مقدمة عامة
منذ اندلاع النزاع المسلح في أبريل/نيسان 2023، شهد السودان تحولات عميقة أثرت على بنية دولته، ووظائف مؤسساته السيادية، وأنماط تفاعلاته مع البيئة الإقليمية والدولية. ولا يمكن فهم هذه التحولات بمعزل عن التفاعل المكثف بين الديناميات الداخلية – ولا سيما الصراع على السلطة داخل المؤسسة العسكرية – والتدخلات الخارجية، وعلى رأسها السياسة الأمريكية. وقد تعاملت واشنطن مع الأزمة السودانية كساحة لإعادة ترتيب الأولويات الأمنية والسياسية الأوسع نطاقاً في المنطقة.
يقدم هذا التقرير دراسة تحليلية معمقة لعملية إعادة تشكيل البنية السياسية والأمنية للسودان خلال الفترة 2023-2025. ويركز على المنطق الاستراتيجي الذي يقوم عليه سلوك الولايات المتحدة، وأدوات النفوذ المستخدمة، والآثار المترتبة على موازين القوى الداخلية، فضلاً عن احتمالات الاستقرار أو التفكك.
يعتمد التحليل على مراجعة منهجية للخطاب الرسمي الأمريكي (البيانات والبيانات الصحفية والإحاطات الإعلامية)، والتقارير الصادرة عن مؤسسات البحث الدولية والإقليمية، والتطورات التشريعية داخل الكونجرس الأمريكي المتعلقة بالسودان والحركات الإسلامية، وتقييمات الاستخبارات المتاحة للجمهور، وتتبع الإجراءات الدبلوماسية والقسرية على أرض الواقع.
ملخص تنفيذي
يقدم هذا التقرير تحليلاً استراتيجياً لمسار الأزمة السودانية خلال الفترة 2023-2025، مع التركيز على دوافع النهج الأمريكي ونتائجه. وتشير النتائج التحليلية إلى أن السياسة الأمريكية تجاوزت إدارة الأزمة لتشمل إعادة هندسة المشهد السياسي والأمني في السودان بشكل فعّال من خلال آليات ضغط مزدوجة: تشريعية/دبلوماسية من جهة، وغير مباشرة على مستوى الميدان من جهة أخرى. ويهدف هذا النهج في جوهره إلى تحييد مراكز القوى الأيديولوجية المرتبطة بالنظام السابق داخل المؤسسة العسكرية، وإعادة صياغة عقيدة الدولة الأمنية بما يتماشى مع الترتيبات الإقليمية الجديدة في البحر الأحمر والقرن الأفريقي.
ويخلص التقرير إلى أن هذه الفترة مثلت لحظة محورية في إعادة هيكلة الدولة السودانية، حيث حملت معها فرصاً لإعادة الإعمار ومخاطر عالية للانقسام والانهيار.
نظرة عامة وصفية – خريطة التفاعلات والمواقع
سياق الصراع الداخلي
شهد السودان تصعيداً حاداً في النزاع المسلح بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع. تجاوز هذا النزاع مجرد صراع على السلطة، ليعكس تناقضات هيكلية عميقة داخل الدولة تراكمت على مدى عقود من التسييس العسكري وتداخل الأيديولوجيا مع المؤسسة العسكرية. وقد أسفرت الحرب عن شلل شبه تام للمؤسسات الحكومية وتدهور غير مسبوق في الأوضاع الإنسانية والأمنية.
تشكيل الرؤية الأمريكية
تكشف التقارير والتحليلات الصادرة عن مؤسسات بحثية دولية أن الرؤية الأمريكية تبلورت حول قناعة راسخة بأن النفوذ المتجذر لتيارات الإسلام السياسي داخل الجيش السوداني يشكل عائقاً استراتيجياً أمام أي انتقال سياسي مستقر. ونتيجة لذلك، برز تباين واضح بين الخطاب الدبلوماسي العلني – الذي يركز على وقف إطلاق النار وحماية المدنيين – والممارسات السياسية الفعلية، التي تتسم بالانتقائية والبراغماتية.
برزت قوات الدعم السريع كفاعل محوري في معادلة الصراع، مما أدى إلى مفارقة ظاهرة في التعامل الدولي. فمن جهة، فُرضت عقوبات على بعض قادتها لارتكابهم انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان؛ ومن جهة أخرى، تشير التقييمات التحليلية إلى حسابات براغماتية تنظر إلى قوات الدعم السريع كأداة محتملة لإرساء توازن قوى ميداني في مواجهة النفوذ الإسلامي داخل الجيش النظامي.
تزامن هذا التوجه مع زخم تشريعي في الكونغرس الأمريكي لتفعيل أطر قانونية تصنف جماعة الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية. يوفر هذا التشريع أداة قانونية لمحاكمة واستبعاد الجهات الفاعلة المرتبطة بالنظام السابق. وتشير الأدلة المتاحة أيضاً إلى وجود قدر من التنسيق بين واشنطن وبعض الحلفاء الإقليميين بشأن ضرورة تحييد التيارات الإسلامية، مما ساهم في تهيئة بيئة إقليمية متقبلة لدور فعال لقوات الدعم السريع في ملفات أمنية محددة.
التحليل الاستراتيجي – تفكيك الهياكل التقليدية وإعادة الهيكلة
استراتيجية المسارين
تبنت واشنطن استراتيجية مبنية على مسارين متوازيين:
المسار الأول (الظاهري/الدبلوماسي):
يتضمن ذلك تدخلاً دبلوماسياً تقليدياً من خلال بيانات الإدانة، والدعوات إلى وقف إطلاق النار، وفرض عقوبات محددة على الأفراد والكيانات. والهدف منه هو إدارة التداعيات الإنسانية والحفاظ على صورة الالتزام بالقانون الدولي.
