آخر الأخبار

الساحل.. مركز الإرهاب العالمي الجديد يختبر خيارات واشنطن

شارك

واشنطن – في خضم التحولات المتسارعة التي تشهدها خارطة التهديدات الأمنية على المستوى العالمي، تتجه الأنظار اليوم إلى منطقة الساحل الأفريقي، التي أصبحت تمثل، بحسب توصيف مسؤولين عسكريين أميركيين، مركز الإرهاب العالمي الجديد.

وباتت المنطقة، الممتدة من موريتانيا إلى تشاد، والتي تشمل دولا مثل مالي، بوركينا فاسو، والنيجر، بيئة خصبة لتنامي الجماعات المتطرفة، وتراجع سلطة الدولة، في ظل انسحاب تدريجي للقوى الغربية وصعود نفوذ موسكو.

وعلى مدى العقد الماضي، مثّلت منطقة الساحل واحدة من أكثر المناطق هشاشة في القارة الأفريقية. فغياب التنمية المستدامة، وتراجع دور الدولة، وانتشار الفقر، وغياب الفرص الاقتصادية، شكلت أرضية ملائمة لتغلغل الجماعات الجهادية العابرة للحدود، والتي استفادت بدورها من سقوط ليبيا وتفكك أجهزة الدولة فيها عام 2011.

وأنتج هذا الانهيار حركة نشطة للمرتزقة والأسلحة باتجاه الجنوب، وهو ما غذّى التمرّدات المحلية، خصوصا في شمال مالي، حيث شكل الطوارق الحاضنة الأولى لتلك الجماعات قبل أن تفترق المسارات بين الحركات الانفصالية والعناصر الجهادية المرتبطة بتنظيمي القاعدة وداعش.

وفي هذه البيئة، برزت ثغرات قاتلة في الاستجابة الدولية. فرنسا، التي قادت عبر عملية “برخان” مجهودا عسكريا ضخما لمكافحة الإرهاب في الساحل، واجهت فشلا مركبا في بناء شراكات محلية فعالة، وفي الحد من تغلغل الفكر المتطرف في المجتمعات الهشة.

ومع تصاعد الشعور بالعداء تجاه الوجود الفرنسي، سواء من قبل المجتمعات المحلية أو بعض النخب السياسية، بدا أن النفوذ الغربي في الساحل يمرّ بمرحلة انحسار عميق. وازداد المشهد تعقيدا مع تصاعد موجة الانقلابات في المنطقة منذ عام 2020، والتي أفرزت أنظمة عسكرية في كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر. وقد استثمرت هذه الأنظمة في خطاب سيادي مناهض للغرب، وقدّمت نفسها بوصفها تعبيرا عن تطلعات “الكرامة الوطنية” و”التحرر من الوصاية”.

معادلة معقدة

في المقابل، فتحت هذه الأنظمة قنوات واسعة للتعاون مع روسيا، عبر شركات أمنية مثل فاغنر، مستفيدة من المرونة الروسية، التي لا تشترط احترام حقوق الإنسان أو إجراء إصلاحات سياسية، مقابل الدعم العسكري والسياسي.

وفي هذا السياق المتفجر، تجد الولايات المتحدة نفسها أمام معادلة معقدة للغاية. من جهة، لا تستطيع تجاهل تصاعد التهديدات الإرهابية في الساحل، والتي تصفها قيادات البنتاغون بأنها “أخطر من أي وقت مضى”. ومن جهة أخرى، فإن القيود القانونية الأميركية الصارمة تحظر تقديم المساعدات العسكرية لمعظم الحكومات التي أتت عبر انقلابات، كما تمنع تقديم الدعم للوحدات الأمنية المتورطة في انتهاكات جسيمة.

ويرى الباحث ليام كار في تقرير نشرته مجلة ناشونال أنتريست أن هذا التناقض بين الضرورات الأمنية والقيود القانونية يضع واشنطن أمام مأزق إستراتيجي. وبينما تنشط روسيا بلا قيود قانونية في المنطقة، وتستثمر في علاقات غير شفافة مع النخب العسكرية، تضطر واشنطن إلى التحرك في هوامش ضيقة. وحتى عندما ترغب في تقديم مساعدات غير قاتلة أو دعم تقني، فإنها تصطدم بعقبات إجرائية وتشريعية، تجعل من استجابتها متأخرة، وأحيانا مشوشة.

ومع ذلك، لا تزال أمام الولايات المتحدة خيارات متعددة، إنْ أحسنت قراءتها وتوظيفها في الوقت المناسب. فبوسع واشنطن، مثلا، أن تكثف تعاونها مع الدول الساحلية المستقرة، كتوغو وبنين وساحل العاج، والتي أبدت رغبة صريحة في تعزيز التعاون الأمني مع الولايات المتحدة.

وتشكل هذه الدول اليوم خطوط الدفاع الأولى ضد تمدد الإرهاب جنوبا. ويمكن دعمها من خلال آليات مثل “قانون الهشاشة العالمية” الذي يموّل مشاريع تنموية وأمنية للوقاية من النزاعات.

