في عصر يعود إلى ملايين السنين، عاشت سمكة صغيرة تسمى "ثاريس" في بحيرة مالحة ذات ظروف قاسية، حيث كانت الحياة فيها نادرة وصعبة على جميع الكائنات.
لم تكن ثاريس مجرد سمكة عادية، بل كانت من الأنواع التي تكيفت مع بيئة بحرية مليئة بالتحديات، تعتمد في غذائها على التقاط بقايا عضوية طافية على سطح الماء مثل الطحالب والبكتيريا التي تنمو على الأجسام الميتة.
وبينما كانت ثاريس تمارس طقوسها المعتادة في البحث عن غذاء بأحد الأيام، واجهت شيئا غريبا بأعين برتقالية وسط حلقتين زرقاوين. هذا الكائن كان في الواقع حيوانا بحريا منقرضا يُدعى "بيليمنايتس"، وهو نوع من رأسيات الأرجل يشبه الحبار، لكنه كان ميتا منذ فترة ومغطى بطبقات من الطحالب.
وربما اعتقدت ثاريس، التي كانت تفتقر إلى القدرة على التمييز بين الطعام الطازج والطفيلي، أن هذا الكائن الطافي يمثل وجبة صالحة للأكل، لكنها سرعان ما واجهت مأزقا قاتلا، فبينما دخل رأس البيليمنايتس في فمها بسهولة، كان جسمه يتوسع بشكل تدريجي داخل حلقها، مما تسبب في انحشاره وعدم قدرتها على ابتلاعه أو إخراجه.
حاولت السمكة يائسة إخراج "الوجبة" عبر خياشيمها، لكنها لم تنجح، وبدأت تعاني من صعوبة التنفس حتى اختنقت وماتت، ليعثر الباحثون على توثيق لهذا المشهد في تشكيلات الصخور الجيرية المعروفة باسم "بلاتنالك" في منطقة سولنفوين-إيشتات في جنوب ألمانيا، وهي منطقة مشهورة عالميا بحفرياتها الاستثنائية التي يعود تاريخها إلى العصر الجوراسي المتأخر( من 163 مليون سنة إلى حوالي 145 مليون سنة مضت).
وخلال الدراسة المنشورة بدورية "ساينتفيك ريبورتيز"، درس فريق الباحثين من قسم علوم الأرض والبيئة بجامعة لودفيغ ماكسيميليانز ميونخ بألمانيا، أكثر من 4200 عينة من أحافير ثاريس، ليكشفوا عن هذا السلوك الغذائي المميت لأول مرة، والذي لم يوثق سابقا رغم كثرة العينات.
وتقول الدكتورة مارتينا كولبل إيبرت، الباحثة الرئيسية بالدراسة في تصريحات صحفية لمنصة "فيز-أورغ" العلمية: "يُظهر هذا الاكتشاف كيف يمكن لسلوك غذائي غير مقصود أن يؤثر بشكل مباشر على مصير الأنواع، البيئة القاسية التي عاشت فيها ثاريس، ذات الأكسجين المنخفض والملوحة العالية، لم تكن فقط تحديا للحياة، بل وضعت ضغطا انتقائيا جعل مثل هذه الأخطاء قاتلة".
وتضيف "من خلال دراسة عدد كبير من العينات وليس فقط العينات الاستثنائية، تمكنا من رؤية نمط متكرر يشير إلى أن هذه السمكة كانت تتغذى على أجسام عائمة ميتة، لكن هذا السلوك عرضها لمخاطر مميتة، وهذا يعطينا فهما أعمق للتفاعل بين الكائنات وبيئاتها عبر الزمن".
ويعد هذا الاكتشاف نموذجا حيا لكيفية تداخل السلوك الحيوي مع البيئة، وكيف يمكن للظروف البيئية القاسية أن تفرض تحديات لا تتعلق فقط بالافتراس أو المنافسة، بل حتى بأمور تبدو بسيطة مثل اختيار الغذاء.