جريمة مقتل الطبيبة السودانية، روعة علاء الدين أمام بوابة المستشفى الذي تعمل فيه ليست حدثًا معزولًا، بل يُعتبر جزءاً من سياق متكرر، تتغير فيه الأسماء، لكن يتطابق فيه ذات النمط؛ عنف يبدأ من داخل البيت، يباركه صمت المجتمع، وتحرسه ثقافة تعفي الجاني وتدين الضحية.
روعة، لم تُقتل فقط بسكين في يد طليقها، بل اغتيلت بالتواطؤ الصامت لمؤسسة كانت تعمل فيها، عندما تجاهلت بلاغاتها السابقة المتصلة بالعنف الذي تتعرض له، وحين قررت طردها من السكن بدلًا من طرد التهديد. جُرّدت من الأمان مرتين، الأولى حين لم تجد من يصدقها، والثانية حين أصبحت ضحية مطاردة انتهت بطعنات أمام زملائها.
ما حدث لروعة، حدث قبلها لرؤى، الطبيبة السودانية التي قُتلت مغتربة في السعودية، على يد زوجها السابق، داخل منزل العائلة، عندما اقتحم القاتل البيت بـ”ساطور”، وأغلق الباب على جريمة استغرقت دقائق فقط، لكنها تلخّص سنوات من الصمت والعنف المتراكم.
وكأنما الاغتراب لا يكفي، فجدران البيت في المهجر لم تحمِ الضحية من أن تتكرر مرة أخرى.
وفي السودان، آية الخواض لم تُقتل، لكنها نجت بأعجوبة، اختارت أن تكسر حاجز الصمت، وخرجت لتحكي قصتها، لا طلبًا للتعاطف، بل لتحذير كل النساء الأخريات.
زوجها السابق، كما روت، انهال عليها بالضرب، ثم طاردها في البيت بسكين بنيّة قتلها. لم تنجُ منه إلا عندما أغلقت الغرفة واتصلت بالإسعاف، بينما كان هو يحاول كسر الباب لقتلها.
أُنقذت آية. كانت بين الحياة والموت، نُقلت بالإسعاف بعد أن استدعى الجيران الدفاع المدني. وُضع القاتل في السجن، لكن لستة أسابيع فقط، وكأن محاولة القتل جريمة مؤقتة.
آية، في شهادتها، لا تهاجم الرجال، بل تحذّر النساء من الوقوع في فخ “الصبر” على المعنف. تقول بوضوح “المجرم لا يُصبر عليه، مكانه السجن، وليس قلب امرأة.”
تختصر آية تجربتها برسالة واحدة “أي رجل يرفع عليكِ صوته، سيتطوّر لعنفٍ جسدي، ثم للقتل إن لم تتحركي من أول لحظة.”
ثقافة التبرير، بحسب الناشطة مريم حيدر، تشكل الحاضنة الأولى للعنف ضد النساء. تشير حيدر إلى أن التربية الخاطئة للذكور في المجتمع السوداني تُعزز فكرة الملكية الذكورية للمرأة، وتجعل من الزوج المعتدي شخصية “مسنودة” اجتماعيًا، مهما كانت جرائمه.
وتضيف مريم : “المجتمع لا يرى في المرأة المعنّفة ضحية، بل يحاسبها على خروجها من بيت زوجها، كأنما الطلاق خيانة جماعية، لا قرار حماية فردي.”
تقول مريم حيدر: في كل الحكايات، تتكرر مفردات واحدة: لوم الضحية، تبرير المعتدي، والخوف من الفضيحة. لكن الفضيحة الحقيقية هي أن تُقتل امرأة؛ لأن قانونًا لم يحمِها، أو لأن مؤسسة فضّلت صورتها على سلامتها. الفضيحة هي أن تصل الضحية للمشرحة قبل أن يُصدقها أحد.
الناشطة سندس أزهري تضيف بُعدًا تحليليًا لما يحدث، فتقول إن العنف لا يبدأ بالسكين، بل يبدأ برفع الصوت. بعدها تأتي الكلمة الخادشة، ثم “ضربة توعوية”، ثم الضرب الكامل، ثم القتل.
