يرى بعضهم أن التحوط المستقبلي بالنسبة إلى السودان أصبح ضرورة وجودية، تبدأ بإعادة التموضع السياسي والفني في إدارة الملف، وتمتد إلى صياغة استراتيجية وطنية للمياه تتجاوز الاعتماد على الإخطار الإثيوبي، وتؤسس لمنظومة مستقلة للإنذار المبكر ونماذج تشغيلية مبنية على السيناريوهات المختلفة لملء وتصريف السدود والخزانات.
في غير وقتها المعتاد وبمستوى فوق العادة، داهمت الفيضانات السودان هذا الموسم في وقت متأخر عن ميعادها السنوي الراتب، وبصورة مباغتة ومعدلات أشد شراسة عما عهدتها البلاد في تجاربها مع الفيضانات والسيول المتكررة كل عام، بمعدلات فيضان لم تحدث خلال الأعوام الأخيرة، لتضيف إلى كوارث الأوبئة والمضاعفات الصحية في ظل الحرب التي تعصف بالبلاد منذ أكثر من عامين.
فما السبب وراء تحولات هذا العام؟ وكيف يكون الوضع مستقبلاً عقب اكتمال سد النهضة ، وفي ظل التحولات المناخية وما تبعها من تحولات في السلوك الهيدرولوجي لأنهار السودان، بخاصة النيل الأزرق المنحدر من بحيرة تانا في الهضبة الإثيوبية؟
وما هي الأخطار التي يتوقع أن تواجه الخزانات والسدود السودانية مستقبلاً، بخاصة سد الروصيرص الأقرب إلى الحدود الإثيوبية وسد النهضة؟
على رغم التحذيرات والتنويهات والإنذار الأحمر الذي أطلقته وزارة الري والموارد المائية السودانية للقاطنين على ضفاف الأنهار باتخاذ ما يلزم لحماية ممتلكاتهم وأرواحهم، فإن مياه الفيضانات اجتاحت بسرعة كبيرة مساحات واسعة من الأراضي الزراعية والمناطق السكنية في كثير من ولايات الشريط النيلي المجاورة للنيل ورافديه الرئيسين النيلين الأزرق والأبيض.
واجتاحت مياه الفيضان مناطق عدة في شمال ولاية الخرطوم وجنوبها، فضلاً عن جزيرة توتي ومنطقة المقرن وسط العاصمة السودانية، وغمرت المياه الأراضي الزراعية والمزارع في المناطق المنخفضة، وحاصرت المياه كثيراً من الأحياء والمنازل والمزارع المجاورة للأنهار، مما اضطر السلطات إلى تنفيذ عمليات إجلاء لعدد من الأسر المعرضة للخطر، ووجدت عشرات الأسر نفسها في العراء من دون أن تتوافر لهم بدائل للإيواء.
وفي ولاية الجزيرة غمر فيضان مياه نهر النيل الأزرق المزارع في مناطق ديم المشايخة وأم دلكة وقندال جنوب الولاية، وهي معظمها مناطق محاصيل خضرية وبساتين فاكهة وحمضيات، وأتلف كثير من المحاصيل والمزارع.
وفي ولاية نهر النيل، غمرت المياه مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، كما جرفت أجزاء من الطريق القومي بين منطقتي نوا ودنقلا، كما هددت المياه جزر بدين ومروي وتوتي بالغرق بعدما حاصرتها المياه.
وفي النيل الأبيض وقفت اللجنة العليا لطوارئ الخريف على المعالجات العاجلة التي تمت عند الجسور النيلية الواقية في منطقة الجزيرة أبا بمراجعة ممرات المياه على طول الجسر الواقي في المنطقة.
