في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في أعماق غابة سومطرة المطيرة، تهبط ذبابة الجيف، مسترشدة برائحة مكانها المفضل لوضع بيضها، على واحد من أكبر الزهور وأغربها وأندرها في العالم.
إنها زهرة رافليسيا أرنولدي، المعروفة باسم "زهرة الجثة"، وتُسمى أحيانا "زهرة الوحش"، وهي نبات طفيلي عملاق حيّر العلماء منذ اكتشافه، يستغرق نموه من البذرة إلى الزهرة سنوات، ويقضي معظم حياته الطويلة مختبئا في أرض الغابة، وعندما ينضج أخيرا ينفجر ليصبح أكبر زهرة في العالم.
وفي تصريح للجزيرة نت، تقول عالمة النبات والباحثة في مركز الحفاظ على النباتات بحدائق بوغور النباتية في إندونيسيا، صوفي مورسيداواتي: "إن هذه الزهرة تطلق رائحة قوية ونفاذة تُشبه مزيجا من الجبن الفاسد والعرق والثوم واللحم المتعفن".
تتميز "زهرة الجثة" بأوراقها الحمراء المنقطة بالأبيض على بتلاتها، وبصفتها نباتا دقيقا للغاية تعد من أندر النباتات، حتى في بيئات الغابات المطيرة البكر، ويُقال إن من الصعب رؤيتها مزدهرة.
وتنتمي هذه الزهرة إلى جنس رافليسيا الذي يضم أكثر من 30 نوعا، وينتشر في جميع أنحاء الغابات الاستوائية المطيرة بجنوب شرقي آسيا، من تايلند وماليزيا إلى إندونيسيا والفلبين.
توضح مورسيداواتي، وهي من أبرز الخبراء في مجال الحفاظ على نباتات رافليسيا وزراعتها، أن من أبرز سمات هذا النبات الفريد حجمه الضخم، إذ تضم بعض أنواعه أكبر الأزهار حجما في العالم.
وتقول "حتى أصغر أنواع رافليسيا تملك أزهارا بحجم طبق العشاء، وهي تُعد كبيرة حقا إذا ما قورنت بالورود أو الأقحوان في حدائقنا المنزلية".
وتضيف "أما في أكبر الأنواع، فيصل قطر الزهرة الواحدة إلى أكثر من متر، أي ما يعادل تقريبا طول طفل في السابعة من عمره، ويمكن أن يصل وزنها إلى 7 كيلوغرامات، مما يجعلها أثقل زهرة تُعرف في عالم النبات".
في منتصف عام 2020 عُثر في غابات سومطرة الغربية بإندونيسيا على أكبر وأضخم زهرة مُسجلة على الإطلاق، وهي رافليسيا توان-موداي، إذ بلغ قطرها 111 سنتيمترا (3.64 أقدام)، متجاوزة الرقم القياسي السابق لأكبر زهرة، والذي بلغ 107 سنتيمترات، والذي سجلته رافليسيا أرنولدي، في سومطرة أيضا.
ليس حجمها ورائحتها النفاذة الشيء الوحيد الذي يميز "زهرة الجثة"، فجميع نباتات رافليسيا طفيلية بالكامل، وذلك يعني أنها لا تستطيع البقاء على قيد الحياة على الإطلاق من دون التغذي على نبات آخر.
تعيش "زهرة الجثة" معظم حياتها كنبات داخلي لا يمتلك ساقا ولا جذورا ولا أوراقا، وتتسلل إلى مضيفها بخط واحد من الخلايا المنتظمة تقريبا التي يمكن أن يمتد إلى أكثر من 10 أمتار، تحت لحاء مضيفه من دون أن يدري.
ومثل النباتات المورقة النموذجية، تحتوي خلايا نبات تيتراستيغما المضيف على بلاستيدات خضراء. تحوّل هذه العضيات (تراكيب متخصصة داخل الخلايا) ضوء الشمس إلى طاقة، وكل منها مزوَّد بحمضه النووي الخاص.
لمحاولة فهم المزيد عن "زهرة الجثة" الغامضة على مدار السنوات العشر الماضية، دأب العلماء على دراسة جينومه، وما اكتشفوه كان مذهلا كأي شيء آخر يتعلق بالنبات.
اكتشف الباحثون أن هذه الزهرة تخلّت عن جيناتها المسؤولة عن إنتاج الكلوروفيل، ومعه القدرة على التمثيل الضوئي منذ ملايين السنين، فهي لا تحتوي على جينوم البلاستيدات الخضراء، مما يعني أنها لا تحتوي على أي من الخلايا اللازمة لعملية التمثيل الضوئي.
ومن دون جذور أو قدرة على إنتاج غذائها، تعتمد الزهرة كليا على مضيفها، حيث تسحب المياه والمغذيات من النباتات المتسلقة لتغذية نموها.
