محررو الراكوبة
تحت سماء الخرطوم الملبدة بدخان المدافع، وفي شوارع الجنينة التي تحولت إلى مقابر مفتوحة، لا يحترق السودان بالبارود فحسب؛ بل يحترق بفكرة. تلك الفكرة هي “أسطورة الاستقرار العسكري”؛ القناعة التي سُوّقت للسودانيين والعالم لعقود بأن البدلة العسكرية هي الحصن الوحيد ضد الفوضى. اليوم، وبعد أكثر من عام ونصف من حرب شرسة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، سقط القناع. الجنرالات الذين وعدوا بالأمن جلبوا الخراب، ومن ادعوا حماية الدولة حولوا عاصمتها إلى ساحة لمعركة شخصية على السلطة.
السؤال الذي يواجه المجتمع الدولي وصناع القرار السودانيين اليوم لم يعد عاطفياً ولا أيديولوجياً. إنه سؤال براغماتي بحت يتعلق بجدوى الدولة: هل يمكن لنظام عسكري أن يحكم دولة حديثة معقدة مثل السودان؟ التاريخ، والأرقام، والمنطق الاستراتيجي يقولون: لا. هذا التحقيق يتتبع جذور الانهيار، من شبكات الاقتصاد العسكري إلى خطاب “فشل المدنيين”، ثم إلى سؤال المصير: لماذا لا يمكن لأي طرف مسلح إنهاء الحرب، ولماذا يصبح الحكم المدني خيارًا وجوديًا وليس ترفًا سياسيًا؟
1. تشريح الفشل: متلازمة “الدولة البريتورية”
لفهم الكارثة الحالية، يجب النظر إلى ما هو أبعد من أحداث 15 أبريل 2023. السودان يعاني مما يسميه علماء السياسة “الدولة البريتورية”، حيث تهيمن المؤسسة العسكرية على القرار السياسي والاقتصادي.
السجل التاريخي للسودان منذ استقلاله عام 1956 يقدم دليلاً دامغاً على فشل هذا النموذج:
تصدير العنف للداخل: قضى السودان 55 عاماً من أصل 68 عاماً منذ الاستقلال تحت حكم عسكري. النتيجة؟ أطول حروب أهلية في أفريقيا.
حرب الجنوب الأولى (1955-1972) تغذت تحت حكم الجنرال عبود.
انفصال الجنوب (2011) كان النتيجة النهائية لعسكرة الدولة تحت حكم البشير.
الإبادة الجماعية في دارفور (2003) أدارتها عقلية أمنية استعانت بمليشيات خارج القانون.
المعادلة هنا خطية وواضحة: كلما توغلت المؤسسة العسكرية في السياسة، تحولت الخلافات السياسية من قاعات البرلمان إلى ساحات القتال. العسكريون لا يديرون التنوع؛ هم يقمعونه حتى ينفجر.
2. الاقتصاد السياسي للحرب: لماذا يخشى الجنرالات “دفاتر الحسابات”؟
أحد أخطر الأوهام هو أن الصراع الحالي هو صراع على “الكرامة الوطنية”. في العمق، هو صراع على الموارد. خلال سنوات حكم البشير وما تلاها، تحول الجيش والقوات الرديفة له إلى تكتلات اقتصادية ضخمة (Conglomerates).
اقتصاد الظل: تسيطر المنظومة الأمنية على قطاعات حيوية: تصدير الذهب، استيراد الوقود، وحتى اللحوم والاتصالات، خارج ولاية وزارة المالية.
سعر الفشل: في 1989 (عام انقلاب البشير)، كان الدولار يعادل 12 جنيهاً. اليوم، في ظل “اقتصاد الجنرالات”، فقدت العملة وظيفتها كمخزن للقيمة، وانهار النظام المصرفي الرسمي لصالح “سماسرة الحرب”.
الحكم المدني يشكل تهديداً وجودياً لهذا النموذج. الحكومة المدنية تعني “الولاية العامة على المال”، وتعني الشفافية الضريبية، وتفكيك الاحتكارات الرمادية. الحرب، بهذا المعنى، هي محاولة يائسة لحماية هذه الامتيازات الاقتصادية من رقابة الدولة الحديثة.
3. المؤسسة العسكرية في خطر: إنقاذ الجيش من قادته
يجب التمييز بوضوح بين “الجيش” كمؤسسة وطنية ضرورية، وبين “الجنرالات” كطبقة حاكمة. المفارقة التي يغفل عنها الكثيرون هي أن الحكم المدني هو السبيل الوحيد لإنقاذ الجيش السوداني من التفكك.
عندما يحكم الجيش:
تتآكل المهنية: يصبح الولاء للقائد أهم من الكفاءة القتالية.
تتعدد الجيوش: لضمان البقاء، يخلق القادة مليشيات موازية (مثل الدعم السريع سابقاً) لحماية النظام، والتي تنقلب لاحقاً على صانعها.
النموذج العالمي واضح: الجيوش الأكثر قوة واحترافية في العالم (من الولايات المتحدة إلى الهند) هي التي تخضع لسيطرة مدنية صارمة. الحكم المدني يعيد الجيش إلى الثكنات للتدريب والتطوير، بدلاً من استنزافه في إدارة البلديات ومطاردة المتظاهرين.
4. تفنيد سردية “الفشل المدني”: ماذا تقول الأرقام؟
يروج أنصار الحكم العسكري لسردية أن الفترة الانتقالية (حكومة حمدوك) كانت فاشلة. لكن الحقائق الاقتصادية والدبلوماسية تروي قصة مختلفة تماماً. في أقل من عامين من الإدارة المدنية (2019-2021)، ورغم التخريب المتعمد من المكون العسكري:
العزلة الدولية: شُطب اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، مما فتح الباب لتدفقات مالية دولية.
الديون: وصل السودان إلى “نقطة القرار” في مبادرة (HIPC)، مما مهد لإعفاء ديون بقيمة 50 مليار دولار – وهي فرصة ضاعت مع انقلاب 25 أكتوبر.
الاستقرار النقدي: بدأت الحكومة في توحيد سعر الصرف ومحاصرة السوق السوداء عبر سياسات نقدية علمية، لا عبر المداهمات الأمنية.
لم يفشل المدنيون؛ بل تم إفشالهم بقوة السلاح لأن نجاحهم كان سيعني نهاية اقتصاد الظل العسكري.
5. الطريق الوحيد: الواقعية السياسية لا المثالية الرومانسية
الدعوة للحكم المدني في السودان ليست ترفاً ليبرالياً مستورداً من الغرب، وليست مجرد شعار لشباب الشوارع. إنها الحل “الواقعي” الوحيد لإنهاء الحرب بشكل مستدام.
تجارب الانتقال الناجحة، من كوريا الجنوبية إلى الأرجنتين، تثبت قاعدة ذهبية: الدول لا تزدهر إلا عندما يغادر الجنرالات القصور الرئاسية.
في الأرجنتين، لم ينتهِ مسلسل الانقلابات والانهيار الاقتصادي إلا بعد محاكمة الطغمة العسكرية في الثمانينيات وترسيخ حكم مدني.
في السودان، أي اتفاق سلام يبقي على هيمنة الجنرالات (سواء البرهان أو حميدتي) لن يكون سوى “هدنة تكتيكية” لإعادة التسلح لجولة قادمة.
الخلاصة: العالم والمجتمع الإقليمي مطالبون اليوم بتغيير العدسة التي ينظرون بها للسودان. الرهان على “الرجل القوي” أثبت فشله الكارثي. الاستقرار لن يصنعه جنرال يحمل بندقية، بل يصنعه مؤسسات (برلمان، قضاء، بنك مركزي مستقل) تملك الشرعية الشعبية والدستورية.
الانتقال المدني هو الممر الإجباري لإنقاذ ما تبقى من الدولة السودانية. بدونه، سيظل السودان يدور في حلقة مفرغة من الدم، وسيبقى رهينة لمعادلة صفريةو جنرالات يزدادون ثراءً، ووطن يزداد اشتعالاً.
المصدر:
الراكوبة