إسطنبول- أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأسبوع الماضي أن بلاده تقف على أعتاب مرحلة جديدة من تاريخها الطاقي، إذ تستعد لبدء توليد الكهرباء من محطة "أكويو" النووية في ولاية مرسين جنوبي البلاد.
ولا يعد هذا الإعلان مجرد تدشين مشروع ضخم، بل إشارة رمزية إلى دخول تركيا نادي الدول المنتجة للطاقة النووية، بعد مسار طويل من التخطيط والشراكة مع روسيا امتد لعقود.
ومع اقتراب تشغيل أول محطة نووية تركية، تبرز تساؤلات حول ما يعنيه هذا التحول لأمن الطاقة في البلاد، وكيف يمكن أن يسهم في تعزيز استقلال القرار الاقتصادي لأنقرة ، وإعادة تشكيل هيكل قطاع الطاقة بما يجذب استثمارات جديدة في التكنولوجيا النووية.
وتقترب تركيا من دخول مرحلة جديدة في تاريخها الطاقي مع اقتراب تشغيل محطة "أكويو" النووية في مرسين، أكبر مشاريع التعاون مع روسيا بتكلفة تقارب 20 مليار دولار، ويضم أربعة مفاعلات نووية بقدرة إنتاجية إجمالية تبلغ 4.8 غيغاواط.
ووفقا لتصريحات الرئيس رجب طيب أردوغان، فقد اكتملت أعمال البناء الرئيسية في المفاعل الأول، وبدأت مرحلة الاختبارات التشغيلية تمهيدا لبدء توليد الكهرباء خلال فترة قريبة جدا.
وتستهدف الخطة الحكومية تشغيل المفاعلات الأربعة تباعا حتى عام 2028، ليصل الإنتاج السنوي للمحطة إلى 35 مليار كيلوواط/ ساعة، وهو ما يعادل نحو 10% من احتياجات تركيا من الكهرباء.
وبذلك تدخل البلاد رسميا نادي الطاقة النووية للأغراض السلمية، في خطوة وصفها المسؤولون بأنها إضافة نوعية لمزيج الطاقة الوطني ودعم مباشر لمساعي أنقرة نحو الاكتفاء الذاتي في هذا المجال.
وانطلقت أعمال بناء المفاعل الأول عام 2018 بعد اتفاق حكومي وُقّع بين تركيا وروسيا عام 2010. ورغم أن الخطة الأصلية كانت تستهدف تشغيل أول وحدة عام 2023 تزامنا مع مئوية تأسيس الجمهورية، فإن مراحل التجهيز امتدت لفترة أطول بسبب التعقيدات الفنية وجائحة كورونا.
ويُنتظر أن تسهم محطة "أكويو" النووية بفعالية في تقليص اعتماد البلاد على واردات الوقود الأحفوري ، لا سيما الغاز الطبيعي المستخدم في توليد الكهرباء.
وتشير التقديرات الحكومية إلى أن تشغيل المحطة بكامل طاقتها سيخفض واردات الغاز بما يعادل نحو 1.5 مليار دولار سنويا.
ويرى الرئيس رجب طيب أردوغان أن هذه الخطوة تمثل منعطفا تاريخيا نحو الاستقلال الطاقوي، مؤكدا أن تركيا دخلت فعليا عصر الطاقة النووية بفضل محطة "أكويو" التي ستقلل التبعية الخارجية وتُرسخ مبدأ الاكتفاء الذاتي في مجال الكهرباء.
وأشار أردوغان إلى أن تصنيف المفوضية الأوروبية للطاقة النووية ضمن "الطاقة الخضراء" ينسجم مع المسار التركي نحو التنمية المستدامة .
ووفق الخطط الحكومية، من المنتظر أن تمثل الطاقة النووية نحو 11% من توليد الكهرباء بحلول عام 2035، على أن ترتفع النسبة إلى قرابة 30% بحلول عام 2053 دعما لأهداف الحياد الكربوني.
من المنتظر أن تمثل الطاقة النووية نحو 11% من توليد الكهرباء في تركيا بحلول عام 2035
ولا تقتصر أهمية مشروع "أكويو" النووي على إنتاج الكهرباء فحسب، بل تمتد إلى أبعاد اقتصادية وتقنية وتنموية عميقة جعلت منه أحد المشاريع الأكثر شمولا في تاريخ تركيا الحديث.