حاصرت المياه كثيراً من الأحياء والمنازل والمزارع المجاورة للأنهار (اندبندنت عربية – حسن حامد)
وفي ولاية سنار، اجتاحت مياه النيل الأزرق قرى محلية سنجة، وأتلفت محاصيل رئيسة في المناطق المطلة على النهر، إضافة إلى التسبب بأضرار كبيرة بالأراضي الزراعية في مدينتي قيسان والدمازين وخسائر كبيرة ضمن قرى عدة في منطقة الرايات بالمحلية، وتأثر أكثر من 600 منزل في سبع مدن وقرى.
كما شهد إقليم النيل الأزرق ارتفاعاً مفاجئاً في منسوب النيل الأزرق تخطى فيه وارد المياه بخزان الروصيرص حاجز 750 مليون متر مكعب في اليوم الواحد، مما أدى إلى تضرر عدد من المناطق الزراعية والسكنية.
وكانت وزارة الزراعة والري أطلقت إنذاراً أحمر لست ولايات مهددة بالفيضان شملت ولايات الشريط النيلي الست (الخرطوم والنيل الأزرق وسنار ونهر النيل والنيل الأبيض والشمالية) مع تحديد محطات حرجة في كل من الخرطوم وشندي وعطبرة وبربر وجبل أولياء.
ومع توقعاتها الأسبوع الماضي باستمرار ارتفاع مناسيب المياه في جميع ضفاف النيل، أشارت الوزارة إلى انخفاض في إيراد النيل الأزرق من المياه إلى 633 مليون متر مكعب، تبعه انخفاض التصريف بخزان الروصيرص إلى 540 مليون متر مكعب، وفي الوقت نفسه ارتفع تصريف خزان سنار إلى 706 ملايين متر مكعب، بينما تخطى تصريف سد مروي بالولاية الشمالية 750 مليون متر مكعب، وتجاوز تصريف خزان جبل أولياء على النيل الأبيض 134 مليون متر مكعب.
ومطلع هذا الأسبوع جددت وزارة الزراعة والري عبر نشرتها اليومية التحذير من احتمال تعرض مناطق عدة على ضفاف النيل لأخطار الفيضان، بعد تسجيل ارتفاع قياسي في تصريف سد جبل أولياء بلغ 173 مليون متر مكعب، فضلاً عن استمرار المناسيب العالية في بعض ولايات الشمال والوسط، مشيرة إلى أن محطة الخرطوم لا تزال في حد أدنى من منسوب الفيضان، في حين تشهد ولايتا نهر النيل والشمالية استقراراً على المنسوب العالي يتوقع أن يعقبه انحسار تدريجي خلال الأيام المقبلة.
وضمن بيان لها، أشارت وزارة الزراعة والري السودانية إلى أن اكتمال التخزين في بحيرة سد النهضة الإثيوبي وبدء تصريف المياه منها منذ الـ 10 من سبتمبر (أيلول) الماضي، بمتوسط 750 مليون متر مكعب يومياً، أسهما في رفع مناسيب المياه في البلاد بصورة ملحوظة.
ولفت بيان الوزارة إلى أن “التصريفات في موسم الفيضان كانت في السابق تصل إلى قيم أكبر من ذلك، غير أن توقيتها هذه المرة كان له تأثير كبير في الأنماط الهيدروجينية للمناسيب”.
كمية المياه الواصلة إلى خزان الروصيرص من سد النهضة بلغت 750 مليون متر مكعب في اليوم الواحد (اندبندنت عربية – حسن حامد)
كما أشار البيان إلى أن “تجاوز معدلات الأمطار في الهضبة الإثيوبية للمتوسط هذا الموسم، تزامن مع زيادة غير مسبوقة منذ عام 2020 في إيراد النيل الأبيض، إضافة إلى الارتفاع الملحوظ في وارد نهر عطبرة، ضمن انعكاسات التغيرات المناخية بالمنطقة”.
واتهمت وزارة الري المصرية “سد النهضة” بالتسبب في الفيضانات الكارثية التي تضرب مناطق مختلفة في السودان، نتيجة غياب التنسيق بخصوص تشغيل السد وتصرف إثيوبيا بصورة أحادية منفردة على رغم التحذيرات المتكررة من دولتي المصب.
