ربما ينتهج “داعش” استراتيجية التموضع المتدرج والمستهدف قبل أية مواجهة مباشرة، مع التركيز على تعزيز شبكاته اللوجستية وتجنيد العناصر الجديدة، مستفيداً من الأزمة السودانية والفوضى وعلاقات الدعم غير المباشرة.
يقف السودان اليوم عند مفترق يزداد خطورة، بتقاطع خطوط الصراع الداخلي مع تيارات النشاط الإرهابي العابر للحدود، ويتحول شغور السلطة إلى فراغ جاذب للفاعلين المسلحين من شتى المشارب. في هذا السياق الملبد بركام الحرب، برزت دعوة “داعش” عبر صحيفة التنظيم “النبأ” إلى ما سماه “الجهاد في السودان”، في إطار خطاب أيديولوجي يعيد تدوير سردياته التقليدية حول “الأمة” و”إزالة حدود الجاهلية”، ليوظفها هذه المرة في مسرح دموي تتداخل فيه الطموحات المحلية مع المشاريع الأيديولوجية.
من منظور التنظيم، النزاع السوداني ليس صراعاً على السلطة فحسب بين الجيش بقيادة عبدالفتاح البرهان وقوات “ الدعم السريع ” بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، بل هو، في خطابه، تجسيد لصراع أوسع بين ما يراه “حقاً” في صفه، و”باطلاً” لدى الآخرين. هذا التوصيف يسقط عن طرفي النزاع أية شرعية دينية أو سياسية في نظره، ويفتح الباب أمام تصوير السودان كأرض ينبغي أن يفد إليها أعضاء التنظيم من دول الجوار، في تكرار لنمط تمدده في مناطق الهشاشة الأمنية كسيناء وليبيا ومنطقة الساحل.
وتكشف هذه الدعوة عن محاولة الاستثمار في هشاشة السودان الراهنة، حيث تتداخل أزمات الحكم، وانهيار مؤسسات الدولة، وتآكل الاقتصاد، مع الجغرافيا الواسعة التي تسمح بمرور السلاح والمقاتلين عبر حدود رخوة. وهي عناصر تشكل البنية التحتية للنزاعات الممتدة، وتوفر بيئة مثالية لتحويل الموارد، سواء كانت طبيعية أم بشرية، إلى وقود للحرب. وفي ضوء ذلك، فإن هذا التحرك لا يمثل انعطافة مفاجئة بقدر ما يعكس قدرة التنظيم على إعادة التموضع كلما انكشفت أمامه فرصة استراتيجية في منطقة متروكة للتصدعات الداخلية.
هكذا، فإن “السودان المنسي” دولياً ليس غائباً عن خريطة أولويات التنظيمات الإرهابية، بل ربما يكون على أعتاب تحول إلى بؤرة جديدة في رقعة الصراعات الممتدة من الساحل الأفريقي إلى الشرق الأوسط، حيث لا تحدد الخرائط الرسمية مسار الحروب، بقدر ما ترسمه خطوط الانهيار السياسي والاقتصادي والتشظي الاجتماعي.
وبالنظر إلى الوراء قليلاً، يمكن إدراك أن تنظيم “داعش” لا يقف منفرداً في مسرح استغلال الفوضى. فالمنافس التاريخي، تنظيم “القاعدة”، حاول هو الآخر أن يمد جذوره في التربة السودانية، مستعيداً شيئاً من حضوره القديم الذي تأصل منذ أن اتخذ من الخرطوم ملاذاً في تسعينيات القرن الماضي.
وفي عام 2022، صدر كتاب نسب إلى أبي حذيفة السوداني، أحد القيادات البارزة في تنظيم “القاعدة”، متضمناً دعوات صريحة للتحريض على تنفيذ عمليات إرهابية، وحث على إنشاء كيانات موالية للتنظيم داخل السودان، دعا فيه إلى “الجهاد”، حاثاً على توحيد الجهود في السودان، ومقدماً ما وصفه بالدليل العملي لتأسيس جماعة موحدة على أرضه.
وعلى رغم أن هذه الدعوة لم تترجم، إلى تحركات مسلحة واسعة، إلا أن نمط عمل “القاعدة” بطبيعته أكثر سرية مقارنة بـ”داعش”، مما يفتح الباب أمام فرضية وجود خلايا نائمة أو شبكات غير مرصودة تعمل في الخفاء، ومن المؤشرات المثيرة أن بعض الإسلاميين “المتشددين” يقاتلون بالفعل إلى جانب القوات المسلحة السودانية، ضمن تشكيلات مثل “كتيبة البراء بن مالك” ومجموعات أخرى تحت مظلة “المقاومة الشعبية”. كما أن موجات الهرب من السجون منذ بداية النزاع أطلقت سراح “متشددين”، بعضهم ارتبط في السابق بـ”القاعدة”، مما يعزز احتمالات إعادة تشكل البنية القتالية لهذه التيارات.