وربما الأكثر إثارة للدهشة أن ميول "زهرة الجثة" إلى السرقة لا تتوقف عند هذا الحد، بل انخرطت في عملية تُعرف باسم "النقل الجيني الأفقي"، حيث تسرق كمية كبيرة من المادة الوراثية من مضيفها ومن نباتات أخرى في موطنها.
في "زهرة الجثة"، حدث انتقال جيني أفقي بينها وبين عائلاتها مرات عديدة عبر تاريخها التطوري، فقد أظهرت دراسات جينومية أنها اكتسبت 2–3% من جينومها النووي وما يصل إلى 50% من جينوم الميتوكوندريا (عضيات داخل الخلايا مسؤولة عن إنتاج الطاقة) من نباتاتها المضيفة عبر هذه العملية.
بناء على ذلك، فإن التقديرات المعتمدة للعلاقة بين زهرة رافليسيا ومضيفها تعكس أهمية الانتقال الجيني الأفقي في تطورها، خصوصا في ما يتعلق بالجينوم الميتوكوندري الذي يظهر معدل انتقال أعلى بشكل ملحوظ من الجينوم النووي.
وفي حين أن هذه العملية معروفة جيدا في البكتيريا وبدائيات النوى وحيدة الخلية، إلا أنها لم تُوثّق إلا مؤخرا في النباتات الطفيلية، ولا يزال العلماء يحاولون فهم كيف يحدث نقل الحمض النووي هذا بالضبط.
تبدو "زهرة الجثة" كأنها تستخدم العديد من هذه التسلسلات المسروقة بشكل طبيعي كما لو كانت جزءا أصليا من مادتها الوراثية، حيث تنسخ الحمض النووي الريبوزي المنقوص الأكسجين إلى حمض نووي ريبوزي، ثم تترجمه إلى بروتينات تُستخدم لأداء مهام ووظائف حيوية داخل الخلية.
بعد فترة من النمو الخفي تصل إلى 18 شهرا داخل النبات المضيف، تخرج "زهرة الجثة" كبرعم طفيلي منفرد، عقدة بحجم كرة الغولف، يصعب تمييزها عن مضيفها.
إذا وصل البرعم إلى المرحلة التالية، فسيكبر حجمه ليتحول إلى انتفاخ يشبه الكرنب على طول النبات المضيف، ويستغرق الأمر بضعة أشهر أو حتى سنة للوصول إلى الحجم الكامل.
يتفتح البرعم ليُنتج زهرة مطاطية ضخمة تشبه الجيفة، لون بتلاتها أحمر دموي، سطحها خشن ومملوء بالثآليل، ويغطيها ما يشبه الفرو، ولها مظهر يشبه الحيوان الميت، حتى إنها تبدو كأن لها شوارب وأسنانا.
عند تفتح الزهرة التي تعيش لمدة أسبوع تقريبا قبل أن تذبل، تُطلق بتلاتها الكستنائية السميكة مركبات كريهة الرائحة تحتوي على الكبريت.
السبب وراء تطور هذه الرائحة واضح نسبيا، وهو جذب الملقحات، فهذه الرائحة قد لا تجذب جميع الحيوانات، لكنها تجذب بشدة ذباب الجيف الذي يضع بيضه عادة على اللحم المتعفن.
تشرح مورسيداواتي أن الرائحة العفنة لزهرة رافليسيا مثالية لجذب ذباب القمامة الذي يتغذى على الجيف، وتقول "إن الذباب المخدوع يدخل إلى عمق الزهرة باحثا عن اللحم المتحلل، فيتجوّل داخلها ويضع آلاف البيوض، بينما تكون الزهرة قد وجّهته بدقة إلى الموقع الذي تريده، بحيث يلتصق اللقاح على ظهره أثناء وضع البيض".
وتضيف "بعكس كثير من الأزهار الأخرى التي تكون حبوب لقاحها جافة وخفيفة، فإن رافليسيا تُنتج حبوب لقاح لزجة وسائلة، وذلك يعني أن الذبابة تحتاج إلى ملامسة مباشرة للزهرة كي تلتصق بها هذه المادة الرطبة، ومن ثم تضمن الزهرة انتقال اللقاح بكفاءة".
بمجرد أن تجف حبوب اللقاح على ظهر الذبابة، يمكن أن تبقى حية أياما أو أسابيع بينما تجوب الذبابة الغابة.
في معظم أنواع رافليسيا، تكون الأزهار أحادية الجنس، إما ذكرا أو أنثى. لذلك، فلإنتاج بذرة يجب على الذبابة الذكر التي تحمل حبوب لقاحها أن تزور زهرة أخرى أنثى من دون قصد أثناء بحثها عن مكان لوضع البيض.
إذا صادفت الذبابة زهرة رافليسيا أنثوية مفتوحة فإن حبوب اللقاح ستعود إلى حالتها الطبيعية عندما تحتك بأنسجة الزهرة الرطبة، مُكملة بذلك عملية التلقيح المتبادل.
بعد التلقيح، تذبل الزهرة الملقَّحة تدريجيا، وتتحول إلى اللون الأسود، لكن هذا لا يعني موتها، بل تتحول خلال أشهر إلى ثمرة تشبه قطعة من السماد، وتحمل مئات الآلاف من البذور الصغيرة، لا يزيد حجمها على حبة نشارة الخشب.
طريقة انتشار هذه البذور غير مؤكدة حتى الآن، هل يدفنها النمل قرب جذور النبات المضيف؟ أم تحملها ثدييات صغيرة إلى الكروم؟ حتى يومنا هذا، لم يتوصل العلماء إلى ذلك، لكن يُعتقد أن النمل أو القوارض أو حتى الأفيال قد تساعد في ذلك.
وتقول مورسيداواتي التي تتركّز أبحاثها على الفصل النباتي وتقنيات البذر والإنبات المختبري، بالإضافة إلى دراسة ملاءمة البيئات المحتملة للنباتات الطفيلية: "نعلم أن البذور تحتوي على زائدة لحمية غنية بالزيت تُعرف باسم الإيلايوسوم، وهو تركيب شائع تستخدمه بعض النباتات لجذب النمل، إذ يُغذّي به النمل يرقاته بفضل محتواه العالي من الزيت وقيمته الغذائية، وقد لوحظ أن النمل يحمل بذور زهرة الجثة بالفعل.
وتضيف أن هذا النمط من انتشار البذور "يُعرف باسم الميرميكوكوري، حيث يقوم النمل بنقل البذور بعيدا عن النبات الأم، مما يحقق فائدة متبادلة للطرفين. ومع ذلك، ما يحدث للبذور بعد دخولها عش النمل لا يزال لغزا لم يُفك بالكامل بعد".
على أي حال، لم يرَ أحد بذور رافليسيا تنبت أو تلتصق بجذر مضيف وتُصيبه، لأن هذه الخطوة الحاسمة في نموها لا تزال غير مفهومة تماما.
تُطلق زهرة الجثة مركبات كيميائية مثل ثنائي ميثيل ثنائي الكبريتيد وثنائي ميثيل ثلاثي الكبريتيد، وكلاهما مركب كبريتي عضوي ينتج عن التحلل البكتيري للحوم، وهذا ما يفسر رائحة الزهرة الكريهة.
ولكن عندما قارن العلماء بين الذباب الذي يزور اللحم المتعفن وبين الذباب الذي يزور أزهار الرافليسيا في البرية، وجدوا أن نوعا واحدا من الذباب كان يشكل 97% من زوار الأزهار، بينما شكّل هذا النوع من الذباب 25% فقط من زوار اللحم المتعفن، وهذا يعني أنها ليست مجرد زهرة برائحة كريهة، بل هي متخصصة في جذب نوع معين من الذباب ليقوم بتلقيحها.
كما وجد العلماء أن الزهرة تُنتج أيضا مواد كيميائية أخرى مثل البنزينويدات التي تُعرف أيضا باسم "المواد الكيميائية العطرية" نظرا لرائحتها المميزة، وهي مركبات عضوية تحتوي على حلقة بنزين في تركيبها الكيميائي، وتستخدم على نطاق واسع في العديد من الصناعات مثل العطور، ومستحضرات التجميل، والأغذية، والمشروبات.
لذلك، افترض العلماء أن "زهرة الجثة" لا تعتمد فقط على الروائح الكريهة المشابهة للجيف لجذب ذباب معين، بل على مزيج معقد من الإشارات الكيميائية والبصرية وربما الحرارية لجذب الذباب المناسب.
ولم تكتفِ الزهرة بذلك، بل إن ملمس بتلاتها الإسفنجي يُحاكي أيضا اللحم المتحلل، وبعض أنواع هذه الزهرة تنتج حرارة أيضا، وهي حيلة تُعرف باسم "توليد الحرارة" أو "الحرارة الذاتية". وهذه الظاهرة نادرة في النباتات، لكنها تظهر أيضا في أنواع أخرى كريهة الرائحة مثل نبتة "الكرنب النتن" المعروف باسم "كرنب الظربان" أو "ملفوف الظربان".
بالنسبة لنباتات رافليسيا، قد تساعد الحرارة على نشر رائحتها الكريهة على نطاق أوسع، وقد يكون جذب ذباب الجيف هو سبب تطور هذه النباتات ذات الرائحة الكريهة لتصبح ضخمة الحجم.