المسار الثاني (الاستراتيجي/إعادة الهندسة):
يتمحور هذا حول منع الجيش السوداني من تحقيق نصر عسكري حاسم طالما بقي خاضعاً لهيمنة النخب الأيديولوجية القديمة. وتشير التقييمات إلى أن واشنطن تسعى لاستغلال حالة الاستنزاف كأداة ضغط لإجبار الجيش على قبول تسوية تفاوضية تفضي إلى إصلاح أمني شامل.
يُنظر إلى الإصلاح الأمني، بما في ذلك دمج قوات الدعم السريع في هيكل أمني جديد، على أنه مدخل لتفكيك الشبكات الإسلامية داخل المؤسسة العسكرية. ولا يُفهم هذا الدمج على أنه عملية تقنية محايدة، بل كآلية لإعادة توزيع مراكز القوى وإعادة تعريف عقيدة الدولة القتالية والأمنية.
الإطار التشريعي والدولي الداعم
يتعزز هذا المسار بفعل النشاط التشريعي الأمريكي، وأبرزها مشاريع قوانين تستهدف جماعات إسلامية محددة لتصنيفها كمنظمات إرهابية أجنبية. ويهدف هذا الإطار إلى توفير غطاء قانوني دولي لاستبعاد القادة المصنفين من أي عملية سياسية مستقبلية، ولإعادة رسم حدود الشرعية السياسية في السودان.
الأهداف الاستراتيجية الأوسع
يمكن تلخيص الأهداف النهائية لهذا النهج في محورين رئيسيين:
أولاً: دمج السودان في بنية أمنية إقليمية جديدة – تضمينه ضمن ترتيبات الأمن في البحر الأحمر ومسارات التطبيع والتحالفات الغربية العربية، الأمر الذي يستلزم قيادة سياسية وأمنية براغماتية.
ثانياً: إعادة تعريف المشهد السياسي الداخلي – استخدام الأدوات القانونية والدبلوماسية لتهميش النخب المرتبطة بالماضي الأيديولوجي وتمهيد الطريق لإعادة تشكيل الطبقة الحاكمة.
التقييمات العامة والآثار المستقبلية
من المرجح أن تستمر الضغوط الدولية في فرض تسوية سياسية تستبعد التيارات الإسلامية من مركز صنع القرار. وستستمر هذه الجهود بالاعتماد على العقوبات والملاحقات القضائية وأدوات العزل الدبلوماسي.
في حال نجاح مشروع إعادة الهيكلة، ستشهد المؤسسة العسكرية تغييرات عميقة في هيكلها القيادي ومذهبها، بينما ستتم إعادة تعريف العلاقات الإقليمية للسودان على أسس جديدة، مما قد يتيح الاندماج المشروط في الأنظمة الإقليمية والدولية.
ومع ذلك، تنطوي هذه الاستراتيجية على مخاطر كبيرة، أبرزها ما يلي:
تفكك المؤسسة العسكرية، أو
إن انزلاق البلاد إلى فوضى أوسع نطاقاً إذا واجهت مقاومة داخلية قوية أو فشلت في تحقيق أدنى قدر من الإجماع الوطني.
تخلص هذه الدراسة إلى أن السودان، خلال الفترة 2023-2025، أصبح ساحة لإعادة تشكيل هيكله السياسي والأمني بشكل ممنهج، مدفوعًا باعتبارات إقليمية ودولية تتجاوز السياق السوداني البحت. وقد اتسم النهج الأمريكي ببراغماتية عالية، ساعيًا إلى تفكيك مراكز القوى الأيديولوجية داخل الدولة وربط مستقبل السودان بترتيبات أمنية إقليمية جديدة. ومع ذلك، ورغم تماسك هذا النهج الاستراتيجي الظاهر، فإنه ينطوي على مخاطر هيكلية جسيمة. فإعادة هندسة الدولة المدفوعة خارجيًا، والتي تُجرى دون توافق وطني واسع النطاق، قد تُنتج دولة هشة، أو سلطة تفتقر إلى الشرعية الاجتماعية، أو جيشًا مُشتتًا ممزقًا بالولاءات المتنافسة.
وهكذا، يبقى مستقبل السودان معلقاً بين مسارين متناقضين:
إعادة الإعمار المشروطة، بقيادة تسويات مفروضة من أعلى إلى أسفل، و
تفكك مطول، تغذيه المقاومة الداخلية والفشل في إدارة التنوع السياسي والاجتماعي للبلاد.
إن العامل الحاسم في ترجيح كفة أي من المسارين هو قدرة الجهات الفاعلة السودانية – المدنية والعسكرية على حد سواء – على استعادة عملية صنع القرار الوطني والانخراط بشكل نقدي في مشاريع إعادة التشكيل الخارجية، دون إنكار أهميتها أو تجاهل تأثيرها.
مصادر مرجعية
1/ وزارة الخزانة الأمريكية – العقوبات المفروضة على قادة قوات الدعم السريع (2023-2024).
2/ تقارير خدمة أبحاث الكونغرس (CRS) حول الصراع في السودان وتشريعات جماعة الإخوان المسلمين.
3/ تحليل السياسة الخارجية: “الدولة العميقة والصراع من أجل مستقبل السودان” – برقيات دبلوماسية مسربة عبر “متتبع الشفافية والسياسات في السودان”.
4/ وثائق المركز الأفريقي للتنمية المحلية.
المصدر: المركز الأفريقي للتنمية المحلية
قسم الدراسات الاستراتيجية والتحليل الجيوسياسي