فقد تحول موقع المحطة في مرسين إلى ورشة ضخمة شارك فيها أكثر من 16 ألف عامل ومهندس في ذروة أعمال الإنشاء، معظمهم من الأتراك، بينما سيوفر التشغيل الدائم للمحطة ما يقارب 4 آلاف فرصة عمل نوعية في مجالات الهندسة والصيانة والتشغيل النووي.
إلى جانب ذلك، أسهم المشروع في تنشيط مئات الشركات المحلية عبر عقود توريد وبناء بلغت قيمتها أكثر من ملياري دولار حتى الآن، مما دعم الصناعة المحلية ورفع معايير الجودة والإنتاج في قطاعات الحديد والإلكترونيات والميكانيكا.
وحسب تقديرات رسمية، فإن الأثر الاقتصادي للمشروع سيتجاوز إنتاج الكهرباء، إذ من المنتظر أن يضيف نحو 50 مليار دولار إلى الناتج المحلي الإجمالي خلال العقود القادمة، بفضل استقرار أسعار الطاقة وتقليص كلفة الواردات وتنمية الأقاليم الجنوبية، حيث باتت مرسين مركزا صاعدا للصناعات التقنية والطاقة.
ولا يبدو أن الطموح النووي التركي سيتوقف عند حدود محطة "أكويو"، إذ تعمل أنقرة على توسيع برنامجها النووي عبر إنشاء محطتين جديدتين في مدينة سينوب على البحر الأسود وتراقيا شمال غربي البلاد.
فقد أعلن الرئيس أردوغان أن الحكومة تعمل على خطط لإنشاء محطات نووية إضافية، مؤكدا أن المفاوضات جارية مع عدد من الدول والشركات العالمية في هذا الشأن. وتهدف تركيا من خلال هذه المشاريع إلى بناء 3 محطات نووية كبرى بحلول منتصف القرن الحالي.
وفي هذا السياق، كشف وزير الطاقة التركي عن أن أنقرة تجري محادثات مكثفة مع روسيا والصين وكندا و كوريا الجنوبية بشأن إنشاء المحطتين الجديدتين.
كما أشار إلى نموذج شراكة ثلاثية محتمل مع الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية لبناء محطة سينوب، بحيث تشارك شركات أميركية وكورية إلى جانب نظيراتها التركية في تنفيذ المشروع، ضمن مقاربة تسعى إلى تحقيق التوازن بين الشرق والغرب.
ووفق الخطط الحكومية، تستهدف تركيا الوصول إلى قدرة نووية مركبة تبلغ 7.2 غيغاواط بحلول عام 2035، أي ما يعادل تشغيل 6 مفاعلات كبيرة، على أن ترتفع هذه القدرة إلى 20 غيغاواط بحلول عام 2050.
وتحقيق هذا الهدف يستدعي بناء 8 مفاعلات جديدة على الأقل، إضافة إلى عدد من المفاعلات الصغيرة التي يُتوقع أن توفر نحو 5 غيغاواط إضافية.
ويرى الباحث في مركز "تودبام" لدراسات السياسة الخارجية التركية أحمد ضياء جوكلاب أن الطاقة النووية تمثل ركيزة أساسية لتقليص اعتماد تركيا على واردات الطاقة، إذ تلبي البلاد نحو 70% من احتياجاتها من الخارج، خصوصا من روسيا وإيران و أذربيجان ، وهو ما يفاقم العجز التجاري ويقيد القرار الاقتصادي.
ويشير الباحث -في حديث للجزيرة نت- إلى أن محطة "أكويو" النووية تحمل أهمية إستراتيجية في تنويع مصادر الطاقة، إذ ستنتج ما يعادل 10% من الطلب المحلي، مما يسهم في استقرار الإمدادات وخفض الواردات.
غير أن جوكلاب حذر من أن نموذج الشراكة مع روسيا -وفق صيغة "البناء والتملك والتشغيل"- يجعل التشغيل والوقود والصيانة بيد شركة "روساتوم"، وهو ما قد يُنشئ اعتمادا تقنيا وجيوسياسيا جديدا على موسكو .
ويؤكد أن تحقيق الاستقلال الطاقي المستدام يتطلب من تركيا نقل التكنولوجيا النووية وتطوير إنتاج الوقود محليا، إلى جانب تنويع الشركاء الدوليين ودمج الطاقة النووية مع المصادر المتجددة لضمان أمن طاقوي طويل الأمد.