كما يمكن للولايات المتحدة استخدام أدوات الضغط الإيجابي لتشجيع السلطات العسكرية في دول الساحل على الدخول في مسارات انتقال سياسي واقعي، غير دعائي، يفتح الباب أمام تحسين سجل حقوق الإنسان وعودة النظام المدني بشكل تدريجي. وهذا النوع من التحفيز المشروط، وإن كان يتطلب صبرا دبلوماسيا، إلا أنه قد يوفر الغطاء القانوني لتقديم مساعدات أوسع تحت مبررات الاستقرار ودرء الخطر الإرهابي المشترك.

وخيار آخر متاح أمام واشنطن يتمثل في تفعيل النفوذ الاقتصادي الأميركي. فالاستثمار في مشاريع البنية التحتية، والموانئ، وقطاعي الطاقة والتعدين، قد يخلق شراكات مربحة للطرفين، ويعيد التوازن في لعبة النفوذ التي باتت تميل لصالح روسيا والصين.

وعلى سبيل المثال، يمتلك ميناء لومي في توغو إمكانات ضخمة لأن يصبح مركزا لوجستيا إقليميا، وقد أبدت شركات أميركية اهتماما باستثماره. لكن في حال استمرت الولايات المتحدة في التباطؤ، أو أخفقت في تطوير مقاربة مرنة، فإن التبعات قد تكون باهظة.

فالسيناريو الأول الذي قد يتحقق في حال غياب التدخل الأميركي الفاعل، هو تشكّل محور روسي دائم في قلب القارة، يتجاوز الدعم الأمني إلى النفوذ السياسي، ويمتد من مالي إلى النيجر، وصولا إلى الحدود مع دول خليج غينيا. وقد يتطور هذا النفوذ ليشمل موطئ قدم عسكري روسي دائم على المحيط الأطلسي، ما يهدد أمن الملاحة البحرية، ويضع روسيا في تماس مباشر مع المصالح الأوروبية والأميركية.

سيناريوهات

أما السيناريو الثاني، فهو تفكك تدريجي لمنظومة الدول في الساحل، وتحولها إلى مساحات شاغرة تسيطر عليها جماعات مسلحة، تقيم مناطق حكم ذاتي بحكم الأمر الواقع، وتحوّل المنطقة إلى أفغانستان جديدة، لكن في خاصرة أوروبا الجنوبية.

وفي مثل هذا السياق، تصبح المنطقة مصدرا لتصدير المقاتلين، والمخدرات، والأسلحة، والهجرة غير النظامية، ما يشكل تهديدا مباشرا للأمن الأوروبي والدولي. والسيناريو الثالث، وهو أقل دراماتيكية لكنه خطير إستراتيجيا، يتمثل في تآكل صورة الولايات المتحدة كشريك موثوق.

وإذا ما بدا أن واشنطن عاجزة عن تقديم بدائل حقيقية، فإن ذلك سيفتح الباب أمام خصومها لترسيخ سردياتهم في المجتمعات المحلية، التي بدأت تتفاعل أصلا مع الخطاب المعادي للغرب، الذي يروجه الإعلام المدعوم من موسكو. فروسيا، بحضورها الإعلامي، وبشراكاتها المرنة، تروج لصورة “الشريك الذي لا يتدخل”، في مقابل صورة “الغرب الاستعماري المشروط”، وهي سردية تلقى صدى متزايدا بين فئات من المجتمعات الأفريقية.

والأخطر من كل ذلك، أن خصوم الولايات المتحدة قد يستغلون الفوضى في الساحل لتطوير أدوات هجينة للضغط على الغرب، مثل توظيف الهجرة كسلاح سياسي، أو استخدام المرتزقة لزعزعة استقرار دول الجوار، أو حتى تهديد الممرات البحرية عبر تحالفات غير رسمية مع شبكات تهريب السلاح والبشر.

ووسط هذا المشهد بالغ التعقيد، تبدو الحاجة ملحة إلى تحرك أميركي يعيد ضبط المقاربة، ويوازن بين القيم والمصالح. فبدلا من المقاربة الثنائية التي تضع واشنطن بين خيارين لا ثالث لهما: إما الانخراط الكامل أو الانسحاب الكامل، يمكن تبني مقاربة هجينة، تستند إلى الدبلوماسية الناعمة، والتعاون الاستخباراتي، والمساعدات التنموية، والشراكات الاقتصادية، دون التورط في دعم مباشر لأنظمة فاقدة للشرعية.

وفي نهاية المطاف، فإن ما يجري في الساحل لا يعكس فقط صراعا على النفوذ بين روسيا والولايات المتحدة، بل هو اختبار لقدرة النظام الدولي القائم على التعامل مع مناطق الانهيار، قبل أن تتحول إلى مصدر تهديد شامل. وهو أيضا اختبار حقيقي لقدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على دورها العالمي، لا من خلال السلاح وحده، بل عبر بناء شراكات طويلة الأمد تقوم على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل.

ولم تعد القارة الأفريقية، وفي القلب منها منطقة الساحل، ساحة هامشية كما كانت في الماضي. بل أضحت اليوم ميدانا متكاملا للصراع الدولي، حيث تُصاغ تحالفات جديدة، وتُعاد فيه كتابة خرائط النفوذ. وفي هذا الميدان، لن يكون للمترددين موطئ قدم طويل الأمد، مهما كانت نواياهم نبيلة أو خطابهم مثاليا.

العرب

الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا