومبيرغ هو صراع بين تاريخ طويل من استقلالية السياسة النقدية وتجربة رئاسية تسعى إلى إعادة صياغة قواعد اللعبة. الفشل في هذا الرهان قد يعني "ارتفاع الأسعار وفقدان مصداقية الفدرالي لسنوات"، مع انعكاسات تتجاوز أميركا إلى النظام المالي العالمي برمته.