ووفقا لمورسيداواتي، فإن الحجم الهائل لزهرة رافليسيا قد يُسهم في جعلها أشبه بجثة حيوان نافق، وهو ما يساعد في تعزيز تأثير رائحتها وانتشارها في الهواء الراكد للغابات المطيرة.
وتقول "إن هذا الحجم لا يساعد فقط في نشر الرائحة لمسافات أبعد، بل قد يُسهل أيضا على الذباب رؤيتها وسط أرض الغابة المزدحمة بالأوراق والنباتات، وربما يُسهم كذلك في احتجاز الحشرات داخليا لبعض الوقت".
وتضيف "صحيح أن نباتات الجيف مثل زهرة رافليسيا لا تستهلك الذباب كما تفعل النباتات آكلة اللحوم، لكنها تعتمد عليه بشدة من أجل الاقتراب منها، لأنها بحاجة إليه لتلقيحها واستمرار دورة حياتها".
بعدما أثارت "زهرة الجثة" فضول علماء النبات طوال قرون، يحذرون الآن من أنها معرضة لخطر الانقراض بشدة بسبب تدمير موائل الغابات في جنوب شرقي آسيا، ويدعون إلى اتخاذ إجراءات لإنقاذها.
يضم جنس رافليسيا العديد من الأنواع، ويُحذّر الباحثون من أن جميعها مُعرّضة للخطر، حيث يُصنّف 25 نوعا منها على أنها مُعرّضة لخطر الانقراض الشديد و15 نوعا على أنها مُعرّضة للخطر.
وفقا لدراسة نُشرت في سبتمبر/أيلول 2023، فإن أكثر من ثلثي هذه النباتات لا تحظى بالحماية من خلال إستراتيجيات الحفظ الحالية. ويُعدّ هذا أول تقييم عالمي للتهديدات التي تواجه هذه النباتات.
تشير مورسيداواتي، التي شاركت في تأليف كتاب "بيولوجيا حفظ رافليسيا" إلى جانب عدد من الباحثين، وهو مرجع مهم في دراسة بيئة وبيولوجيا هذه الزهرة النادرة، إلى أن الغموض لا يزال يحيط بالكثير من جوانب حياة "زهرة الجثة".
وتقول "نظرا لاختفاء الزهرة تقريبا طوال معظم دورة حياتها داخل نسيج العائل، فإن معرفتنا بها لا تزال محدودة. أنواع جديدة منها لا تزال تكتشف، ويعتقد أن بعض تجمعاتها لا تضم سوى بضع مئات من الأفراد فقط، كما أن تكاثرها في المختبر يُعد من التحديات شبه المستحيلة".
ويصنّف الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة نوعا واحدا فقط (رافليسيا ماجنيفيكا) ضمن الأنواع المهددة بالانقراض بشدة، إلا أن الباحثين يرغبون في إضافة جميع الأنواع إلى القائمة الحمراء للأنواع المهددة بالانقراض، ويطالبون بحماية أكبر لموائلها، وفهم أفضل للأنواع الموجودة، وابتكار أساليب جديدة لإكثارها.
عندما تواجه الأنواع خطر الانقراض، يُنشئ دعاة الحفاظ على البيئة مجموعات أسيرة يمكن إطلاقها لاحقا في البرية. ولكن على الرغم من المحاولات العديدة، لم يتمكن علماء النبات من جميع أنحاء العالم من زراعة هذه الزهرة خارج بيئتها الطبيعية، ولم تُحقق محاولات القيام بذلك في الحدائق النباتية سوى نجاح محدود.
تعد مورسيداواتي عالمة النبات الوحيدة التي نجحت في زراعة "زهرة الجثة" بشكل موثوق في الحديقة بعيدا عن موائلها في الغابات المطيرة، لكنها لم تنجح قط في إنبات زهرة واحدة من بذور برية. بدلا من ذلك، تُطعِّم أنسجة من نبتة مُصابة برافليسيا في نبات مُضيف آخر.
على مر السنين، أنتجت 16 زهرة من البرعم إلى الإزهار. ولكن حتى الآن، لم تتفتح الأزهار المذكرة والمؤنثة في الوقت نفسه، لذلك لم يحدث التلقيح بعد.
تقول مورسيداواتي "لو أن نباتات رافليسيا كانت كائنا ضخما كفيل أو حوت أزرق، لربما حظيت باهتمام عالمي وجهود مكثفة لحمايتها، لكنها رغم ندرتها الشديدة فإنها لا تزال تعاني من الإهمال إلى حد كبير، مما يجعلها أكثر عرضة للانقراض، ويهدد بخسارة كثير من أسرارها البيولوجية الغامضة التي لم تُكتشف بعد".