آخر الأخبار

سلام النفط وحرب الوطن.. كيف نجت هجليج وليس الناس.!

شارك

كأنّ قدر هذه الأرض أن تُقاس قيمتها بما تختزنه تحت التراب لا بما يسقط فوقه من بشر. فلو كنّا آبار نفط أو حقول إنتاج، لكانت النخبة السياسية والعسكرية قد تعاملت مع حياتنا على نحوٍ مغاير. بهذه المفارقة القاسية عاد اسم «هجليج» إلى واجهة المشهد، مستدعياً «لعنة النفط» التي سبق أن أسهمت في انقسام السودان، ومؤكداً أن الصراع في البلاد ما زال يُدار بمنطق المصالح لا بمنطق الإنسان.

أعلنت قوات «تأسيس» سيطرتها على منطقة هجليج من دون مواجهات تُذكر، في وقت انسحبت فيه القوات المسلحة السودانية باتجاه دولة جنوب السودان، بعد أن كانت المنطقة تمثّل آخر نقاط وجود الجيش في ولاية غرب كردفان، عقب سقوط مدينة بابنوسة. غير أن هذا الانسحاب، وفق معطيات متطابقة، لم يكن نتيجة هزيمة ميدانية، بل جاء تنفيذاً لاتفاق ثلاثي جمع بين جوبا ونيالا وبورتسودان، رسم ترتيبات دقيقة بشأن السيطرة الأمنية على الحقول والمنشآت النفطية.

الاتفاق، الذي أُعلن عنه لاحقاً، منح جيش جنوب السودان المسؤولية الأمنية الأولى عن حقل هجليج، وهو ما تحقق فعلياً على الأرض بوصول قوات من جيش الدفاع الشعبي الجنوبي وإحكام سيطرتها على الحقل، الذي يُعد أكبر حقول النفط في السودان، والمنشأة الرئيسية لمعالجة صادرات نفط جنوب السودان، والمصدر شبه الوحيد لإيرادات حكومة جوبا.

وفي هذا السياق، كشف وزير الإعلام والاتصالات في جنوب السودان، أتينغ ويك أتينغ، عن التوصل إلى اتفاق «ثلاثي» بين حكومة بلاده وكل من رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو «حميدتي»، يقضي بتحييد منطقة هجليج ومنع أي مواجهات عسكرية فيها. وأوضح، في مقابلة مع «الجزيرة مباشر»، أن الاتفاق ينص على انسحاب القوات السودانية، وانتشار قوة من جيش جنوب السودان لتأمين آبار النفط، مع التزام الأطراف كافة بوقف القتال في المنطقة.

وأشار الوزير إلى أن الرئيس سلفاكير ميارديت أجرى اتصالات مباشرة مع طرفي النزاع، أفضت إلى توافق سياسي يمنح جوبا حق حماية المنشآت النفطية، مؤكداً أن هذه الاتصالات سبقت اندلاع التوترات الأخيرة.

غير أن هدوء هجليج، الذي فُرض بسطوة المصالح، أعاد إلى الواجهة سؤالاً أخلاقياً ملحاً: هل النفط أغلى من الدم؟ فالتجربة تثبت أن من ينجح في تسوية صراع معقد كصراع هجليج عبر التفاوض، كان بمقدوره أن يسلك النهج ذاته لإيقاف الحرب برمتها. لكن ما حدث أن البنادق أُطفئت فجأة هناك، لا خوفاً على البشر، بل خشية على النفط.

في هجليج، جرى كل شيء بهدوء ومن دون ضجيج إعلامي. صفقات تُبرم، ومصالح تُحمى، بينما تُترك الجثث في بقية البلاد بلا عدٍّ ولا اعتبار. وهو ما أسقط عملياً فرضية «حرب الكرامة»، حين تنازل الجيش بسهولة عن جزء من الأرض السودانية لتدار أمنياً بواسطة جيش دولة أخرى، في مفارقة تاريخية لمنطقة شهدت في وقت سابق مواجهات دامية بين الجيشين السوداني والجنوبي.

الأكثر تناقضاً أن التوغل الأخير لقوات الدعم السريع وتحالف «تأسيس» جاء في وقت كانت فيه هذه القوى تروّج لخطاب هدنة إنسانية «من أجل المدنيين». انتهت تلك الهدنة عملياً بتسليم أكبر حقل نفطي في البلاد لقوة أجنبية، بينما عاد طرفا الصراع لرفع شعارات الديمقراطية والكرامة والسيادة.

في هجليج، لم تشعر الآبار بالخوف، بل شعر به من يتصارعون على جثة وطن. حربهم هذه ليست حرب البسطاء، بل حرب حسابات براميل النفط، في تجاهلٍ فاضح لدماء لم تجف بعد. سرعة حسم ملف هجليج تقابلها سلسلة إخفاقات مدوية في إقرار أي هدنة إنسانية، رغم المطالبات المتكررة، ما يكشف بوضوح أن النفط أغلى من الدم السوداني.

قبل هجليج، كانت أمام المتحاربين فرص عديدة لإيقاف النزيف: في جدة، وأديس أبابا، والمنامة، وجنيف. وفي كل مرة، ينتهي الأمر إلى فشل جديد ومزيد من القتل والتشريد وانهيار المدن. ما جرى في هجليج كان يمكن أن يحدث في الفاشر، وقبلها في الخرطوم، وكان بالإمكان إنقاذ ما تبقى من البنية التحتية، لو كان دم السودانيين يساوي في ميزان الصراع قيمة النفط.

الواقع الميداني يؤكد هذه الحقيقة القاسية. فبينما أُنجز اتفاق هجليج بسرعة لافتة، تواصل قوات تحالف «تأسيس» تصعيد عملياتها في ولاية جنوب كردفان. فبعد استهداف مقر للأمم المتحدة في كادوقلي، ومقتل ستة من جنود حفظ السلام البنغلاديشيين، قصفت القوات نفسها مستشفى عسكرياً في مدينة الدلنج المحاصرة، ما أسفر عن مقتل سبعة مدنيين وإصابة آخرين، وفق مصادر طبية تحدثت لوكالة الصحافة الفرنسية. الضحايا، بحسب المصدر، كانوا من المرضى ومرافقيهم، في مستشفى يخدم المدنيين والعسكريين على حد سواء.

ذلك حدث لأن الدلنج لا تملك نفطاً، ولا تحتوي على حقول. دم المدنيين هناك بلا قيمة في بورصة الحرب، تماماً كما الدم النازف تحت براميل القصف الجوي. هكذا تتكرس المعادلة القاتلة: النفط يُنقذ المناطق والإنسان يُترك لمصيره ولعل الخلاصة الأكثر مرارة أن السودانيين، كي ينجوا من عبث المتحاربين، عليهم مجازاً أن يتحولوا إلى حقول بترول.

أفق جديد

الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا