ما يزال الغموض يحيط بمصير قائد كتيبة “البراء بن مالك” الإخوانية المصباح أبو زيد طلحة، المساندة للجيش السوداني، عقب اعتقاله أول من أمس من مقرّ إقامته بمدينة الإسكندرية في مصر، وسط صمت رسمي مصري وسوداني زاد من تعقيد المشهد، وأثار تساؤلات بشأن خلفيات هذا التحرك الأمني المفاجئ.
وفق مصادر متطابقة نقل عنها موقع (سودان تربيون)، اقتيد المصباح من شقته بمنطقة العجمي صباحًا من قِبل قوة أمنية مجهولة الهوية، دون تقديم توضيحات لأسرته، في ظل أنباء عن اتصالات مكثفة من قيادات بمجلس السيادة السوداني مع مسؤولين مصريين للوقوف على ملابسات التوقيف.
المصباح الذي يُعدّ أحد أبرز رموز التيار الإسلامي المسلح في السودان، كان قد وصل إلى القاهرة قبل نحو شهر بدعوى الاستشفاء ومقابلة أسرته، لكنّه ـ بحسب مصادر مطلعة ـ شارك في لقاءات دينية وسياسية غير مُصرّح بها، وهو ما اعتُبر خرقًا لشروط الإقامة في مصر، التي تمنع ممارسة أيّ نشاط سياسي أو ديني دون إذن مسبق.
ووفق صحيفة (العرب) اللندنية، فإنّ مراقبين يرون أنّ اعتقال المصباح ليس واقعة أمنية معزولة، بل يعكس رسالة مصرية مباشرة ترفض تضخم دور التيارات الإسلامية المسلحة في المشهد السوداني، خصوصًا تلك التي تحاول الانتقال من السلك العسكري إلى النشاط المدني، كما أعلنت كتيبة “البراء” أخيرًا.
ويُعتقد أنّ القاهرة تنظر بعين القلق إلى محاولات هذه الميليشيا المحسوبة على الإخوان لعب أدوار سياسية في مرحلة ما بعد الحرب، بعد أن دعمت الجيش السوداني في السيطرة على العاصمة الخرطوم. ويُنظر إلى هذا التمدد على أنّه محاولة للالتفاف على المؤسسة العسكرية وإعادة تدوير مشروع الإسلاميين في السودان، وهو ما يتعارض مع الخط الأحمر المصري التاريخي تجاه جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها.
وفي السياق قال الكاتب والمحلل السياسي عمار نجم الدين: إنّ حادثة اعتقال قائد مجموعة “البراء بن مالك”، المصباح، في القاهرة، لم تعد مجرد واقعة أمنية عابرة، بل تحوّلت إلى مؤشر خطير على تصدع التحالفات داخل معسكر الإسلاميين الداعمين للبرهان في بورتسودان.
وأضاف نجم الدين، في مقالة نشرها عبر صحيفة (إدراك) السودانية، أنّ “المشهد في معسكر بورتسودان يكشف عن اقتراب ساعة الانفجار الداخلي”، مشيرًا إلى أنّ صمت المجلس السيادي وعدم تحرك السفارة السودانية في مصر، رغم اللقاء الذي جمع المصباح بالسفير عدوي قبل توقيفه، يطرح تساؤلات حول وجود توافق ضمني على “التضحية بالمصباح”.
ولفت إلى شهادة عيان تحدثت عن تورّط سيارة دبلوماسية سودانية في مرافقة عملية الاعتقال، وهو ما يعزز فرضية وجود تنسيق داخلي سوداني رسمي مع الأمن المصري لإغلاق ملف المصباح.
وأكد نجم الدين أنّ هذا التطور “يتقاطع تمامًا” مع تحذيرات سابقة نُسبت إلى مستشار البرهان، علاء الدين، الذي طالب قيادات إسلامية سودانية في مصر بخفض نشاطها، وإلا فإنّ الرد سيكون أمنيًا، وهو ما يتحقق الآن.
واعتبر أنّ ما يجري يعيد إلى الأذهان مشهد “ليلة السكاكين الطويلة”، حين قامت قوى إسلامية بالتخلص من رفاقها، كما حدث في صراعات سابقة داخل النظام السوداني بين البشير وعلي عثمان، أو مع حسن الترابي.
ويخلص نجم الدين إلى أنّ البرهان بات مطاردًا بشبح المصباح وجنوده، الذين لم يعودوا مجرد قوة هامشية، بل قد يتحوّلون إلى “الأداة التي تكتب نهاية سلطته بالنار والدم، إن واصل السير في هذا المسار الانتحاري”، على حدّ قوله.
واختتم مقالته بتحذير قيادات التيار الإسلامي من أنّ “التصفية الناعمة بدأت، وساعة الحسم تقترب، وأنّ النظام المترنح في بورتسودان يفرغ بيته من الداخل قبل أن تلتهمه حرب أوسع، لن تُبقي ولن تذر”.
وبدوره قال المحلل السياسي السوداني عادل سيد أحمد: إنّ قائد ما يُسمّى “فيلق البراء بن مالك” يتستر خلف هذه الميليشيا، وهو محسوب على الحزب الحاكم سابقًا، وإخوان السودان، وقد تعاملت مصر مع هذا الوضع بفهم إنساني، واعتادت على فتح أراضيها لكل السودانيين، وبالتالي يجب أن يكون هناك التزام من قبلهم تجاه الدولة المضيفة.
وأكد في تصريح لـ (العرب) اللندنية أنّ تحركات فيلق البراء غير مرغوب فيها من جانب مصر والكثير من السودانيين وقوى إقليمية ودولية عدة، وعندما زار مدينة الإسكندرية ذهب إليها “بفهم السياسي والمجاهد، واستعمل مفردات الحرب، بينما موقف مصر الرسمي هو وقف الحرب سريعًا، والحفاظ على وحدة السودان ومؤسساته الراسخة.”
وأوضح أنّ المكوّن العسكري الميليشياوي الحزبي ليس على وفاق مع قادة الجيش، حيث يطلق هذا المكون شعارات تعبوية تشير إلى وجود انقسام في صفوف المؤسسة العسكرية، وهناك تحفظات مصرية معلنة على أيّ دور لجماعات عقائدية، مثل البراء، وقرأت ذلك مبكرًا، وترى وجودهًا معيقًا للدول، ممّا جعلها تتعامل بحسم دائمًا.
ويؤكد مراقبون أنّ استمرار الضغط على كتيبة “البراء”، والقوى الإسلامية المتحالفة مع الجيش، قد يُفضي إلى تفكك المؤسسة العسكرية من الداخل، في وقت ما تزال فيه المعارك مشتعلة في دارفور وكردفان.
وكانت كتيبة البراء قد أعلنت في تموز (يوليو) الماضي تخليها عن العمل العسكري والتحول إلى النشاط المدني والخدمي، بعد أن لعبت دورًا مهمًّا مع قوات الجيش في عملية السيطرة على العاصمة الخرطوم.
ونشرت حسابات سودانية تصريحات لقائد كتيبة البراء وقتها (المصباح أبو زيد) بالتحول من العمل المسلح إلى القطاع المدني، وتكوين غطاء يُسمّى هيئة الإسناد المدني (سند)، في وقت ما تزال فيه قوات الجيش تخوض معارك طاحنة في دارفور وكردفان.
ووفق موقع (الراكوبة) فقد جاءت خطوة التحول بعد (9) أيام من قرار قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان، في 18 تموز (يوليو) الماضي، الخاص بتفريغ الخرطوم من الكيانات المسلحة في غضون أسبوعين، وفُهم القرار أنّه استهداف لكتيبة البراء، التي بدت كأنّها جيش داخل الجيش.
ويُعدّ المصباح من أبرز القادة العسكريين التابعين للإخوان المسلمين، ويمتلك تاريخًا طويلًا في قيادة مجموعات عقائدية منذ عهد الرئيس السابق عمر البشير، وتُتهم كتيبته بلعب دور في تأجيج الصراع في السودان وتقويض أيّ توافق مدني.
وهذه ليست المرة الأولى التي يُحتجز فيها المصباح خلال وجوده خارج السودان. ففي حزيران (يونيو) الماضي اعتقلته السلطات السعودية أثناء أدائه العمرة، قبل أن يتم ترحيله بهدوء، بعد مزاولته أنشطة دينية وسياسية اعتُبرت مخالفة.
في ظل تصاعد الضغوط الدولية والإقليمية لوقف الحرب في السودان، تبرز قضية المصباح كأحد فصول الصراع المعقد بين الجيش وحلفائه جماعة الإخوان المسلمين، وبين القوى الإقليمية الرافضة لعودتهم.
وقد تكون هذه الحادثة بداية سلسلة من “الرسائل الصامتة” التي ستوجهها مصر وسواها لكل من يحاول إحياء مشروع “التمكين” الإخواني عبر بوابة دعم الجيش.