وعلى امتداد العقدين الماضيين، وثقت أنشطة “القاعدة” في السودان عبر محطات متفرقة، من خلية سلامة عام 2007 إلى خلية محمية الدندر عام 2012، مروراً بظهور تنظيمات محلية مرتبطة مثل “أنصار التوحيد” و”القاعدة في بلاد النيلين”. هذا الإرث التنظيمي يمنح “القاعدة” معرفة دقيقة بالجغرافيا السودانية وبنية المجتمع المحلي، وهي ميزة استراتيجية إذا ما قررت تفعيل عملياتها.
في المقابل، يحتفظ “داعش” ببنية شبكية قائمة ونشطة داخل السودان، أكثر علنية وأسرع في التحرك من “القاعدة”، مما يجعل التنافس بين التنظيمين في السودان امتداد لصراع النفوذ بينهما في مناطق أخرى. ومع اتساع أمد الحرب الأهلية وتدهورها إلى مستويات أعمق من الفوضى والفظائع، تتزايد احتمالات أن يجد الطرفان فرصاً أكبر للانغراس في المشهد السوداني، إما عبر التسلل إلى خطوط القتال القائمة، أم عبر بناء مسارات موازية تكرس نشاطاً إرهابياً طويل الأمد.
بدأ حضور “داعش” في قلب الفوضى التي تعصف بالسودان، منذ عام 2019، بعدما كان بعض أعضائه من المقاتلين السودانيين يشكلون أحد أعمدة قوته في ليبيا خلال ذروة تمدده عام 2016، وعلى رغم محاولات السلطات السودانية تفكيك هذه الشبكة عبر حملات مداهمة واعتقالات متفرقة، كما جرى في سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول) 2021، فإن البنية الأساسية للتنظيم داخل البلاد ظلت متماسكة، وإن بدت خاملة عسكرياً، إذ تحولت إلى مركز تمويل وشراء وتوفير الدعم اللوجستي لفروع أخرى في القارة.
قدرت تقارير صادرة عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2023 عدد عناصر الشبكة بين 100 و200 فرد، تحت قيادة أبوبكر العراقي، الذي تربطه قرابة دم بالزعيم السابق أبو بكر البغدادي. وقد وصفت هذه الشبكة بأنها “قاعدة لوجستية ومالية” تتوزع أنشطتها بين السودان وتركيا، وتستثمر أرباح شركاتها في دعم عمليات التنظيم في غرب أفريقيا والساحل. ويستند هذا النشاط إلى استقطاب عناصر جديدة، خصوصاً من الشباب المتأثر بانهيار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، مع تحريض مستمر على تنفيذ عمليات داخل السودان، بعضها أحبط كما حدث في الخرطوم عام 2021.
على هذا الأساس، أطلق زعيم التنظيم الحالي، أبو حفص الهاشمي القرشي، ما سماه “استراتيجية الأرض السوداء”، الهادفة إلى جعل أفريقيا محور العمليات في عام 2025، وأسند قيادة الملف السوداني إلى أبو بكر العراقي، الذي نجح في إرساء نواة تنظيمية جديدة. ويأتي السودان في هذه الرؤية كـ”حلقة وصل استراتيجية” تربط بين أفرع التنظيم في الصومال ووسط أفريقيا ومنطقة الساحل، في إطار مشروع أكبر لإنشاء ما يمكن تسميته “الدائرة الداعشية الأفريقية”.
إلى جانب ذلك، ينظر التنظيم إلى السودان كمنصة للتقرب من البحر الأحمر ومضيق باب المندب، في ظل انحسار نفوذه في اليمن والصومال، مما يجعله تهديداً مباشراً للملاحة الدولية. هذا التمدد لا يهدد السودان وحده، بل يمتد خطره إلى دول الجوار، حيث يسعى التنظيم إلى تنفيذ عمليات عابرة للحدود تستهدف إعادة تشكيل الخريطة الأمنية في الإقليم.
من منظور القوى الكبرى، ترى الولايات المتحدة، التي تحرص على حماية حرية الملاحة البحرية وتأمين تحالفاتها في شرق أفريقيا، في أي تمدد لـ”داعش” تهديداً مباشراً للممرات البحرية ولإمدادات الطاقة العالمية. وبالنسبة إلى الصين، التي استثمرت بصورة واسعة في موانئ البحر الأحمر والبنية التحتية في شرق أفريقيا، فإن نمو نفوذ “داعش” يمثل مخاطرة على مشاريعها الاقتصادية، ويهدد استقرار السواحل التي تهم خطوط التجارة الصينية عبر المحيط الهندي. أما روسيا، فتراقب توسع التنظيم كتهديد محتمل لمصالحها في المنطقة، لكنها قد تسعى أيضاً إلى استغلال الفوضى لتوسيع نفوذها الأمني والاقتصادي عبر تحالفات إقليمية.