وتؤكد أن الغالبية العظمى من المعنّفين رجال متعلمون، ومثقفون. سافروا وعملوا، لكنهم يرفضون “رفض المرأة لعنفهم”. وتُحذر من أن المرأة حين تخرج من هذا النمط، وتبدأ في النجاح، يُقابل تمكينها بتشويه وتشكيك، وربما محاولة تدمير نهائي باسم “الرجولة”.
ورأى ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي أن المعنفات لا يُبلغن السلطات، ليس لأنهن خائفات، بل لأن أقرب الناس إليهن يطلبون منهن “الصبر” باسم الدين أو “السترة”، مضيفين أن العنف ضد النساء في السودان ليس مجرد ظاهرة، بل أزمة صامتة، مغلّفة بعادات، محروسة بتقاليد، ومشرعنة بالسكوت.
قضية الطبيبة روعة علاء الدين أصبحت قضية رأي عام، حيث اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بعشرات الوسوم، إلى جانب حملات إلكترونية تطالب بتعديل القوانين وحماية النساء من العنف المنزلي، ومحاسبة كل من أهمل، أو تستر على الخطر.
وفي ظل تصاعد الغضب الشعبي، برزت مجموعة من الوسوم النشطة التي شكّلت امتدادًا رقميًا لصوت النساء الرافضات للعنف، ودعوات العدالة لضحاياه.
جاءت الوسوم كنداء جماعي ضد مسلسل الانتهاكات المستمرة، بينما حمل وسم “علمتني_آية” شهادة شخصية وملهمة للناجية آية الخواض، التي قررت تحويل تجربتها المؤلمة إلى منصة توعوية لمناصرة ضحايا العنف الأسري.
هذه الوسوم لم تكن مجرد شعارات، بل تحولت إلى ساحات رقمية نشطة، يتداول فيها المستخدمون قصصًا، ومطالبات بتشديد العقوبات، ومواقف تضامنية واسعة، مما يعكس تحول القضية من حالة فردية إلى حراك اجتماعي واسع يطالب بحماية النساء ورفض ثقافة الإفلات من العقاب.
أكد المحامي ياسر الريح في حديثه لـ«التغيير» أن القانون الجنائي ليس متساهلًا تجاه جرائم قتل النساء أو الاعتداء عليهن، مشيرًا إلى أن العقوبات تتضاعف في حال تكرار المخالفات.
وأوضح أن النيابة العامة والشرطة تتوليان التحقيق في هذه القضايا، إلا أن بعض حالات الإفلات من العقاب قد تعود إلى ظروف السيولة الأمنية في البلاد.
وأضاف الريح أن التهديد يعاقب عليه بموجب مواد الإرهاب في القانون الجنائي، بينما أي اعتداء جسدي على الزوجة يُعامل بوصفه أذى، يبدأ بفتح بلاغ عادي وإجراء الفحص الطبي عبر “أورنيك 8″، ليُصعَّد بعد ذلك بحسب درجة الإصابة إلى بلاغ أذى جسيم أو جراح أو شجاج، ولكل منها عقوبتها المقررة في القانون، سواء كان المعتدي الزوج أو الزوجة.
من جهتها قالت الاختصاصية الاجتماعية، سِينين صلاح، لـ«التغيير» إن العنف الأسري يرتبط بجملة من العوامل المتشابكة، في مقدمتها التجارب المبكرة التي يمر بها الأفراد في طفولتهم، إذ إن من نشأ في بيئة يسودها العنف يكون أكثر عرضة لإعادة إنتاجه لاحقًا.
وأضافت أن الغيرة والشك داخل العلاقة الزوجية قد يشكّلان بدورهما دوافع قوية لاندلاع العنف داخل الأسرة.
وأوضحت سينين أن الاضطرابات النفسية تعد من أبرز المسببات، مثل الاكتئاب والاضطراب الوجداني ثنائي القطب أو اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، مؤكدة أن هذه الحالات تحتاج إلى تدخلات علاجية متخصصة، غير أن بعضها قد يصعب علاجه، ما يجعل العنف انعكاسًا لعوامل نفسية واجتماعية معقدة.ولفتت الخبيرة الاجتماعية إلى التأثيرات الثقافية والاجتماعية، حيث تسهم بعض الممارسات السائدة في ترسيخ التمييز بين الجنسين وتكريس العنف ضد المرأة، إلى جانب الضغوط الاجتماعية التي تدفع الضحايا إلى الصمت والخوف من طلب المساعدة.