وعلى رغم تلك الإشارات والاتهامات بتسبب سد النهضة في فيضانات السودان، فإن وزارة الري الإثيوبية نفت ذلك في بيان صدر منتصف هذا الأسبوع، مشيرة إلى أنه وعلى العكس من ذلك، فإن سد النهضة ساعد في التقليل من ذروة الفيضان والأضرار التي كان سيسببها في ممتلكات وحياة المجتمعات التي تقيم على ضفاف النيل الأزرق.
في السياق يرى المتخصص في مجال الري والمياه، المدير السابق للخزانات في وزارة الري والموارد المائية السودانية المهندس أحمد الصديق أن فيضان هذا العام ليس فيضاناً طبيعياً بقدر ما هو فيضان مصنوع من قبل المسؤولين عن تشغيل سد النهضة، بحيث ملئت بحيرة السد في أول سبتمبر الماضي بغرض الاحتفال بإكمال أعمال الإنشاء، لكن عقب الانتهاء من الاحتفالات كانت بحيرة السد ممتلئة عند المنسوب الأعلى وفي الوقت نفسه كان الإيراد الواصل إلى السد من المياه عالياً بسبب الأمطار الغزيرة هذا العام في إثيوبيا.
لذلك بحسب الصديق، كان لا بد من تمرير كل هذا الإيراد الكبير من المياه، إضافة إلى السحب من مياه البحيرة حتى ينخفض المنسوب لكي لا تشكل المياه خطراً على جسم سد النهضة.
ويتابع أن “حجم المياه الواصل إلى خزان الروصيرص من سد النهضة بلغ 750 مليون متر مكعب في اليوم الواحد، كان معظمها من مخزون بحيرة سد النهضة، حيث كان الوارد إلى السد من مياه الأمطار 350 مليون متر مكعب فقط، أما الـ400 مليون متر مكعب الباقية التي وصلت إلى الروصيرص فكانت مسحوبة من المياه المخزونة ببحيرة سد النهضة، لذلك من الواضح أن فيضان هذا العام مفتعل وليس فيضاناً طبيعياً ناتجاً من غزارة هطول الأمطار في الهضبة الإثيوبية”.
وفي رأي الصديق، تفادياً لوقوع ما حدث كان ينبغي أن تُملأ بحيرة سد النهضة في أكتوبر (تشرين الأول)، إذ تقل وقتها الأمطار في إثيوبيا، بالتالي ينخفض إيراد المياه الواصل إلى بحيرة السد، وبذلك تكون كمية المياه الواصلة لخزان الروصيرص في حدود 350 إلى 400 مليون متر مكعب يومياً، وأكد أنه “لم تكن تحدث فيضانات في السودان نهاية سبتمبر، بل عادة ما تحدث خلال الأسابيع الأخيرة من أغسطس (آب) لغاية الأسبوع الأول من سبتمبر في كل عام”.
أما حول أثر التحولات المناخية في المستقبل فضلاً عن اكتمال سد النهضة وتشغيله”، فيشير الصديق إلى أن هناك تأثيراً مباشراً لذلك في برامج تشغيل خزانات وسدود السودان، وقد تحتاج البلاد إلى تغيير برامج ملء وتفريغ خزاناته من ناحية التوقيت الزمني.
ويوكد أن كل السدود والخزانات السودانية مستعدة للقيام بدورها تماماً، لكن بشرط أن تتوافر المعلومات والبيانات حول كميات المياه الخارجة من سد النهضة وتلك الواصلة إلى خزان الروصيرص، حتى يتم تشغيل الخزان على النحو الأمثل ويتمكن السودان بالتالي من تشغيل بقية الخزانات.
شهد إقليم النيل الأزرق ارتفاعاً مفاجئاً في منسوب النيل الأزرق (اندبندنت عربية – حسن حامد)
واكتملت المرحلة الثانية من قيام خزان الروصيرص عام 1966، وبدأ معها العمل في تركيب توريبنات مائية في محطة التوليد لتسهم في تغذية شبكة الكهرباء القومية في السودان.
وفي أبريل (نيسان) عام 2008، شرعت الحكومة السودانية في تنفيذ مشروع تعلية سد الروصيرص وتشييد امتداد جديد للسد القديم بطول نحو 25 كيلومتراً، مع تعلية ارتفاع جسمه إلى 10 أمتار إضافية، مما وضعه ضمن قائمة أطول السدود الكهرومائية للري وتوليد الطاقة الكهربائية المائية.
ورفعت التعلية السعة التخزينية للسد من 3 إلى 7.4 مليار متر مكعب كما زادت طاقة التوليد الكهربائي بنسبة 50 في المئة لتصل إلى 1800 ميغاواط، بغرض توفير مياه الري بصورة دائمة للمشاريع الزراعية المروية القائمة على النيل الأزرق وزيادة الأراضي الزراعية، مستدامة الري بنحو مليوني فدان.
على الصعيد ذاته، يقول كبير المفاوضين عن الجانب السوداني في مفاوضات سد النهضة المهندس مصطفى حسين إن “الفيضانات أصلاً لا تأتي بوتيرة واحدة، إذ يمكن توقع الزيادة والنقصان فيها، كما أن التحولات المناخية لا تأتي بصورة مباغتة، إذ يمكن مع تطور أساليب التنبؤ قراءة التوقعات وهو علم متكامل يمكن من خلاله استنباط تقديرات مستوى موسم الأمطار (الخريف) علواً وهبوطاً”.
وشدد حسين على أنه نسبة إلى صغر حجم بحيرة خزان الروصيرص مقارنة ببحيرة سد النهضة، فلا بد من تبادل المعلومات بصورة دورية ومستمرة، مما يسهل عملية تشغيل السدود بصورة آمنة.
على نحو متصل أوضح المحلل السياسي إبراهيم شقلاوي أن تجربة الفيضانات الحالية أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن نهر النيل الأزرق لم يعد نهراً طبيعياً يمكن التنبؤ بسلوكه، وأنه أصبح تحت سيطرة دولة المنبع التي تتصرف بصورة أحادية من دون اعتبار مصالح جيرانها أو الأخطار البيئية والإنسانية المترتبة على ذلك.
وتساءل شقلاوي “هل يمكن للسودان أن يبني أمنه القومي على افتراض حسن النية فقط؟”، مشيراً إلى أن الإجابة المؤلمة عن هذا التساؤل جاءت على شكل قرى غمرتها المياه ومزارع دمرتها الفيضانات ومحطات خرجت عن الخدمة، لافتاً إلى ضرورة التعامل مع ما حدث كإنذار استراتيجي يجب الاستفادة منه بتوازن المصلحة الاستراتيجية مع الجانب الإثيوبي والسياسية مع الشركاء الآخرين.
ويرى شقلاوي أن التحوط المستقبلي بالنسبة إلى السودان أصبح ضرورة وجودية، تبدأ بإعادة التموضع السياسي والفني في إدارة الملف، وتمتد إلى صياغة استراتيجية وطنية للمياه تتجاوز الاعتماد على الإخطار الإثيوبي، وتؤسس لمنظومة مستقلة للإنذار المبكر ونماذج تشغيلية مبنية على السيناريوهات المختلفة لملء وتصريف السدود والخزانات.
ويشهد السودان سنوياً فيضانات موسمية نتيجة هطول الأمطار الغزيرة وارتفاع مناسيب النيل وروافده، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى خسائر في الأرواح والممتلكات، بخاصة ضمن المناطق المنخفضة أو ذات البنية التحتية الهشة.
اندبندنت عربية