في المقابل، فإن دول المنطقة معنية، بحماية السواحل وحدود البحر الأحمر، لمنع امتداد الإرهاب، وبالتالي أي نجاح جزئي لـ”داعش” في السودان سيؤدي إلى تنسيق استخباري ودعم عسكري محتمل لدول الجوار، بما يشمل السودان نفسه، لضمان عدم تحوله إلى قاعدة إقليمية للتنظيم.
من الناحية التنظيمية، فإن “داعش” يعتمد على نموذج شبكي مرن، يجمع بين الخلايا الصغيرة المتفرقة والقيادة المركزية في الخارج، مما يسمح له بالتحرك بسرعة وتجنب الضربات المباشرة من السلطات المحلية والدولية، ويبدو أن التنظيم اتخذ من مقاتليه السودانيين نواة أولية لدعم “ولاية الصومال” وخلق روابط مع أفرع التنظيم الأخرى في القارة، مع الاحتفاظ بمرونة تسمح له بتطوير هيكل إداري ولوجستي خاص به، يتراوح بين نموذج ولاية تقليدي وشبكة متداخلة جديدة.
واقتصادياً، يعتمد التنظيم على مصادر تمويل متنوعة، تتراوح بين التحصيل المحلي والتمويل العابر للحدود، مع استخدام السودان كحلقة وصل للمبادلات المالية بين أفرع التنظيم المختلفة. وفي ما يخص هيكله، يبدو أن التنظيم يتبنى نهجاً مزدوجاً، من جهة، قد يعيد استخدام تصنيف “ولاية” كما هو في الصومال، لتسهيل الربط بين أفرع التنظيم. ومن جهة أخرى، هناك احتمال أن يبتدع صورة جديدة أكثر مرونة وتكيفاً، بما يسمح له بالتوسع تدريجاً من دون التعرض لمواجهات مباشرة مع القوات الحكومية.
يمكن تصور تطورات نشاط “داعش” في السودان من خلال سيناريوهات عدة متوقعة، كل منها ينبع من معطيات الواقع السياسي والأمني والاقتصادي للبلاد، ومدى قدرة التنظيم على استغلال الثغرات القائمة.
السيناريو الأول يتمثل في تموضع محدود ومحلي للتنظيم، إذ يقتصر نشاط “داعش” على خلايا صغيرة داخل المدن والمناطق الريفية، مع التركيز على التجنيد والدعم اللوجستي والتخطيط لعمليات محدودة. هذا السيناريو محتمل على نحو كبير، بالنظر إلى قدرة القوى الإقليمية على مراقبة وتعطيل العمليات الكبرى، فضلاً عن القيود التي تفرضها المنافسة مع تنظيمات أخرى مثل “القاعدة” والجماعات المسلحة المحلية، التي تحد من توسع “داعش” المفتوح.
السيناريو الثاني يتمثل في توسع تدريجي نحو مناطق النزاع المفتوحة، بحيث يتمكن التنظيم من إنشاء قواعد لوجستية في مناطق مثل دارفور وكردفان، وربطها بممرات عبور نحو الصومال ومنطقة الساحل. هذا السيناريو يحتمل الحدوث بدرجة متوسطة، إذ يعتمد على استمرار الفوضى الأمنية وغياب التنسيق الكافي بين السلطات السودانية والدول المجاورة، مما يتيح للتنظيم استغلال الأرض الفارغة لتثبيت وجوده.
أما السيناريو الثالث، وهو الأقل احتمالاً لكنه الأكثر خطورة، يتمثل في اندلاع مواجهة مسلحة مفتوحة بين “داعش” والجيش السوداني، تهدف إلى السيطرة على مناطق استراتيجية وربط النفوذ بسواحل للبحر الأحمر، على رغم أنه ممكن من الناحية النظرية، إلا أن قدرات التنظيم العسكرية الحالية في السودان محدودة نسبياً مقارنة بالقوات المحلية، مما يجعل هذا السيناريو صعب التحقيق في المستقبل القريب.
بناء على ذلك، يمكن استنتاج أن “داعش” سينتهج استراتيجية التموضع المتدرج والمستهدف قبل أية مواجهة مباشرة، مع التركيز على تعزيز شبكاته اللوجستية وتجنيد العناصر الجديدة، مستفيداً من الأزمة السودانية والفوضى وعلاقات الدعم غير المباشرة، بما يتيح له خلق موطئ قدم يمكن تطويره مستقبلاً في حال تغيرت المعادلات الإقليمية.
اندبندنت عربية