أما على الصعيد القانوني، فقد شددت المختصة على أن غياب الردع أو التساهل في العقوبات يساهم في إعادة إنتاج الظاهرة، إذ يكتسب الجناة إحساسًا بالإفلات من المحاسبة، ما يجعلهم أكثر عدائية وتكرارًا للأفعال.
وأضافت أن القوانين تختلف من بلد إلى آخر، لكن هناك ثوابت ينبغي الاتفاق عليها في الجرائم المتعلقة بالعنف الأسري والجنسي، في مقدمتها تشديد العقوبات لتكون رادعة، وتقديم الدعم للضحايا، ونشر الوعي عبر برامج تعليمية وتثقيفية للحد من الظاهرة، إضافة إلى توفير العلاج النفسي للجناة بما قد يساعد على تغيير سلوكياتهم وتقليل خطر العنف مستقبلاً.
وختمت سينين صلاح بالقول إن التعامل مع هذه القضايا يتطلب نهجًا شاملًا يأخذ في الاعتبار الأبعاد النفسية والاجتماعية والقانونية معًا، مشيرة إلى أن أي مقاربة جزئية لن تكون كافية لمعالجة جذور الظاهرة.
وفي سياق تفسير السلوك العنيف لدى بعض الرجال، تشير د. رشا درويش، مدربة الحياة ومؤسسة أكاديمية للأمومة والطفولة”، إلى أن أسباب العنف الذكوري، خصوصًا داخل الأسرة، تعود إلى ثلاثة محاور جوهرية؛ التربية التقليدية، والشعور بالاستحقاق الزائف، وغياب الوعي الديني الحقيقي.
وتوضح درويش أن التربية السائدة في كثير من المجتمعات العربية تحرم الذكور من أبسط حقوقهم الإنسانية، وعلى رأسها تعلم الذكاء العاطفي والتعبير عن المشاعر. فالرجل، بحسب حديثها، منذ الطفولة، يُربّى على كبت مشاعره، واعتبار الغضب وسيلته الوحيدة للتعبير، دون أن يُعلَّم كيف يدير هذا الغضب، أو يفرغه بطريقة صحية. هذا الكبت، كما تقول، يتحوّل لاحقًا إلى عنف غير مبرر تجاه من حوله، يبدأ نفسيًا وينتهي أحيانًا بإزهاق الأرواح.
أما العنصر الثاني، فهو الاستحقاق الزائف، حيث يتربى بعض الرجال على قناعة أنهم “كفاية فقط لكونهم رجالًا”، دون حاجة إلى تطوير الذات أو الاجتهاد في تحسين العلاقات. هذا المفهوم، كما تقول، يحرِم الرجل من متعة السعي نحو الأفضل، ويجعل أي اعتراض أو مطالبة من الشريكة بحقوقها يُقابل بالرفض والصراع، لأنه يهدد صورة “الرجل الكامل” التي زرعها فيه المجتمع.
وتضيف درويش أن غياب الوعي الديني الحقيقي يشكل ثالث العناصر المؤدية إلى العنف، موضحة أن الدين، في جوهره، يهذّب السلوك ويزرع الرحمة. وتستدل بآيات قرآنية وأحاديث نبوية تكرّس معاني الرفق، والعدل، وحسن العشرة. لكنها تنتقد بشدة التوظيف الانتقائي للنصوص الدينية، وغياب التطبيق الحقيقي لما جاء به الإسلام من رحمة وتكريم للمرأة.
وتتشير إلى أن الرجل الحقيقي هو من يدرك عظم مسؤوليته، ويعرف كيف يكون سكنًا لا تهديدًا، ورحمة لا أذى”، داعيةً لإعادة بناء المفاهيم التربوية والدينية التي تشكّل وعي الرجل من الطفولة وحتى الزواج.
التغيير